عناصر الخطبة
- تأملات في نعمة إنزال الله المطر
- فضائل التفكر في نعم الله وعظمته
- عناية السلف بعبادة التفكر
- عظمة الله تتجلى في خلقه
- وقفاتٌ مع بعض مسائل أحكام المطر.
اقتباس إن المؤمنَ الحق، والذي وُفِّق لمعرفة عظيم هذه النِّعم؛ لا يتوقف شكرُه لربه عند مجرد نزول المطر، بل يمتد ذلك إلى أن يموت، وذلك بإعمال قلبِه في عبادةٍ مِن أجلِّ العبادات، وأعظمها نفعاً، وأكبرها أثَراً على صلاح القلب واستقامته، تلكم هي: عبادةُ التفكّر، وهي تشمل التفكر في آياته الشرعية – وهي القرآن -، وفي وآياته الكونية، وهي محطّ رحالنا، ومهوى حديثِنا في هذه الخطبة. قال ابن القيم رحمه الله: “فالخيرُ والسعادةُ في خزانة؛ مفتاحُها التفكّر…، التفكر الذي يَنقل من موت الفطنة إلى حياة اليَقَظة، ومن سجن الدنيا إلى فضاء الآخرة، ومن ضيق الجهل إلى سعة العلم ورَحَبه ..”
الخطبة الأولى:
الحمد لله الواسع الجواد، الرءوف بالعباد، الذي شمل لطفُه المتحرِّك والساكن، والحاضرَ والباد، يُغني ويُفقِر، ويُعز ويُذل، ويَخفض ويَرفع، ويُعطي ويَمنع، ويَقبض ويَبسط، يَسأله أهلُ السماوات والأرض، كلَّ يوم هو في شأن.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عظيمَ الصفات، كبيرَ الشأن، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أعظمَ الخلق فكّر في آلاءِ ربه، فصار أكثرَهم شكراً لمستحِق الشكر، وواهبِ الإحسان، فصلوات الله وسلامُه عليه، وعلى آله وصحبه خيرِ مَعشر وأعوان.
أما بعد: فقد عاش الناسُ هذا الأسبوع المنصرم -ولا زالوا- أياماً تتابع فيها فضلُ الله وخيرُه بنزول الأمطار، بعد انقطاعٍ في العام الماضي؛ كاد بسببه أن يستولي اليأسُ على قلوب كثيرٍ من الناس، فجاء هذا المطرُ ليعانق الأرضَ عناقاً سيثمر – بإذن الله – حلةً بهيّة، وتهتز وتربو، لتنبت من كلِّ زوجٍ بهيج.
وربنا -جل في علاه- ليس لجوده حدٌّ ولا عَدّ، وهو – سبحانه – قد يمنع عبادَه – أحياناً – لحِكَم عظيمة، وأسرار بليغة، فيجمع لعباده في ذلك خمسةَ أشياء مِن حكمه: "إلجاؤهم وتأديبُهم ليرجعوا بالتوبة والضراعة، وتكفيرُ خطاياهم، ومغفرةُ ذنوبهم بما يصيبهم من الشدة والفاقة والحاجة، وتفريجُ كروبهم حين يُنيلهم الخيرَ والإحسان، وتعريفُهم بربهم، وما له من الحمد الكامل، والحجّة البالغة، والرحمة والامتنان، وقيامهم بعبوديته في السراء والضراء، فيكونون شاكرين صابرين، مُعرِضين عن غيره، وإليه مقبِلين خاضعين، وبفضله ومعروفه طامِعين" (خطب السعدي رحمه الله: 223-224).
أيها المسلمون: إن المؤمنَ الحق، والذي وُفِّق لمعرفة عظيم هذه النِّعم؛ لا يتوقف شكرُه لربه عند مجرد نزول المطر، بل يمتد ذلك إلى أن يموت، وذلك بإعمال قلبِه في عبادةٍ مِن أجلِّ العبادات، وأعظمها نفعاً، وأكبرها أثَراً على صلاح القلب واستقامته، تلكم هي: عبادةُ التفكّر، وهي تشمل التفكر في آياته الشرعية – وهي القرآن -، وفي وآياته الكونية، وهي محطّ رحالنا، ومهوى حديثِنا في هذه الخطبة.
قال ابن القيم رحمه الله: "فالخيرُ والسعادةُ في خزانة؛ مفتاحُها التفكّر…، التفكر الذي يَنقل من موت الفطنة إلى حياة اليَقَظة، ومن سجن الدنيا إلى فضاء الآخرة، ومن ضيق الجهل إلى سعة العلم ورَحَبه .."( مفتاح دار السعادة: 1/183).
ولما كان التفكّر بهذه المنزلة؛ كان أسلافنا – رحمهم الله ورضي عنهم – أعظم الناس عناية بهذا الأمر:
قال الحسن -رحمه الله-: "تفكُّر ساعةٍ خيرٌ من قيام ليلة، وقال – في قوله تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾[الأعراف: 146] – قال: أمنعهم التفكر فيها.
وكان سفيان الثوري كثيراً ما يتمثل:
إذا المرء كانت له فكرة *** ففي كل شيء له عِبرة
وقال عمر بن عبد العزيز: "الفكرة في نعم الله من أفضل العبادة".
وقد بيّن ابنُ القيم سبب عنايةِ السلف بهذه العبادة فقال: "فالتفكر يُوقِع صاحبَه من الإيمان على ما لا يُوقِعه عليه العملُ المجرد" (انظر هذه النقول وأكثر منها في مفتاح دار السعادة: 1/180).
لذا لا تتعجب أيها المسلم كثرةَ ندْب الرب عبادَه إلى التفكر في آياته الشرعية والكونية، بل والثناء على عباده القائمين بها، ومن ذلك قوله سبحانه: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ) بسبب تفكرهم وتأملهم في كتاب الكون المفتوح ﴿يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرض رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾[آل عمران: 191].
"والنظر في هذه الآيات وأمثالها نوعان:
نظرٌ إليها بالبصر الظاهر؛ فيرى – مثلاً – زُرقة السماء، ونجومَها، وعلَّوها، وسعَتَها، وهذا نظرٌ يشارك الإنسانَ فيه غيرُه من الحيوانات، وليس هو المقصود بالأمر.
الثاني: أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة، فتُفتح له أبواب السماء، فيجول في أقطارها، وملكوتها، وبين ملائكتها، ثم يُفتح له بابٌ بعد باب، حتى ينتهي به سيرُ القلب إلى الملكوت الأعلى…"(المصدر السابق).
إخوة الإسلام: ألا نتأمل في تنوّع نزول المطر مِن السماء: مرةً غزيراً، ومرةً دِيماً، ومرةً هاطلاً، ومرةً متقطعاً؟ أليس هذا دليلاً على قدرة الرب العظيمة، ومُلكه التام! إذ لا تنزل قطرةٌ من السماء إلا بإذنه، ولو اجتمع الخلقُ كلُّهم – إنسُهم وجنُّهم – على أن يُنزلوها ما استطاعوا! أليس في هذا دليلٌ آخر على عجز الخلق، مهما ملكوا من أسباب التقدّم والتقنية؟!
عبدَ الله .. ألم تسأل نفسك يوماً – وأنت ترى المطرَ ينزل – : لماذا جعل الله سقيَ الأرضِ من علوّ، ولم يجعل سقيَها بإسالة ماءِ البحر – مثلاً – على اليابسة؟! أليس الكلُ ماءً؟! ومَن الذي جعل ماء السماء حلواً عذْباً، وجعل ماءَ البحر مِلحاً أجاجاً؟!
إن في نزوله مِن السماء ومِن العلوّ لحِكَماً باهرةً: فهو أشمل وأعم لما يصيبه المطر، فيَسقي وِهادَها، وتُلولَها، وظِرابها، وآكَامَها، ومُنخفَضها، ومرتفِعِها، ولو كان ربها –تعالى- إنما يَسقيها من ناحيةٍ من نواحيها – كما البحر – لما أتى الماءُ على الناحية المرتفعة، إلا إذا اجتمع في السفلى وكثُر، وفي ذلك فسادٌ ظاهر، فاقتضت حكمتُه أن سقاها مِن فوقها، فيُنشئ سبحانه السحابَ – وهي روايا الأرض – ثم يرسل الرياح فتَحمل الماءَ من البحر، وتلقّحها به كما يلقِّح الفحلُ الأنثى.
ألم تتفكر يا عبد الله لحظةً في كيفية إنشاء الله لهذا السحاب؟!
ألم تعلم أن اللهَ –سبحانه- يُنشئ الماءَ في السحاب إنشاءً: تارة يقلبُ الهواء ماءً، وتارةً يحمله الهواءُ من البحر، فيلقِّح به السحاب، ثم يُنزِل منه على الأرض، للحِكَم التي ذكرناها، ولو أنه ساقه من البحر إلى الأرض جارياً على ظهرها لم يحصل عمومُ السَّقْي إلا بتخريب كثيرٍ من الأرض، ولم يحصل عمومُ السقي لأجزائها، فصاعدَهُ سبحانه إلى الجو بلطفه وقدرته، ثم أنزله على الأرض، بغايةٍ من اللطف والحكمة التي لا اقتراح لجميع عقول الحكماء فوقها، فأنزله ومعه رحمتُه على الأرض.
ثم تأمل -وأنت ترى هذه النعمة- الحكمةَ البالغةَ في إنزاله بقدر الحاجة، حتى إذا أخذت الأرضُ حاجتَها منه، وكان تتابُعه عليها بعد ذلك يضرّها أقلَعَ عنها وأعقبَه بالصحو!
ثم تفكّر في تَعاقُب الصحوّ والغيم على العالم، وما في ذلك مِن صلاحِه، وتخيّل حالَ الأرض لو دام أحدُهما؟!
فلو توالت الأمطارُ لأهلكت ما على الأرض، ولو زادت على الحاجة لأفسدتِ الحبوبَ والثمار، وعفنت الزروع والخضروات، وأرخت الأبدان، وحشرت الهواء؛ فحدثت ضروبٌ من الأمراض، وفسد أكثرُ المآكل، وتقطّعت المسالكُ والسبل!
ولو دام الصحوُ لجفّت الأبدان، وغِيض الماء، وانقطع مَعينُ العيونِ والآبار والأنهار والأودية، وعَظُم الضرر، واحتدم الهواءُ فيَبِس ما على الأرض، وجفّت الأبدان، وغلب اليبس، وأحدث ذلك ضروباً من الأمراض عَسِرة الزوال!
فتأمل في حكمةِ اللطيف الخبير كيف اقتضت أن يُعاقِب بين الصحو والمطر على هذا العالم، فاعتدل الأمرُ، وصحّ الهواء، ودفع كلّ واحدٍ منهما عادية الآخر، واستقام أمرُ العالم وصلُح"(مفتاح دار السعادة (1/223) بتصرف).
ولله در القائل:
إن التفكّر في آيات خالقنا *** عبادةُ الفِكر فيها الخلق قد غبنوا
تزداد بالفكر إيماناً ومعرفة *** فلا يفوتك شيءٌ ما له ثمن
ترى تفكّرنا في غير منفَعَة *** إلا لتحصيل ما تحصيله فِتَن!
(هو الأمير الصنعاني رحمه الله، انظر: الموسوعة الشعرية على القرص الإلكتروني).
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة…
الخطبة الثانية:
الحمد لله ذي الجود والإحسان، والفضل والإنعام، وصلى الله وسلم وبارك على خير الشاكرين، وقدوة الناس أجمعين، نبينا وسيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فهذه وقفاتٌ مع بعض المسائل والأحكام التي تحتاج إلى التذكير في مثل هذه الأحوال:
1- فيما يخص الجمع في حال المطر: فليُعلم أن الأصل أن تُصلّى كلُّ صلاةٍ في وقتها، ولا يحل تقديمُها أو تأخيرها إلا بدليل بيّن، فإن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء: 103]، وعليه: فإن شكّ الإمامُ هل الحال تُبيح الجمعَ فلا يَجمع، فإن ترجّح لديه الجمعُ فليَجمع.
وليُعلم أن المساجد قد تَختلف، فمِن المساجد ما يَشق على جماعته عدمُ الجمع، ومن المساجد ما ليس كذلك، ولا يَعني جوازُ الجمع لمسجدٍ أن يجمع آخرون! والعبرة بوجود الحرَج والمشقة، وليست العبرةُ بوجود أدنى حرجٍ أو أدنى مشقّة!
2 – هناك سنّةٌ يَندر العمل بها جداً، وهي الصلاة في الرِّحال عند نزول المطر بعد إحدى الصلاتين التي يجوز جمع إحداهما إلى الأخرى: فلو قُدِّر أن الناس صلوا المغرب وهم غير محتاجين للجمع، ثم نزل مطرٌ كثير، يَشق معه الخروج إلى المسجد، فهنا من السُّنة أن يُصلي الإنسانُ في بيته.
ففي الصحيحين من حديث نافع عن ابن عمر أنه نادى بالصلاة – في ليلةٍ ذات بردٍ وريح ومطر – فقال في آخر ندائه: ألا صلُّوا في رحالكم! ألا صلُّوا في الرحال! ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذنَ إذا كانت ليلة باردة أو ذات مطر في السفر أن يقول: "ألا صلوا في رحالكم"(البخاري ح: 666، مسلم ح: 697)، وبهذا يندفع الحرج عن الناس، ولله الحمد.
3 – يقع من البعض تفريطٌ في الاقتراب من الشِّعاب والأودية؛ بحجة الفُرجة، والاستمتاع بالنظر إلى هذه المناظر! ويَعظم التفريطُ ويبلغ مداه، حينما يكون مع الإنسان عائلتُه! فهذا مِن قلة العقل أن يَعبث الإنسانُ بالماء الجاري، أو النار التي تُحرِق! والله يقول: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾[البقرة: 195].
4 – على من عزم على الذهاب إلى البراري أن يتفقّه في المسائل التي يحتاجها؛ كالمسح على الخفَّين، والتيمم، والجمع والقصر، فإن عجِز عن هذا، فلا أقل من أن يَصطحب معه كتيباً أو أكثر فيها ما يوضح ذلك، وأضعف الإيمان الاحتفاظُ ببعض أرقام المشايخ وطلاب العلم للسؤال عما يُشكِل.
رزقني اللهُ وإياكم التفكّر في آياته الشرعية والكونية، ووَهبنا إيمانًا ليس بَعده كفر، ويقيناً ليس بعده شك، وعافية في الدين والدنيا..
اللهم لك الحمد على ما أنعمتَ به وتفضّلت .. سبق فضلُك، وعظُم عطاؤك، وتتابعت آلاؤك، وعمّ بِرك، فلك الحمد ربَّنا كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك ..
اللهم اجعل ما أنزلتَه علينا بلاغاً لنا ومتاعاً إلى حين .. اللهم اجعلنا ممن يَستعمل نِعَمك في طاعتك، ونعوذ بك مِن كفرانها، والتقصير في شكرها.
اللهم كما أنزلتَ المطر على أرضنا، فأنزل نصرَك على جنودنا وكل مجاهدٍ يقاتل في سبيلك…