عناصر الخطبة
- فضل الصدقة
- عدم نقصان المال بالتصدق
- مفهوم الصدقة
- الصدقة دليل على الإيمان
- استخلاف الإنسان على مال الله
- أجر الصدقة
- آثار الصدقة
اقتباس وبهذا يتبين أن فضل الصدقة عظيم، وثوابها عند الله جسيم، فينبغي لك أن تحرص على الإكثار منها؛ طلباً لمرضاة الله عز وجل، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وسعياً لِسَدِّ حاجة إخوانك المسلمين من الفقراء واليتامى والأرامل والمساكين، ثم هي سبب لحصول الخير والبركة لك في عمرك، ومالك، وذريتك، ووقتك؛ وسبب لدفع البلاء عنك في الدنيا والآخرة..
إن الحمد لله نحمدُه ونستعينُهُ ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلَّمَ تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾ [الأحزاب:70-71].
أما بعد: أيها الأخوة المؤمنون: اتقوا الله وراقبوه، راقبوه -سبحانه- في جميع أعمالكم وأقوالكم وأفعالكم، واجعلوا من أيام حياتكم فرصة للاستزادة من التقوى والعمل الصالح؛ لعلكم تفلحون. جعَلَني اللهُ وإياكم ممَّن إذا أُعْطِي شكر، وإذا أذنب استغفر، وإذا ابتلي صبر.
أيها الأخوة في الله: كان حديث الجمعة الماضية عن الزكاة الواجبة، وهي من الشعائر العظيمة، لكنها ليست السبيل الوحيد للتقرب إلى الله -عز وجل- ببذل المال، فهناك بعد الزكاة الواجبة صدقة التطوع بالمال والطعام واللباس والفراش والآلات وجميع المنافع، إنها سبب من أسباب القرب من الله تعالى ودخول الجنة، وهي لا تُنقص مال المنفق، بل تزيده، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "ما نقصـت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله".
إنه لَمَكسب عظيم، وتجارة رابحة أن ينال المسلم الأجر العظيم بصدقة لا تُنقص ماله بل تزيده، وتُنزل البركة فيه، كما في الحديث السابق، وكما في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من يوم إلا وينزل ملكان فيقول أحدهما اللهم أعطي منفقاً خلفاً، ويقول الآخر اللهم أعطي ممسكاً تلفاً".
وفي شأن الصدقة والإنفاق وردت أحاديث كثيرة تبين أن الصدقة بأي لون من ألوان المال والمنافع هي باب من أعظم أبواب دخول الجنة.
فعن أبي كبشة الأنماري -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله بها عزا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر أو كلمة نحوها، وأحدثكم حديثاً فاحفظوه: إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه، ويصل رحمه، ويعمل لله فيه بحقه، فهذا بأفضل المنازل؛ وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان، فأجرهما سواء؛ وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما فهو يتخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعمل فيه بحق، فهذا بأخبث المنازل؛ وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان، فهو نيته ووزرهما سواء".
في هذا الحديث العظيم دلالة على أن نية المؤمن النية الصادقة أن ينفق في سبيل الله أو يعمل أي عمل من الأعمال الصالحة تبلغه منازل العاملين إذا كانت نيته صادقة، وليست مجرد أمنية كاذبة، كما هو حال بعض الأشقياء الذين يتمنون أن يرزقهم الله، ولو رزقهم لكفروا وبخلوا، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ(77)﴾ [التوبة:75-77].
أيها الأخوة المسلمون: مما يبين فضل الصدقة وثمارها الطيبة في الدنيا أن يجد المتصدق صدقته زكاء لماله، وطهارة له، ففي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال "بينا رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتا في سحابة: اَسْقِ حديقة فلان. فتنحَّى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة، فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبع الماء؛ فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله، ما اسمك؟ قال: فلان. للاسم الذي سمع في السحابة. فقال له: يا عبد الله! لِم تسألني عن اسمي؟ فقال: إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول اسق حديقة فلان لاسمك؛ فما تصنع فيها؟ قال أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثا، وأرد فيها ثلثه.
وهكذا بارك الله لهذا الرجل، ووسع عليه رزقه، وكفاه مؤنة زرعه، حتى وكّل ملكاً بالسحابة يقول لها: اسق حديقة فلان؛ يخصها دون غيرها! لذلك لا عجب أن نرى كثيراً من الناس الأغنياء والأثرياء الذين يصابون بالكوارث والمصائب والنكبات المالية والأزمات النفسية بسبب عدم إخراجهم للصدقات الواجبة عليهم، وشحهم وبخلهم من جهة، وعدم إنفاقهم وتطوعهم في سبيل الله -عز وجل-.
إن الصدقة -أيها الأخوة في الله- إن الصدقة بمفهومها الواسع، سواء كانت بمال أو طعام أو شراب أو لباس أو كساء أو دواء أو أي منفعة من المنافع، إنها نجاة للمؤمن من عذاب الله، كما في الحديث المتفق عليه.
عن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه تَرْجمان، فينظر أيمن منه، فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تِلقَاءَ وجهه، فاتقوا النار ولو بِشِقِّ تمرة". وفي الحديث الأخر قال -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر النساء تصدقن، فإني رأتكم أكثر أهل النار".
فبين -عليه الصلاة والسلام- أن الصدقة من أعظم أسباب الوقاية من النار حتى ولو كانت باليسير من الطعام والشراب، كما أن الصدقة دليل على صدق إيمان العبد، ولذلك جاء في الحديث "والصدقة برهان"؛ لأن النفس مجبولة على حب المال، فإذا تغلب العبد على نفسه وأنفق المال في سبيل الله كان ذلك برهاناً على أنه يقدم مرضاة الله ومحبوباته على محبوبات نفسه، ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر:9، التغابن:16].
وبهذا يتبين أن فضل الصدقة عظيم، وثوابها عند الله جسيم، فينبغي لك -أخي المؤمن- أن تحرص على الإكثار منها؛ طلباً لمرضاة الله -عز وجل-، واقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وسعياً لِسَدِّ حاجة إخوانك المسلمين من الفقراء واليتامى والأرامل والمساكين، ثم هي -بعد ذلك- سبب لحصول الخير والبركة لك في عمرك، ومالك، وذريتك، ووقتك؛ وسبب لدفع البلاء عنك في الدنيا والآخرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المزمل:20].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله مضاعف الحسنات، القائل سبحانه: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:261]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلَّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؛ وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذ عنهم شذ في النار.
أيها الأخوة المسلمون: إن المال الذي وهبه الله لنا ليس ملكا لنا، بل المال مال الله، وما العباد إلا مؤتمنون على إنفاقه، وذلك اختبار وامتحان، أنْ ننفقه فيما يحب ويرضى، فيكون لنا خير في الدنيا والآخرة، أم ننفقه في الوجوه المحرمة، والطرق التي لا نجني منها نفعا لا في دنيانا ولا آخرتنا، ويكون بذلك وبالا علينا، وشقاء في الدنيا والآخرة -عياذاً بالله-.
إن المسلم الحق يعلم أن لله في ماله حقاً، فيخرج زكاة ماله، ويتصدق بعد ذلك ليسد حاجات الفقراء والمحتاجين، ويواسي المنكوبين والمصابين، ويغيث الملهوفين؛ ألا يكفي المسلم حرصاً على الصدقة والإنفاق في وجوه الخير أن يعلم أن الصدقة مغفرة للذنوب، ومحق للسيئات، وزيادة وبركة للعمر؟ وأن البخل والشح إنما هو طاعة للشيطان وأتباعه؟ ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:268].
ألا يدفع المسلم للصدقة أن يعلم أن صدقته تدفع عنه المصائب، وتقيه مصارع السوء؟ جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر".
ألا فلنبادر -أيها الأخوة في الله- إلى إخراج الزكاة الواجبة، ونتبعها بصدقات التطوع، ولْيجتهد المسلم في أن تصل زكاة ماله وصدقته إلى من يستحقها، فيبحث عن المحتاجين من أقربائه ومعارفه وزملائه ممن تحل لهم الزكاة فيعطيهم إياها؛ لتكون صلة وصدقة، يتفقد جيرانه المحتاجين، وخصوصاً المتعففين الذين ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ [البقرة:273].
تصور -أيها الأخ المسلم- ما ستنال من أجر وثواب يوم تدخل السرور على أسرة منكوبة فتواسي آلامها، وتخفف متاعبها؛ كم سترفع لك من دعوة يوم تفرج كرب مكروب، وتدخل البهجة على قلب يتيم محروم!.
حقاً إن الصدقة متى ما وضعت في محلها الشرعي كان لها من الآثار الحسنة ما لا يخطر على البال، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا جميعاً من أهل المعروف في الدنيا والآخرة، وأن يبارك لنا في أعمارنا وذريتنا وأموالنا وأعمالنا، إنه على كل شيء قدير.
هذا وصَلُّوا وسلِّموا -رحمكم الله- على نبيكم محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.