عناصر الخطبة
- إرسال هود عليه السلام إلى قومه عاد
- دعوتهم إلى الإيمان ورفضهم لها
- مجادلتهم لهود عليه السلام ورميه بالجنون
- إرسال الريح عليهم عذابًا وانتقامًا
- دروس مستفادة من قصة هود عليه السلام مع قومه
اقتباس فهود عليه السلام أرسله الله -عز وجل- إلى قوم عاد الذين كانوا يعيشون في الأحقاف ما بين اليمن وعمان، عاشوا ردها من الزمن في حياة هنية ورغد من العيش، حباهم الله سبحانه نعمًا وافرة وخيرات جليلة ففجروا العيون، وزرعوا الأرض وأنشؤوا البساتين وشيدوا القصور، وخصهم الله -عز وجل- فوق ذلك كله بسطة في أجسامهم، وقوة في أبدانهم ..
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله -عز وجل- في السر والعلن، وتلاوة كتاب الله وفهمه وتدبره وفهم معانيه والعمل به، وسنتحدث هذا اليوم -بمشيئة الله تعالى- عن قصة نبي الله هود عليه السلام.
فهود عليه السلام أرسله الله -عز وجل- إلى قوم عاد الذين كانوا يعيشون في الأحقاف ما بين اليمن وعمان، عاشوا ردها من الزمن في حياة هنية ورغد من العيش، حباهم الله سبحانه نعمًا وافرة وخيرات جليلة ففجروا العيون، وزرعوا الأرض وأنشؤوا البساتين وشيدوا القصور، وخصهم الله -عز وجل- فوق ذلك كله بسطة في أجسامهم، وقوة في أبدانهم، وآتاهم ما لم يؤتِ أحدًا من العالمين، ولكنهم لم يفكروا في مبدأ هذا الخلق ولم يحاولوا التعرف إلى مصدر هذه النعم، وغاية ما وصلت إليه عقولهم وارتاحت إليه طباعهم أن اتخذوا أصنامًا لهم آلهة، يُخضعون لها جباههم ويعفرون في ثراها خدودهم ويتوجهون إليها بالشكر كلما وقعوا على خير، ويفزعون إليها كلما أصابهم ضير.
ثم إنهم بعد ذلك أفسدوا في الأرض، فأذل القويُّ منهم الضعيف، وبطش الكبير بالصغير، فأراد الله -جل وعلا- هداية للأقوياء وتمكينًا للضعفاء وتهذيبًا للنفوس مما ران عليها وغطاها من الجهل، ورفعًا للحجب التي تراكمت على بصائرهم أن يرسل إليهم رسولاً من أنفسهم يحدثهم بلغتهم، ويخاطبهم بأسلوبهم، ويرشدهم إلى خالقهم، ويبين لهم سفاهة عبادتهم رحمة من الله -جل وعلا- وكرمًا.
وكان هو عليه السلام رجلاً من أوسطهم نسبًا، وأكرمهم خلقًا، وأرجحهم حلمًا، وأرحبهم صدرًا، فاختاره الله ليكون أمين رسالته، وصاحب دعوته، لعل الله يهدي به هذه العقول الضالة، ويقوّم هذه النفوس المعوجة، فصدع بالأمر، وتحمل الرسالة يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، بعزم يقلقل الجبال، وحلم يهزم الجهال، وخرج عليهم منكرًا أصنامهم ومسفهًا عبادتهم لها.
قال لهم: ما هذه الأحجار التي تنحتونها ثم تعبدونها وتلجؤون إليها؟! ما نفعها وما ضرها؟! هل تغني عنكم من الله شيئًا؟! هل تجلب لكم نفعًا أو تدفع عنكم شرًّا؟! إن هذا إلا ازدراء لعقولكم وامتهان لكرامتكم، وقال لهم: إن هناك إلهًا حقيقيًا أحق أن تعبدوه، وربًّا جديرًا بأن تتوجهوا إليه، هو الذي خلقكم ورزقكم، وهو الذي أحياكم وهو الذي يميتكم، مكّن لكم في الأرض، وأنبت لكم الزرع، وبسط لكم في الأجسام، وبارك لكم في الأنعام، فآمنوا به واحذروا أن تعموا عن الحق أو تكابروا في الله فيصيبكم ما أصاب قوم نوح، وما عهدهم منكم ببعيد.
قال لهم ذلك راجيًا أن تصل كلماته إلى أعماق نفوسهم فيؤمنوا بالله ويهتدوا إلى عبادته، ولكنه رأى عيونًا حائرة؛ حيث سمعوا كلامًا لم يكونوا قبل قد سمعوه، وقولاً لم يألفوه، فقالوا: ما هذا الذي تهذي به؟! وكيف تريد أن نعبد الله وحده من غير شركاء!! إننا نعبد هذه الأصنام لتقربنا إلى الله وتشفع لنا عنده.
وقال لهم: يا قوم: إنما الله إله واحد لا شريك له، هو المستحق للعبادة، وهو قريب غير بعيد، أما هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله وتريدون شفاعتها وأن تقربكم إلى الله زلفى فإنها تبعدكم عنه من حيث ظننتم أنكم إليه تقتربون، وتدل على جهلكم في الوقت الذي تظنون فيه أنكم تعلمون وتفهمون.
فأعرضوا عنه، وقالوا: ما أنت إلا سفيه طائش الحلم تسفِّه عبادتنا وتعيب ما وجدنا عليه آباءنا، فما ميزتك علينا؟! أنت تأكل كما نأكل، وتشرب كما نشرب، وحياتك كحياتنا، فلِمَ اختصك الله بالرسالة وآثرك بالدعوة؟! ما نظن إلا إنك من الكاذبين.
قال هود عليه السلام: يا قوم: ليس بي سفاهة عقل ولا حماقة رأي، ولقد عشت فيكم دهرًا طويلاً، فما أنكرتم عليَّ شيئًا، وما جربتم عليَّ حمقًا ولا طيشًا، وما الغريب في أن يختص الله واحدًا من قومه برسالته ويحمّله دعوته، إنما الغريب أن يترك الناس سدى من غير رسول، وفوضى لا وازع لهم ولا رادع، وأنا لست بيائس من إيمانكم، ولا ضائق الصبر بسفهائكم، ففكروا بعقولكم وانفذوا إلى الحقائق ببصائركم، تروا أن الله واحد في كل شيء فآمنوا به واستغفروه، يرسل السماء عليكم مدرارًا، ويمددكم بأموال فوق أموالكم، ويزدكم قوة إلى قوتكم، ولا تتولوا مجرمين، واعلموا أنكم بعد موتكم سوف تُبعثون، مَنْ عَمِل صالحًا فلنفسه، ومن أساء فعليها، فتدبروا لأنفسكم، وخذوا الأهبة لآخرتكم وقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم، وإني لكم نذير مبين.
فردوا عليه فقالوا: لا شك أن واحدًا من آلهتنا قد مسّك بسوء، فخولطت في عقلك ودخل عليك في تفكيرك، فأصبحت تهذي بكلمات لا حقيقة لها إلا في خلدك، ولا ظل لها إلا في تفكيرك، وإلا فما الاستغفار الذي يرسل الله بعده الماء، ويمد بالمال، ويزيد في القوة، وما يوم البعث الذي تزعم أننا نعود منه، بعد أن نصبح عظامًا نخرة وجثثًا بالية؟! هيهات هيهات لما تعد وتزعم!! وما هي إلا حياتنا نموت وما يهلكنا إلا الدهر، ثم ما العذاب الذي تعدنا به ونتوقع أن نلقاه؟! إننا لن نذعن لما تقول، ولن نرجع عن عبادة آلهتنا، فآتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين.
فلما تبين له العناد في أحاديثهم، والإصرار على كفرهم، قال لهم: إني أشهد الله أنني قد بلغت وما قصرت، وجاهدت وما أحجمت، وسوف أستمر على هذا البلاغ وذاك الجهاد ولا أبالي جمعكم، ولا أخاف بطشكم، فكيدوني كيدًا، أو أجمعوا بي بطشًا، إني توكلت على الله ربي وربكم، ما من دابة إلا هو أخذ بناصيتها -والناصية هي خصلة الشعر في مقدم الرأس- إن ربي على صراط مستقيم، فظل هو عليه السلام يدعو قومه وهم معرضون، وفيما هم على هذا الحال رأوا سحابًا أسود في السماء، فنظروا إليه وخفوا إلى رؤيته سريعًا وقالوا: هذا سحاب عارض سيمطرنا، ثم تهيؤوا لاستقباله، وأعدوا حقولهم لنزوله، ولكن هودًا عليه السلام قال لهم: ليس هذا سحاب رحمة، وإنما هو ريح نقمة، هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم، وما راعهم إلا أن رأوا رحالهم ودوابهم في الصحراء تحملها الرياح القوية الشديدة وتقذف بها إلى مكان بعيد، فدخلهم الفزع والرعب، وأدركهم الهلع، وهرعوا سراعًا إلى بيوتهم يغلقونها عليهم ظنًّا أنهم بذلك ينجون، ولكن البلاء كان عامًّا وشاملاً؛ إذ حملت الريح رمال الصحراء وقذفتها عليهم، وظلت سبع ليال وثمانية أيام متتاليات حسومًا، أي دائمات متتابعات، أصبح القوم بعدها كأنهم أعجاز نخل خاوية، وعفا ظلهم، ودرس رسمهم، وانمحى من التاريخ أمرهم، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ [هود:117].
أما هود فقد آوى إليه صحبه ومن آمن به، وظلوا بمكانهم، تهزم الرياح بصوتها، وتسفي الرمال وهم آمنون مطمئنون حتى هدأت الريح، وصفا الحال ثم انتقل إلى حضرموت، وقضى بها البقية الباقية من عمره.
أسأل الله أن ينفعني وإياكم بهدي كتابه وسنة خاتم رسله، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم على آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه، واعتبروا بما حدث للأمم السابقة عندما كذبوا رسلهم. وإكمالاً لحديثنا عن قصة هود عليه السلام مع قومه، نقول وبالله التوفيق: إن قصة هود عليه السلام مع قومه وردت في عدد من سور القرآن الكريم منها الأعراف وهود والشعراء والحاقة وغيرها، إجمالاً وتفصيلاً.
ومما يستفاد من هذه القصة -إضافة إلى ما ذكرناه في الخطبة الأولى- ما يلي:
أولاً: أنهم كانوا نازلين بالأحقاف بين اليمن وعُمان إلى حضرموت، والأحقاف جمع حقف، وهو الرمل المستطيل المرتفع.
ثانيًا: أنهم استعجلوا عذاب الله ولم يؤمنوا به، فعاقبهم الله أشد العقاب.
ثالثًا: إن من أهم أهداف ذكر هذه القصة في القرآن الكريم في عدة مواضع: هو تحذير كفار مكة الذين لم يؤمنوا برسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يحل بهم العذاب على كفرهم وتكذيبهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- مثل ما حل بعاد قوم هود عليه السلام، ودعوة لهم بأن يستجيبوا للدعوة ويبادروا بالتوبة قبل أن تحل بهم النقمة.
رابعًا: كمال النصح والشفقة من هود عليه السلام على قومه وحسن مجادلتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وهكذا ينبغي لكل داعية ناصح أمين.
خامسًا: دلّت الآيات على فساد التقليد حين ذمهم بسلوك طريقة آبائهم في الكفر والشرك بالله، وتدل على أن المعارف مكتسبة، وتدل على بطلان كل مذهب لا دليل عليه.
سادسًا: أن الإيمان بالله سبب نجاة من آمن من قوم هود عليه السلام.
سابعًا: أن الله أهلك المكذبين -قوم عاد- بريح عاتية، فكانت تحمل الرجل منهم فترفعه في الهواء ثم تنكسه على أم رأسه، فتثلع رأسه حتى تبينه من جثته، وكانوا قومًا عمالقة يسمون "العماليق"، ومع ذلك أهلكهم مع قوتهم وشدتهم بسبب تكذيبهم وكفرهم.
ثامنًا: أنهم كانوا يبنون بكل ريع -وهو المكان المرتفع- أي علامة للعبث واللهو وإظهار القوة، لا للحاجة إليها، فأنكر الله -جل وعلا- عليهم على لسان هود عليه السلام كما في الآية رقم 118 من سورة الشعراء، كما أنهم بنوا مصانع وقصورًا راجين الخلود في الدنيا، وهذه إشارة إلى أن عملهم ذلك لقصر نظرهم على الدنيا، والإعجاب بالآثار، والتباهي بالمشيدات، والغفلة عن أعمال المجدين البصيرين بالعواقب الصالحين المصلحين.
أسأل الله أن نكون ممن يقرأ القرآن وقصصه ويعتبر ويتعظ ويتذكر ويعمل بكتاب الله وسنة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-.
ألا وإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
وصلوا -عباد الله- وسلموا على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.