عناصر الخطبة
- فضائل الصدق
- أهمية الصدق وعموم صوره ومجالاته
- ثمرات الصدق ورفعة منازل الصادقين
- الحث على التزام الصدق في الأقوال والأفعال.
اقتباس وَإِنَّ المُتَابِعَ لِمَا يُكتَبُ وَيُتَدَاوَلُ عَبْرَ الوَسَائِطِ لَيَرَى انطِبَاقَ هَذَا الحَدِيثِ عَلَى ذلِكَ رأي العَينِ، فَكَم مِن صَادِقٍ كَذَّبُوهُ وَظَلَمُوهُ! وَكَم مِن كَاذِبٍ صَدَّقُوهُ وَأَظهَرُوهُ! وَكَم مِن حَقَائِقَ قَلَبُوهَا وَغَيَّرُوهَا! وَكم من صَغَائِرَ كَبَّرُوهَا وَضَخَّمُوهَا! وَكَمْ مِنْ نَاصِحٍ اتَّهَمُوه، إذاعاتٌ وَقَنَوَاتٌ، وحِواراتٌ ونَدَواتٌ، وأخبارٌ وتَقَاريرُ، قَلَّبوا فيها الأُمورَ، ودَلَّسوا فيها على النَّاسِ! وَنَسُوا أنَّ الكَلِمَةَ أمَانَةٌ والقَلَمَ مَسْؤُولِيَّةٌ! أَلا فَاتَّقُوا اللهَ يا مُسلِمُونَ، وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ، اُصدُقُوا اللهَ يَصدُقْكُم، اُصدُقُوا مَعَ أَنفُسِكُم وَإِخوَانِكُم..
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ، المَلِكِ الحَقِّ المُبِينِ، أَمَرَ بِالصِّدقِ وَرَفَعَ الصَّادِقِينَ، يُحبُّ المُخلِصِينَ الصَّادِقِينَ، وَيكرَهُ المُنَافِقِينَ والمُخَادِعِينَ، نَشهدُ ألَّا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شَرِيكَ له القَوِيُّ المَتِينُ، ونَشهدُ أنَّ نَبِيَّنَا وإِمَامَنا مٌحمَّداً عبدُ اللهِ ورَسُولُهُ الصَّادِقُ البَرُّ الأًمِينُ، صَلَّى اللهُ وسَلَّمَ وَبَارَكَ على النَّبِيِّ الأُسوَةِ مَا أَكمَلَهُ، علَّمَ الأُمَّةَ الصِّدقَ فَمَا أَعْظَمَهُ وَأكْمَلَهُ، وَعلى آلِهِ وَأصْحَابِهِ الغُرِّ المَيَامِينِ وعلى سَائِرِ التَّابِعينَ وَعَنَّا مَعَهُمْ بِمَنِّكَ وَكَرَمِكَ يَا رَبَّ العالَمِينَ.
أمَّا بعدُ: فإنَّ التَّقوى خَيرُ وَصِيَّةٍ، وأَكرَمُ سَجِيَّةٍ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119].
الصِّدقُ يَعقِد فَوقَ رَأْسِ *** حَلِيفِهِ بِالصِّدْقِ تَاجَا
والصِّدقُ يَقْدَحُ زِندَهُ *** في كُلِّ نَاحِيَةٍ سِرَاجَا
عبادَ اللهِ: اعلَمُوا يا رَعَاكُمُ اللهُ: أَنَّ الصِّدقَ لَيسَ خَاصًّا بِالقَولِ كَمَا يَفهَمُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنَّهُ خُلُقٌ يَتَّسِعُ لِيَكُونَ عَمَلاً قَلبِيًّا يَتعلَّقُ بِالنِّيَّاتِ وَالمَقَاصِدِ، وَجَسَدِيًّا يَظهَرُ على الأَعضَاءِ وَالجَوَارِحِ، فَالصَّادِقُ: لا تَرَاهُ مُخَالِفًا لِحَقِيقَةٍ في قَولِهِ، وَلا مُتَفَوِّهَاً بِمَا يَعلَمُ أَنَّ الوَاقِعَ خِلافُهُ، وَلا مُخَالِفًا في عَمَلِهِ لِمَا يَقُولُ وَيَعتَقِدُ، وَلا قَائِلاً بما لا يَستَطِيعُ فِعلَهُ، ولا مادِحَاً أَحَدَاً بما ليسَ أهلَهُ، تَرَى الصَّادِقَ إِذَا حَصَّلَ عِلمًا عَمِلَ بِهِ وَاستَقَامَ عَلَيهِ، فالصِّدقُ ثَبَاتٌ واستِقَامَةٌ، قَالَ اللهُ تَعَالى: ﴿لَيسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُم قِبَلَ المَشرِقِ وَالمَغرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَن آمَنَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَالمَلائِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُربَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهدِهِم إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ في البَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177].
قَالَ ابنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: "أَيْ: هَؤُلاءِ الذين اتَّصَفُوا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ هُمُ الذين صَدَقُوا في إِيمَانِهِم؛ لأَنهم حَقَّقُوا الإِيمَانَ القَلبيَّ بِالأَقوَالِ وَالأَفعَالِ، فَهَؤُلاءِ هُمُ المُتَّقُونَ؛ لأَنَّهُمُ اتَّقُوا المَحَارِمَ وَفَعَلُوا الطَّاعَاتِ"، ولمَّا ذَكَرَ اللهُ أنَّ الابْتِلاءَ حَاصِلٌ لِبَني آدَمَ قَالَ سُبحَانَهُ: ﴿فَلَيَعلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعلَمَنَّ الكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: 2].
قَالَ ابنُ القَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: "فَالفِتنَةُ قَسَّمَتِ النَّاسَ إِلى صَادِقٍ وَكَاذِبٍ، وَمُؤمِنٍ وَمُنَافِقٍ، وَطَيِّبٍ وَخَبِيثٍ فَمَن صَبرَ عَلَيهَا كَانَت رَحمَةً في حَقِّهِ وَنجا بِصَبرِهِ مِن فِتنَةٍ أَعظَمَ مِنهَا، وَمَن لم يَصبرْ عَلَيهَا وَقَعَ في فِتنَةٍ أَشَدَّ مِنهَا".
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: مَا بَلَغَ مَن بَلَغَ مِن مُتَقَدِّمِي هَذِهِ الأُمَّةِ وَلا امتُدِحُوا وَلا فَازُوا إِلاَّ بِصِدقِهِم مَعَ رَبِّهِم وَوَفَائِهِم بما عَاهَدُوا اللهَ عَلَيهِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿مِنَ المُؤمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيهِ فَمِنهُم مَن قَضَى نَحبَهُ وَمِنهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبدِيلاً (23) لِيَجزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدقِهِم وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَو يَتُوبَ عَلَيهِم إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا(24)﴾ [الأحزاب: 21- 22].
وَأَمَّا المُنَافِقُونَ: فَإِنَّهُم مَا خُذِلُوا وَلا خَسِرُوا إلَّا بِتَقَلُّبِهِم وَتَلَوُّنِهِم وَكَذِبِهِم عَلَى رَبِّهِم وَعَدَمِ صِدقِهِم في عُهُودِهِم وأقوَالِهم وأفعَالِهم ونِيَّاتِهم. أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّهُ لا نجاةَ يَومَ الدِّينِ، ولا تَوفِيقَ في الدُّنيا إِلاَّ لِلصَّادِقِينَ، جَاءَ رَجُلٌ إِلى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مِن أَهلِ نَجدٍ ثَائِرَ الرَّأسِ يُسمَعُ دَوَيُّ صَوتِهِ وَلا يُفقَهُ مَا يَقُولُ، حتى دَنَا فَإِذَا هُوَ يَسأَلُ عَنِ الإِسلامِ، فقالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "خَمْسُ صَلَواتٍ في اليَومِ وَاللَّيلَةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، والزَّكَاةُ"، فقال: هَل عَلَيَّ غَيرُهَا؟ قَالَ: "لا إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ" فَأَدبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ لا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلا أَنقُصُ، فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "أَفلَحَ إِن صَدَقَ".
بَل إِنَّ الصَّادِقَ مَعَ اللهِ لا يُخَيِّبُهُ اللهُ فِيمَا رَجَاهُ، فَقَد قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "مَن سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ مِن قَلبِهِ صَادِقًا بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ".
عِبَادَ اللهِ: كُلُّنا ذُو خَطَأٍ وَذَنبٍ، وَلَكِنْ متى صَدَقَنا في التَّوبَةِ وَاستَغفَرْنا رَبَّنَا بِصِدْقٍ فَجَزَاؤُنَا الجَنَّةَ، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "سَيِّدُ الاستِغفَارِ أَن تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنتَ رَبي لا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ، خَلَقتَني وَأَنا عَبدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهدِكَ وَوَعدِكَ مَا استَطَعتُ، أَعُوذُ بِكَ مِن شَرِّ مَا صَنَعتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنبي، فَاغفِرْ لي فَإِنَّهُ لا يَغفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنتَ، مَن قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بها فَمَاتَ مِن يَومِهِ قَبلَ أَن يُمسِيَ فَهُوَ مِن أَهلِ الجَنَّةِ، وَمَن قَالَهَا مِنَ اللَّيلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بها فَمَاتَ قَبلَ أَن يُصبِحَ فَهُوَ مِن أَهلِ الجَنَّةِ".
صَدَقْتَ أيُّها النَّاصِحُ الأَمِينُ والنَّبِيُّ الكَرِيمُ حينَ قُلتَ: "عَلَيكُم بِالصِّدقِ؛ فَإِنَّ الصِّدقَ يَهدِي إِلى البِرِّ، وَإِنَّ البِرَّ يَهدِي إِلى الجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدقَ حتى يُكتَبَ عِندَ اللهِ صِدِّيقًا".
قالَ ابنُ القَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: "كُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ ظَاهِرٍ أَو بَاطِنٍ فَمَنشَؤُهُ الصِّدقُ، وَكُلُّ عَمَلٍ فَاسِدٍ ظَاهِرٍ أو بَاطِنٍ فَمَنشَؤُهُ الكَذِبُ، وَاللهُ تَعَالى يُعَاقِبُ الكَذَّابَ بِأَنْ يُقعِدَهُ وَيثَبِّطَهُ عَن مَصَالحِهِ وَمَنَافِعِهِ، وَيُثِيبُ الصَّادِقَ بِأَن يُوَفِّقَهُ لِلقِيَامِ بِمَصَالِحِ دُنيَاهُ وَآخِرَتِهِ".
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ يا مؤمِنُونَ: واجعَلوا الصِّدقَ لَكُم شِعَارَاً ودِثَارَا، والتَزِمُوا بِهِ إِسرارًا وَإعْلانًا؛ يَجعَلِ اللهُ التَّقوى فِي قُلُوبِكم والتَّوفِيقَ في دُرُوبِكُم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾، فاللهم اجعلنا معَ المُتَّقينَ الصَّادِقينَ.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرَآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنا بِهَدي سَيِّدِ المُرسَلِينَ. وأَستَغفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم ولِسائِرِ المُسلِمينَ فاستَغفِرُوهُ إنَّه هو الغَفُورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ، وَعَدَ الصَّادِقِينَ بِالمَغفِرَةِ والأَجرِ الكَرِيمِ، نَشهدُ ألَّا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ المَلِكُ الحقُّ المُبينُ، ونشهدُ أنَّ نبيَّنا وإِمَامَنا الصَّادِقُ البَرُّ الأَمِينُ، اللهمَّ صلِّ وسَلِّم وبارك عليه وعلى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجمَعِينَ.
أمَّا بعدُ فاتَّقوا اللهَ يا مُسلِمونَ وكُونُوا معَ الصَّادِقِينَ، ثمَّ اعلموا أنَ من أجلِّ النِّعَمِ على العبدِ، أن يُحبِّبَ اللهُ الصِّدقَ إليه، فلا تَرتَاحُ نَفْسُهُ إلَّا به، ولا يَهدَأُ ضَمِيرُهُ إلَّا إليهِ! فَإنَّهُ مَا مِن شَيءٍ أَذْهَبَ لِلمُرُوءَةِ من الكَذِبِ، حتى في الأُمُورِ الدُّنيَويَّةِ فَإِنَّهُ لا يَستَقِيمُ حَالُهَا إِلاَّ لِمَن صَدَقَ، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا، فَإِن صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لهما في بَيعِهِمَا، وَإِن كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَت بَرَكَةُ بَيعِهِمَا".
وقَد وجَّهَ الصَّادِقُ الأمينُ نِداءً لِلتُّجارِ والبَاعَةِ والمُشتَرِينَ بِوجوبِ الصِّدقِ والحَذَرِ من الكَذِبِ بشتَّى صُوَرِهِ وَأَنْواعِهِ، فَقَدْ خَرَجَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْبَقِيعِ يَوْمَاً وَالنَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، فَنَادَى: يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ، فَاسْتَجَابُوا لَهُ، وَرَفَعُوا إِلَيْهِ أَبْصَارَهُمْ، وَقَالَ: "إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فُجَّارًا إِلاَّ مَنِ اتَّقَى، وَبَرَّ، وَصَدَقَ".
وِلْنِعْلَمْ يَا مُؤمِنُونَ: أنَّهُ لَمْ تُؤْتَ الأُمَّةُ في مَاضٍ وَلا حَاضِرٍ إِلاَّ مِن عَدَمِ صِدقِهَا مَعَ رَبِّهَا، وعَدَمِ صِدقِها في تَدَيُّنِها، وفي أَخْبَارِها! فَقَد كَثُرَ في هَذِهِ الأَزمِنَةِ الدَّجَّالُونَ وَوُجِدَ فِيهَا المُتَفيهِقُونَ، والنَّفعِيُّونَ الذينَ يَقُولُونَ ما لا يعتَقِدونَ، ويَكتُبُونَ ما لا يُبطِنِونَ سِيَّمَا بعضُ الصَّحَفِيِّينَ وَالإِعلامِيِّينَ، وبعضُ المُتَنَفِّذِينَ! ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: 227].
وَصَدَقَ الصَّادِقُ المَصدُوقُ -صلى الله عليه وسلم- حَيثُ قال: "إِنَّ بَينَ يَدَيِ السَّاعَةِ سِنِينَ خَدَّاعَةً، يُصَدَّقُ فِيهَا الكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤتَمَنُ فِيهَا الخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ، وَيَنطِقُ فِيهَا الرُّوَيبِضَةُ" قِيلَ: وَمَا الرُّوَيبِضَةُ؟ قَالَ: "المَرءُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ في أَمرِ العَامَّةِ".
عِبَادَ اللهِ: وَإِنَّ المُتَابِعَ لِمَا يُكتَبُ وَيُتَدَاوَلُ عَبْرَ الوَسَائِطِ لَيَرَى انطِبَاقَ هَذَا الحَدِيثِ عَلَى ذلِكَ رأي العَينِ، فَكَم مِن صَادِقٍ كَذَّبُوهُ وَظَلَمُوهُ! وَكَم مِن كَاذِبٍ صَدَّقُوهُ وَأَظهَرُوهُ! وَكَم مِن حَقَائِقَ قَلَبُوهَا وَغَيَّرُوهَا! وَكم من صَغَائِرَ كَبَّرُوهَا وَضَخَّمُوهَا! وَكَمْ مِنْ نَاصِحٍ اتَّهَمُوه، إذاعاتٌ وَقَنَوَاتٌ، وحِواراتٌ ونَدَواتٌ، وأخبارٌ وتَقَاريرُ، قَلَّبوا فيها الأُمورَ، ودَلَّسوا فيها على النَّاسِ! وَنَسُوا أنَّ الكَلِمَةَ أمَانَةٌ والقَلَمَ مَسْؤُولِيَّةٌ!
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ يا مُسلِمُونَ، وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ، اُصدُقُوا اللهَ يَصدُقْكُم، اُصدُقُوا مَعَ أَنفُسِكُم وَإِخوَانِكُم يَرْفَعْكُمْ، اُصدُقُوا في بَيعِكُم وَشِرَائِكُم وَمُعَامَلاتِكُم يَزِدْكُمْ، اُصدُقُوا في أَخذِكُم شَرَائِعَ دِينِكُمْ يُثَبِّتْكُمْ، ولا تُكُونُوا ممَّن يُؤمِنُ بِبَعضِ الكِتَابِ وَيَكفُرُ بِبَعضٍ، بَل خُذُوا مَا أُوتِيتُم بِقَوَّةٍ وَاسمَعُوا وَأَطِيعُوا..
عُوِّدْ لِسَانَكَ قَوْلَ الصِّدْقِ تَحْظَ بِهِ *** إِنَّ اللِّسَانَ لِمَا عَوَّدْتَ مُعْتَادُ
فَمَا أَجْدَرَنا جَمِيعَاً مِن تُجَّارٍ وَعُمَّالٍ، وَمُوَظَّفِينَ وإعلامِيِّينَ، ومُعَلِّمينَ ومُتَعَلِّمِينَ أنْ نَتَحَلَّى بِالصِّدقِ في جَمِيعِ شُئونِنا، لِتَعُودَ الثِّقَةُ إلى نُفُوسِنا، ولِنَعِيشَ بِأَمْنِ وحُبٍّ وسَعَادَةٍ في حَياتِنا!
ولِيَنشأَ جِيلٌ يَتَربَّى على الكَرامَةِ والعِفَّةِ، والأَمَانَةِ والجُرأةِ بِحقِّ، بَعِيدا عن حَيَاةِ النِّفاقِ والمَذَلَّةِ والمهانَةِ، بِهذا يَنتَشِرُ الصِّدقُ فِي المُجتَمَعِ، وَيُنبَذُ الكذَّابُونَ، وتَطْهُرُ وَسَائِلُ النَّشرِ العَامَّةِ، وَتَنْقَى مَصَادِرُ التَّلَقِّي المُختَلِفَةُ، فَإنَّهُ مِن السيِّئِ أنْ يَعتَادَ النَّاسُ الكَذِبَ، وألَّا يَسمَعَ المسئولُ إلاَّ كَذِباً وَتَزْوِيرَاً، فكما أنَّ دَورَنَا مُحارَبَةُ الفَسادِ المَاليِّ فَنَحنُ مُطالَبونَ شَرْعاً بِمُحارَبَةِ النِّفاقِ الاعتقاديِّ والعَمَليِّ، ﴿فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ [محمد: 21].
فاللَّهُمَّ إِنَّا نَسأَلُكَ الثَّبَاتَ في الأَمرِ وَالعَزِيمَةَ عَلَى الرَّشدِ، وَنَسأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحمتِكَ وَعَزَائِمَ مَغفِرَتِكَ، وَنَسأَلُكَ شُكرَ نِعمَتِكَ وَحُسنَ عِبَادَتِكَ، وَنَسأَلُكَ قُلُوبًا سَلِيمَةً وَأَلسِنَةً صَادِقَةً، اللَّهُمَّ اجعَلنا من الصَّادِقِينَ في اعتقادِهم وَأَقْوالِهم وأَعْمَالِهم.
اللَّهُمَّ اجعَلنا مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا، اللَّهُمَّ واعصِمْنَا من الكَذِبِ والزَّلَلِ، اللَّهُمَّ وحِّد صفوفَنا، واجمع كَلِمَتَنَا على الحقِّ والهدى.
اللَّهُمَّ هيئ للمُسْلِمِينَ قادةً صالحينَ مُصلِحينَ. اللَّهُمَّ إِنِّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وجَمِيعِ سَخَطِكَ. اللَّهمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الفِتَنِ ما ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، اللَّهُمَّ أدم علينا نعمةَ الأمنِ والإيمانِ والرَّخاءِ والاستقرارِ، وأصلحْ لنا وُلاتَنَا وهيئ لِهُم بِطَانةً صَالحةً نَاصِحَةً واجعلهم رَحمةً على رعاياهم. اللهم انصر جُنُودَنَا واحفظ حُدُودَنا والمُسلمينَ أجمَعينَ.
اللهم إنا نَعُوذُ بك من الغلا والوبا والرِّبا وَسُوءَ الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْها وَمَا بَطَنَ. اللهم أغث قلوبنا بالعلم والإيمانِ وبلادنا بالخير والأمطار.
ربَّنا آتنا في الدنيا حَسَنَةً وفي الآخرة حَسَنَةً وقِنَا عذابَ النَّارِ. ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت: 45].