عناصر الخطبة
- التفكر في معاني نزول المطر من السماء بعد حبسه
- ابتلاء الله عباده بالمكاره ليعودوا
- الانكسار لله تعالى منزل المطر
- التفكر في السحاب الذي يسخره الله تعالى
- نزول المطر نعمة عظيمة
- نسبة المطر لغير الله تعالى
- شكر نعمة المطر
- من دلالات نزول المطر
اقتباس فهو سبحانه يبتلي عباده بالمكاره وحبس الغيث عنهم لعلهم أن يرجعوا إليه ويتوبوا، ويلجؤوا إليه ويتضرعوا ويتوبوا، فيكون ذلك كفارة لخطاياهم، وداعيًا لهم إلى الانكسار لمولاهم، فإنه لا ملجأ ولا منجى لعباده منه إلا إليه، ولا معول لهم في الأمور كلها إلا عليه، فهو ينعم عليهم بتقدير بلائه، ثم يتفضل عليهم ببسط جوده وعطائه ويبتلي عباده بالمصائب ليصبروا، ثم…
الخطبة الأولى:
الحمد لله…
أما بعد:
أيها المؤمنون: لقد أفلح من كانت له في حياته وما يجري حوله فكرة تتبعها عبرة، فمثله حري به أن يسلك طريق الهدى، والبعد عن مهاوي الردى، ولئن ضل أو انحرف عن الطريق المستقيم وقتًا فإن له مرجعًا إلى الصواب بإذن الله، يدله عليه نظره الموجب للتفكر فيما حوله والاعتبار بذلك.
وإن من أعظم ما يتفكر فيه مما هو جالب للخير والهداية: خلق الله -جل وعلا-، فنحن في هذه الأيام نرى نعم الله تتدفق من السماء بلا حصر ولا عدد، فهل كان لنا في ذلك فكرة وعبرة؟!
إن السماء قد حبست عنا مدة من الزمن، وظهر جليًا ضرر ذلك على الناس والأرض والبهائم، حتى إن بعض الناس -والعياذ بالله- قد ظهرت عليهم علامات اليأس والقنوط من نزول المطر، ثم انظروا على حال الناس بعد نزول المطر، وقارنوا -رحمكم الله- بين ذينك الحالين، واعتبروا منهما.
(اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الروم: 48-50].
فهو سبحانه يبتلي عباده بالمكاره وحبس الغيث عنهم لعلهم أن يرجعوا إليه ويتوبوا، ويلجؤوا إليه ويتضرعوا ويتوبوا، فيكون ذلك كفارة لخطاياهم، وداعيًا لهم إلى الانكسار لمولاهم، فإنه لا ملجأ ولا منجى لعباده منه إلا إليه، ولا معول لهم في الأمور كلها إلا عليه، فهو ينعم عليهم بتقدير بلائه، ثم يتفضل عليهم ببسط جوده وعطائه ويبتلي عباده بالمصائب ليصبروا، ثم يبدلهم بالنعم ليحمدوه وليشكروا.
فبينما الناس قد حسبوا للجدب كل حساب، فأصبحوا مغتبطين بمنة الملك الوهاب، أنزل عليهم غيثًا مغيثًا هنيئًا عامًا، فعم الأرض بعد الجدب والعطش الشديد ريًّا، ولم يزل بعباده رؤوفًا رحيمًا لطيفًا حفيًّا.
عباد الله: من تأمل هذه الحال أورثت عنده انكسارًا للملك العظيم المنان، وعلم عظم كرم الله الملك الوهاب، وأن هذا هو الكرم الذي لا يوازيه كرم، وعلم أن هذه النعمة تحتاج إلى شكر، وكلما تجددت النعمة جددها شكرًا وحمدًا جديدين.
فبالشكر تدوم النعم: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7].
ثم تفكروا -رحمكم الله- في ذلك السحاب الذي يسخّره رب الأرباب، كيف تطبق الأرض والسماء، حاملاً في جوفه البحار العظيمة، من الذي سخّره؟! من الذي حفظ الماء فيه؟! من الذي أمره أن ينزل ماءه؟!
إنه الله الكريم المنان، المتفضل بالعطاء والإحسان، ثم انظروا -رحمكم الله- كيف ينزل المطر، على شكل قطرات، لو صب صبًّا لأهلك العَمارَ والعُمّار: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنْ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ(18)﴾ [المؤمنون: 17، 18].
ثم كيف أن الله سبحانه جعل بطن الأرض له خزائن ليستفيد منه الناس ولو بعد حين، ولولا ذلك لكانت فائدته محدودة مؤقتة: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾ [الحجر: 22].
فسبحان الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وسبحان من أعطى النعم وسخر سبل حفظها.
أيها المؤمنون: إن نزول المطر نعمة عظيمة، فيجب أن تستغل في طاعة الله -عز وجل-، وأن لا يكون سببًا لنشر الفساد، واستعماله في معصية الله -عز وجل-، فنزول الخير ينبغي أن يستخدم في الخيرات وأن يكون عونًا على الطاعة.
ومما يخطئ فيه بعض الخلق عند نزول المطر: نسبة إنزاله إلى غير الله، من النجوم والكواكب، أو جعل ذلك سببًا في نزوله، فالأول شرك أكبر، والثاني شرك أصغر.
أخرج البخاري ومسلم من حديث زيد بن خالد الجهني قال: صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: "أتدرون ماذا قال ربكم؟!"، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب".
فمن جعل الأنواء سببًا في نزول المطر أو أنها هي المنزلة له، فقد ارتكب أمرًا ينافي التوحيد أو كماله، وأما أن يجعل النجم ظرفًا للمطر، كقول البعض: مطرنا في النجم الفلاني، فقد أجازه جمع من العلم، إلا أن تركه أولى؛ لما ينجر من هذه الألفاظ من الوقوع في الشركيات والعبث بعقول العامة.
والأكمل أن ينسب المسلم المطر إلى خالقه سبحانه، فهو الذي خلقه وأمره بالنزول، ويسر أسباب حفظ الاستفادة منه.
اللهم اجعلنا شاكرين لنعمك، مثنين بها عليك، وزدنا من فضلك العظيم، وخيرك الجسيم يا رب العالمين.
الخطبة الثانية:
أيها المؤمنون: اتقوا الله وأطيعوه، واذكروا آلاءه وتحدثوا بنعمه واشكروه، فما بكم من نعمة باطنة أو ظاهرة فمن الله، وما دفع عنكم السوء والضراء أحد سواه، واعلموا -عباد الله- أن نزول المطر لا يدل على الرضا من الله تعالى على خلقه، كما أن حبس المطر لا يدل على غضب الله تعالى على خلقه، فإن الله يبتلي بالخير والشر، ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [الأنبياء: 35].
فمن قابل نزول المطر بالشكر والتوحيد والطاعة والتمجيد، كان نزول المطر عليه نعمة، ومن قابل نزول المطر بالكفران والجحود والمعصية والصدود كان نزول المطر عليه نقمة.
يروى أن رجلاً كانت له غنم يبيع لبنها وكان يغشه بالماء، فجاء السيل ليلاً فذهب بغنمه، فتعجب! فأتي في المنام فقيل له: أتعجبُ من ذلك؟! فإن هذا السيل هو قطراتك التي تغش بها اللبن.
ونزول المطر في أصله رحمة من الله، وقد يحدث منه أضرار تعم الخلق، فهذه الأضرار لا تدل على غضب الله على المتضرر، وما دفع الله من النقم أعظم، فلعل ذلك من البلاء، فإن صبر العبد وعلم أن الله المقدر للأمور واحتسب أجر المصيبة، سواء أكانت هلاكًا في الأنفس أم ذهابًا في الأموال، ويوشك أن يعوضه الله خيرًا، فهو سبحانه العفو الكريم.
ولربما يكون المطر نعمة عظيمة على بعض الخلق، وهذا لا يدل على رضا الله على المنعم عليه، فلربما يكون استدراجًا: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ…﴾ [الأنعام: 44]، فنسأل الله الكريم أن يكون عطاؤه لنا عن رضا ورحمة، إنه جواد كريم.
أيها المسلمون: إن من تمام شكر النعمة، تطبيق سنة المصطفى في جميع الأحوال، خصوصًا في النعم النازلة، فمن السنة للعبد إذا نزل المطر أن يقول: مطرنا بفضل الله ورحمته، كما ورد ذلك في الصحيحين من حديث زيد بن خالد الجهني، المتقدم.
وإذا كان المطر ينزل أن يقول: اللهم صيبًا نافعًا، أخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة قالت كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى المطر قال: "اللهم صيبًا نافعًا".
كما أن من السنة إذا نزل المطر أن يحسر المسلم عن ثوبه ليصيبه المطر، أخرج مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك قال: أصابنا ونحن مع رسول الله مطرٌ قال: فحسر النبي -صلى الله عليه وسلم- ثوبه حتى أصابه المطر، فقلنا: لمَ صنعت هذا؟! قال: "إنه حديث عهدٍ بربه". يعني أن الله خلقه الآن.
ومن دلالات نزول المطر بعد تأخره عن الناس: إيقان الناس أنه لا أحد يدري متى يجيء المطر إلا الله تعالى، أخرج البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدري أحدٌ متى يجيء المطر إلا الله تعالى".
فسبحانه علاّم الغيوب، الذي يعلم السر وأخفى -جل وعلا-، اللهم لك الحمد كله، وإليك يرجع الأمر كله، اللهم ما أنعمت عليه من نعمة أو على أحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، اللهم لك الحمد على ما أنزلت علينا من الخيرات، الله اجعله عونًا على طاعتك، اللهم أنبت به الزرع وأدم الضرع واجعله رحمة للناس.