عناصر الخطبة
- أهمية العفو عن الناس والتجاوز عن الزلات
- العفو من أبرز صفات المتقين
- فضائل العفو عن الناس
- من عوائق العفو
- أفضل العفو وأعظمه
- اغتنام مواسم رمضان في العفو والصفح.
اقتباس من الخصال النبيلة والخلال الجميلة والصفات الجليلة؛ من اتصف بها أحبه العباد وسعد في الدنيا ويوم المعاد؛ أنها صفة العفو عن الناس، والتجاوز عن الزلات والصفح عن الهفوات، يُذكَّر بها عباد الله في شهر رمضان؛ لأن القلوب رقيقة والجوارح قريبة.. فهو فرصةٌ لكل من حمل على قريبه أو أخيه وصديقه، فرصةٌ ذهبية للمتقاطعين والمتهاجرين والمتدابرين والمتخاصمين، فرصةٌ لفتح صفحةٍ بيضاء، وطهرةٍ للقلب ونقاء، يُطرح هذا في وقت امتلأت القلوب غلاً وحقدًا، وشحناء وبغضاء، وقطيعةً وبعدًا…
الخطبة الأولى:
الحمد لله؛ الحمد لله صاحب العفو والإحسان، أحمده سبحانه يحب العفو والامتنان، وأشهد أن لا إله إلا الله نوَّه في القرآن أن العفو سمة أهل الإيمان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد العافين عن الناس من بني الإنسان، صلى الله عليه وعلى آلة وصحبه أهل العفو والصفح والإحسان.
أما بعد: عباد الله.. اتقوا الله في السر والنجوى والجهر والإعلان.
عباد الله.. من الخصال النبيلة والخلال الجميلة والصفات الجليلة؛ من اتصف بها أحبه العباد وسعد في الدنيا ويوم المعاد؛ أنها صفة العفو عن الناس، والتجاوز عن الزلات والصفح عن الهفوات، يُذكَّر بها عباد الله في شهر رمضان؛ لأن القلوب رقيقة والجوارح قريبة، يذكَّر بها في هذا الشهر؛ إذ هو شهر العفو والصفح والتجاوز والسماح والفتح.
يذكَّر بها في شهر تفتح فيه أبواب الجنان وتغلق فيه أبواب النيران، ويصفد الشيطان، فهو وقتٌ قد تهيأت أسبابه وانفتحت أبوابه؛ فهو فرصةٌ لكل من حمل على قريبه أو أخيه وصديقه، فرصةٌ ذهبية للمتقاطعين والمتهاجرين والمتدابرين والمتخاصمين، فرصةٌ لفتح صفحةٍ بيضاء، وطهرةٍ للقلب ونقاء، يُطرح هذا في وقت امتلأت القلوب غلاً وحقدًا، وشحناء وبغضاء، وقطيعةً وبعدًا في وقتٍ أصبح التهاجر والبغض للدنيا.
العفو عباد الله صفة نبيلة، وسمو ورفعة من أحسن الأخلاق وأجل الصفات، تُنال بها الفضائل والمكارم، وتُدرك بها الأجور والغنائم، ويُطلب بها أعالي المنازل.
العفو صفةٌ تسلّ السخيمة، وتجعل الصلة ودًّا وحميمة، تذوب أمامها الفتن والعداوات، وبها تدوم الصلة والتواصلات لو لم يكن للعافي عن إخوانه المتجاوز عنهم بإحسانه إلا أنه اتصف بصفةٍ هي اسمٌ من أسمائه سبحانه، وصفةٌ من صفاته؛ إذ ربنا يعفو عن الخطايا والسيئات، ويتجاوز عن الذنوب والزلات ويغفر الذنوب وعظائم المُقحمات.
وهو العفوُّ فعفوه وَسِعَ الورى *** لولاه غارَ الأرض بالسكان
العفو -عباد الله- هو تجاوز عن الذنب وترك العقاب؛ ترك المؤاخذة مع المسامحة، والصفح ترك التأنيب والتسريب وهو أعلى من العفو، قال –سبحانه-: ﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا﴾ [البقرة: 109]، فرقيًا لمكارم الأخلاق من الحسن إلى الأحسن ومن الفضل إلى الأفضل.
أيها المسلمون: القرآن رغَّب في العفو والصفح ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: 22]، ورحم الله الصدِّيق أبا بكرٍ -رضي الله عنه- عندما نزلت هذه الآية، وكان قد منع النفقة عن مسطح بن أثاثة، قال: "بلى والله إنَّا نحب يا ربنا أن تغفر لنا. فرجع بالنفقة عليه وقال: والله لا أنزعه منه أبدًا".
العفو من أبرز صفات المتقين، وسمات المؤمنين أنه العفو عمن أساء إليك من قولٍ أو فعل، إنه المسامحة والتجارة الرابحة، فهل بعد هذا يسمعها القاطع المشاحن والمتهاجر، ثم لا يلين قلبه ويرق الطبع، إن العافي عن الناس أجره وجزاؤه على ربه وخالقه، ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [الشورى:40]، يجزيه أجرًا عظيمًا وثوابًا كبيرًا.
ولا شك أن هذا مما يهيج على العفو، وأن يعفو عن عباد الله كما يحب أن يأجره الله، والجزاء من جنس العمل، فمن عفا عن خلق الله عفا الله عنه، ومن سامحهم سامحه الله، ومن صفح عنهم صفح الله عنه، ﴿وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التغابن:14].
واسمع إلى الكلام القيم من ابن القيم -رحمه الله-: "ومن شهد مشهد العفو والصفح والحلم، وفضله وحلاوته وعزته، لم يعدل عنه إلا لعشًى في بصيرته".
ومن صفات المؤمنين ما قاله الله في كتابه المبين: ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ [الشورى: 37]، هذه سجيتهم، وهذا طبعهم وهذا خُلقهم، وهناك ترابط وثيق وعلاقة متينة التقوى والعفو عن الوراء؛ ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [البقرة: 237]، وفي آية الأخلاق الجامعة ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف:199].
بعض الناس يظن أنه إذا عفا نقص قدره، وقلت رجولته، وضعفت شجاعته، وانهزمت نفسيته، وأن عفوه هزيمة، وهذا من مداخل الشيطان، وإلا فالعفو فيه عزةٍ ورفعةٍ ومنعةٍ وإحسان، وفي صحيح مسلم عن ولد عدنان "وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا".
وعند أحمد: "ولا يعفو عبدٌ عن مظلمة إلا زاده الله بها عزًّا يوم القيامة"، ولما جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال: كم نعفو عن الخادم؟ فصمت ثم أعاد عليه الكلام، فصمت، ثم كانت الثلاثة، قال: "اعف عنه في كل يوم سبعين مرة" (رواه أبو داوود والبيهقي).
فخذ من أخيك العفو واغفر ذنوبه، ولا تكن في كل الأمور تعاتبه، فاستعيذ من يبادر العفو ويرفع السهو.
ومن عوائق العفو ومداخل الشيطان على الإنسان أن يقول: الحق لي، أو أنا أكبر منه سنًّا، أو هو المخطئ علينا، أو أنا لن أتنازل، والموفق من يبدأ بالعفو ويسلم أولاً، وخيرهما الذين يبدأ بالسلام، فلا ينتظر الآخر يتقدم ويعتذر ويتكرم.
أيها المسلمون: نرفع أكفّ الضراعة، ونحن نصلي التراويح مع جماعة، "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عنَّا"، دعوة جميلة علمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لزوجته عائشة -رضي الله عنها-، وهي الدعوة الثابتة الفريدة التي تُقال في رجاء ليلة القدر، فهل تأملناها؟ هل عقلناها؟ فهلا عفونا ليعفو الله عنَّا، هلا تجاوزنا عمن أساء إلينا ليعفو الله عنا، هلا تسامحنا وتغاضينا ليعفُو الله عنا، بعضنا بعيد عن هذا الدعاء، بعضنا يدعو بهذا الدعاء وقلبه مشحون بالغل والشحناء والهجر والتدابر والبغضاء والقطيعة والعقوق والعناء.
العفو راحة نفسية، وراحة إيمانية، وعيشة هنية، وحياة طيبة وسعادة دنيوية وأجور أخروية:
لما عفوت ولم أحقد على أحد *** أرحت نفسي من هم العداوات
إني أحيي عدوي حين رؤيته *** لأدفع الشر عني بالتحياتِ
وأظهر البشر للإنسان أبغضه *** كما إن قد حشى قلبي محباتِ
العفو طمأنينة وسكينة، وعزة نفس ورفعة، العفو لا يُنقِص القدر، ولا يعني الضعف والخضوع، ولا الانهزامية والخضوع، بل الحكمة والعقل، والقوة على النفس والفضل، العفو والتجاوز هو الشجاعة والقوة.
أفضل العفو وأعظمه وأجله وأكبره ما كان عند المقدرة، فليس الحليم من ظُلِمَ فحلُم حتى إذا قدر انتقم، لكن الحليم من ظُلم فقدر وعفا، ولهذا رتَّب المولى ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران:134].
ولتعلم أيها الأخ العافي -وفقك الله للبر الوافي- أنه كلما ازاد الخطأ عظمًا ازداد العفو والصفح فضلاً وأجرًا، ومن عُرف بالعفو والصفح والتجاوز والمدح ساد وعظم في القلوب واختفت عنه العيوب لاسيما إذا كان المقابل ضعيفًا أو قاصرًا أو جاهلاً:
قالوا: سكت وقد خُوصمت *** قلت لهم: إن الجواب لباب الشر مفتاح
فالعفو عن جاهلٍ أو أحمقٍ أدبٌ *** نعم وفيه لصون العرض إصلاح
إن الأسود لتخشى وهي صامتة *** والكلب يُحثى ويُرمى وهو نباح
إن خلق العفو والصفح خلقٌ لا يقدر عليه إلا الكبار، والنفوس العظام القدار وتطهير القلب من أدران الكبار والصغار.
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب *** ولا ينال العلا من دأبه الغضب
العفو رحمةٌ للمسيء، وتوثيق للروابط الاجتماعية والتلاحمات الأسرية بعيدًا عن الانفصالات الأخوية والعوائد الجاهلية، العفو سببٌ لرضا الله وتقواه، وسببٌ الألفة والمودة، ومحبة عباد الله وشعورٌ بالراحة، وسلامة النفس من الأمراض المحتقنة، والضربات القلبية التي تؤثر على الإنسان ولا بد، فإذا أردت راحة نفسك فاجعل شعار العفو ورفع الجناح والصفح والصلاح.
تعالوا بنا نطوي الحديث الذي جرى *** ولا سمع الواشي بذاك ولا درى
تعالوا بنا حتى نعود إلى الرضى *** وحتى كأن العهد لن يتغيرا
ولا تذكروا ذاك الذي كان بيننا *** على أنه ما كان ذنب فيُذكرا
لقد طال شرح القال والقيل بيننا *** وما طال ذاك الشرح إلا ليُقصرا
عفا الله عن ذاك العتاب الذي جرى *** فكم ليلة بتنا وكما بات بيننا
من الأنس من يُنسى به طيب الكرى *** أحاديث أحلى في النفوس من المنى
الخطبة الثانية:
العفو -أيها المسلمون- منهج الأنبياء، ومسلك الصلحاء وطريق الأوفياء، فها هو يوسف -عليه السلام- حصل له من إخوته من الأذى والتقلبات، وأجمعوا على رميه وقتله، ثم باعوه بدراهم معدودة، فمكَّنه الله بعد الابتلاء، وبشَّره بعد الذل والازدراء، فأصبح عزيز مصر وصاحب الملك، فجاء إخوته إليه ينتظرون صنيعه، ويترقبون حديثه، فإذا الكرم والحلم والعفو والصفح، ﴿قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [يوسف:92].
وها هو هنا نبينا، عفوه العظيم وحلمه الكريم يوم فتح مكة حين تمكن من رقاب أعدائه وممن حاربه وطارده ومنعوه وآذوه، تتجلى الأخلاق الجميلة العلياء التي لا يستطيعها إلا العظماء، فقال كلمةً تجلجلت للمسامع وترنمت في المجامع: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
صفوحٌ عن الإجرام حتى كأنه *** من العفو لم يعرف من الناس مجرما
وكذا ما فعله مع الأعرابي حينما جذَبه وأثر ذلك في صفحة عنقه، ومع هذا يقول آمرًا له: مُر لي يا رسول الله من مال الله، فيلتفت ويضحك ويأمر له بعطاء ولا يزيد على ذلك.
إذا كانت النفوس كبارًا *** تعبت في مرادها الأجسام
وكما أن العفو والصفح خُلق الأنبياء -عليهم السلام-، فها هو أيضًا خُلق الكرام؛ فهذا عمر -رضي الله عنه- كان يقول: "كل الناس في حلٍّ"، ولما قدم عيينة بن حصن ونزل على ابن أخيه الحر بن قيس، فقال عيينة لابن أخيه: لك وجه عند هذا الأمير؟ فتستأذن لي عليه، فلما دخل عليه قال: يا ابن الخطاب! والله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى همَّ به، فقال الحر يا أمير المؤمنين إن الله قال لنبيه: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف:199]، وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافًا عند كتاب الله" (رواه البخاري).
وعندما شتم رجل الشعبي فجعل يقول: أنت كذا وكذا، قال الشعبي: إن كنت صادقًا فغفر الله لي، وإن كنت كاذبًا فغفر الله لك.
وقيل للفضيل بن مروان: فلان يشتمك، فقال: لأغيظن من أمره؛ يغفر الله لنا وله، قيل له: ومن أمره؟ قال: الشيطان.
وقال الحسن بن علي -رضي الله عنهما-: لو أن رجلاً شتمني في أذني هذه، وأعتذر في أذني الأخرى لقبلت عذره، وهذا إمام أهل السنة والجماعة، الإمام أحمد -رحمه الله- يعفو ويصفح عن كل من آذاه ويتلو: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور:22]، ويقولُ: "ماذا ينفعك أن يُعذَّب أخوك المسلم بسببك"؟!
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية، يقول عنه تلميذه ابن القيم: ما رأيت أحدًا قط أجمع لخصال العفو والصفح والحِل منه، وكان يقول: "كل أعدائي في حلٍّ"، وما دعا على أحد منهم قط.
وختامًا فاعفوا واصفحوا وسلموا وتصافحوا، فأنتم في شهر العفو والمغفرة، فيا من عق أباه وجفا أخاه، وقطع أخته وهجر جاره، وصرم إخوانه، يا من ظلم عماله وآذى زوجته أو آذت زوجها، وقطع أرحامه وأعمامه وأخواله وأحبابه. البدار.. البدار في شهر رمضان للعفو والصفح والإحسان عما بدر وكان، فشهركم الجنان فيه مفتحة والنيران مغلقة والرحمات نازلة والهبات دارة، وخاتمة المطاف.
سألزم نفسي الصفح عن كل مذنبٍ *** وإن كثرت منه علي الجرائم
فما الناس إلا واحد من ثلاثةٍ *** شريفٌ ومشروفٌ ومثلي مقاوم
فأما الذي فوقي فأعرف فضله *** وأتبع فيه الحق والحق لازم
وأما الذي دوني فإن قال: صنت عن *** إجابته عرضي وإن لام لائم
وأما الذي مثلي فإن زل أو هفا *** تفضلت إن الفضل بالحلم حاكم
والله أعلم.