عناصر الخطبة
- الطمع وأثره على النفس
- المراد بالرضا وأثره
- السخط والجزع وعدم الرضا وأثره
- قصص في الرضا بقضاء الله وقدره
- الحث على الرضا بقضاء الله وقدره
اقتباس إن السعيد الحق هو من رضي بما قسَم الله له، وصبَر لمواقع القضاء خيره وشره، وأحسَّ وذاق طعم الإيمان، ولذلك تعرضت أمة الإسلام أفراداً وشعوب وجماعات للضعف والهوان والشتات، وتعرضت للنكبات والنكسات على فترات من الزمان حين استبدلت الرضا بربها ونبيها ودينها بالرضا بالدنيا وشهواتها، بل ..
الخطبة الأولى:
الحمد للهِ عزَّ واقتَدَر، وعَلا وقهَر، لا محيدَ عنه ولا مفرّ، أحمده، سبحانَه وأشكُره وقد تأذَّن بالزيادةِ لمن شكرَ، وأتوب إليه وأستَغفره يقبَل توبة عبدِه إذا أنابَ واستغفَر، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له شهادةً تنجِي قائلَها يومَ العرضِ الأكبر..
وأشهد أنّ سيِّدنا ونبينا محمَدًا عبد الله ورسوله سيّد البشر، صلّى الله وسلَّم وبَارَك عليه وعلى آلِه الأطهار وأصحابِه الأخيَار والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسلّم تسليمًا كثيرًا ما اتّصَلت عين بنظرٍ وأذُن بخبر.
أما بعد:
صغيرٌ يطلبُ الكِبرا *** وشيخٌ ود لو صَغُرا
وخالٍ يشتهي عملا ً*** وذو عملٍ به ضَجِرا
ورب المال في تعب *** وفي تعب من افتقرا
وذو الأولاد مهمومٌ *** وطالبهم قد انفطرا
ومن فقد الجمال شكا *** وقد يشكو الذي بُهِرا
ويبغي المجد في لهفٍ *** فإن يظفر به فترا
شُكاةٌ ما لها حَكَمٌ *** سوى الخصمين إن حضرا
عباد الله: هكذا هي حياة الإنسان لا تدوم على حال، ولا يستقر لها قرار، وكلما تطلع المرء إلى أمر طلب غيره، وكلما كان على حال تاقت نفسه إلى حال أخرى، وكلما اشتهى شيئاً وحصل عليه سعى إلى غيره، وكلما وصل إلى منصب أو مكانة طمع في غيرها.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لو كان لابن آدم واديانِ من مالٍ لابتغى ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على مَن تاب" (متفق عليه).
وقد نتج عن هذه الحال الكثير من أمراض النفس البشرية؛ كالهموم والأحزان والقلق والاضطرابات وعدم الاستقرار والمشاكل والصراعات، والحروب بين الناس، وظلم الإنسان لأخيه الإنسان وتعديه على نفسه وماله وعرضه.
وقد جاء الإسلام بعلاج لهذه النفسيات وهذه الآثار والنتائج، وذلك بتوحيد الله بأسمائه وصفاته، وتحقيق عبودية الرضا بما قسم الله للعباد من أرزاق وأقدار وأحوال وابتلاءات.
قال تعالى: ﴿أهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف:32].
وقد بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الغنى الحقيقي والسعادة والراحة يكمن في الرضا فقال: "ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس" (الترمذي وقال: صحيح).
وقال -عليه الصلاة والسلام-: "ليس الغنى كثرة العرض المال، ولكن الغنى غنى النفس" ﴿مسلم﴾.
إن الرضا يعني سكون القلب إلى اختيار الرب -سبحانه- وهو قبول حكم الله في السراء والضراء، والعلم أن ما قسمه الله هو الخير كله، لذا قال الحسين بن علي -رضي الله عنهما-: "من اتكل على حسن اختيار الله -تعالى-، لم يتمن غير ما اختار الله له".
وليس الرضا هو الاستسلام لواقع يمكن تغييره بالسعي، والأخذ بالأسباب؛ كالتداوي من مرض، أو السعي وراء الرزق، أو دفع ضرر ما؛ لأن الاستسلام هو الانهزام وعدم بذل الجهد والأخذ بالأسباب لتحقيق الهدف.. إنما الرضا باستفراغك الوسع، وبذل الجهد والأسباب في تحقيق الهدف، لكن لم توفق إليه، فترضى بما قسم الله لك من غير جزع، أو ضجر، أو سخط؛ كالذي تزوج ولم يرزق الولد رغم سعيه للعلاج، والذي أصيب بمرض لم يستطع دفعه بالدواء، والذي ابتلاه الله بالفقر وضيق ذات اليد، فاجتهد في تحصيل الغنى فلم يوفق.
هنا يأتي التحلي بصفة الرضا بما كتبه الله وقدره، فتحيل القلب إلى سرور دائم، وتشعر النفس بنعيم مقيم.. قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يعزِّي رجلاً مات ولده: "إن صبرت جرى عليك القدر، وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت مأثوم".
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قد أفلح من أسلم ورُزق كفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه" (رواه مسلم).
أيها المؤمنون عباد الله: إن السعيد الحق هو من رضي بما قسَم الله له، وصبَر لمواقع القضاء خيره وشره، وأحسَّ وذاق طعم الإيمان؛ كما قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رضي بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً" (مسلم:1/46).
ولذلك تعرضت أمة الإسلام أفراداً وشعوبا وجماعات للضعف والهوان والشتات، وتعرضت للنكبات والنكسات على فترات من الزمان حين استبدلت الرضا بربها ونبيها ودينها بالرضا بالدنيا وشهواتها، بل وسعت إلى طلب رضا أعدائها، وتنصلت عن قيمها ومبادئها، فزادت تعاستها وزاد شقائها، وعندما تعود إلى طريقها المستقيم تعود لها خيرتها ومكانتها، فالخير كله في الرضا.. قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَالَ حِينَ يُمْسِي: رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُرْضِيَهُ" (مسلم:1/46).
ولقد كتب الفاروق إلى أبي موسى الأشعري -رضي الله عنهما- يقول له: "أما بعد: فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر".
إن السخط والجزع وعدم الرضا على قضاء الله وقدره، وبما قسمه للعباد لا يزيد المرء إلا شقاء وتعاسةً وبُعداً عن الله، ويحرم صاحبه من راحة البال وطمأنينة النفس، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم؛ فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط" (البخاري).
والرضا هو السياج الذي يحمي المسلم من تقلبات الزمن، وهو البستان الوارف الظلال الذي يأوي إليه المؤمن من هجير الحياة، والإنسان بدون الرضا يقع فريسة لليأس، وتتناوشه الهموم والغموم من كل حدب وصوب.
ولن يجد ملاذاً ولا راحة من الطمع والجشع والحسد وأمراض القلوب وسخط علام الغيوب إلا بالرضا بما قسم الله..
لقد ضرب لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- النموذج والمثل الأعلى في الرضا بما قسم الله تعالى؛ فعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود، قَالَ: اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى حَصِيرٍ، فَأَثَّرَ في جَنْبِهِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ، جَعَلْتُ أَمْسَحُ جَنْبَهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلاَ آذَنْتَنَا حَتَّى نَبْسُطَ لَكَ عَلَى الْحَصِيرِ شَيْئًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا لي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا وَالدُّنْيَا، إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا، كَرَاكِبٍ ظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا" (أحمد 1/391، ح3709).
قال أبو حاتم: "مِن أكثر مواهب الله لعباده وأعظمها خطرًا: القناعة، وليس شيء أروح للبدن من الرضا بالقضاء، والثقة بالقسم، ولو لم يكن في القناعة خصلة تُحمد إلا الراحة، وعدم الدخول في مواضع السوء لطلب الفضل، لكان الواجب على العاقل ألا يفارق القناعة على حالة من الأحوال" (روضة العقلاء؛ لابن حبان، ص:149).
النفس تجزع أن تكون فقيرة *** والفقر خير من غناً يطغيها
وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت*** فجميع ما في الأرض لا يكفيها
عباد الله: يحكى أن أرملة فقيرة عاشت مع طفلها الصغير في حجرة صغيرة فوق سطح أحد المنازل حياةً متواضعة في ظروف صعبة، إلا أن هذه الأسرة الصغيرة ليس أمامها إلا أن ترضى بقدرها، لكن أكثر ما كان يُزعِج الأم هو المطر في فصل الشتاء.. لكون الغرفة تحيطها أربعة جدران، ولها باب خشبي غير أنه ليس لها سقف.
مر على الطفل أربع سنوات منذ ولادته لم تتعرض المدينة خلالها إلا لزخات متقطعة من المطر، وذات يوم تراكمت الغيوم وامتلأت السماء بالسحب الكثيفة الواعدة بمطر غزير ومع ساعات الليل الأولى هطل المطر بغزارة على المدينة فاختبأ الجميع في منازلهم.
أما الأرملة والطفل فكان عليهما مواجهة قدرهما.. نظر الطفل إلى أمه نظرة حائرة واندسّ في حضنها، ولكن جسد الأم والابن وثيابهما ابتلا بماء السماء المنهمر.. أسرعت الأم إلى باب الغرفة فخلعته ووضعته مائلاً على أحد الجدران، وخبّأت طفلها خلف الباب؛ لتحجب عنه سيل المطر المنهمر..
فنظر الطفل إلى أمه في سعادة بريئة، وقد علت وجهه ابتسامة الرضا وقال لأمه: ترى ماذا يفعل الفقراء الذين ليس عندهم باب حين ينزل عليهم المطر؟ لقد أحس الصغير في هذه اللحظة أنه ينتمي إلى طبقة الأثرياء.. ففي بيتهم باب..
فكيف لو رضيت بما قسم الله لك؟ ونظرت إلى نعم الله عليك بالرضا والشكر.. عندها فقط تنـزاح عنك الكثير من هموم الحياة؛ فما أجمل الرضا… إنه مصدر السعادة وهدوء البال.. يقول ابن القيّم -رحمه الله-: "الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين، وقرة عيون المشتاقين، ومن ملأ قلبه من الرضا بالقدر، ملأ الله صدره غنىً وأمناً، وفرَّغ قلبه لمحبته والإنابة إليه والتوكل عليه، ومن فاته حظُّه من الرضا، امتلأ قلبه بضدِ ذلك، واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه".
لما نزل بحذيفة بن اليمان الموت جزع جزعًا شديدًا، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: "ما أبكي أسفًا على الدنيا، بل الموت أحب إليَّ، ولكني لا أدري على ما أقدم على الرضا أم على سخط؟" (ابن أبي الدنيا: المحتضرين 1/122).
ولما قدم سعد بن أبي وقاص إلى مكة، وكان قد كُفَّ بصره، فجاءه الناس يهرعون إليه، كل واحد يسأله أن يدعو له، فيدعو لهذا ولهذا، وكان مجاب الدعوة. قال عبد الله بن السائب: فأتيته وأنا غلام، فتعرفت عليه فعرفني، وقال: أنت قارئ أهل مكة؟ قلت: نعم.. فقلت له: يا عم، أنت تدعو للناس فلو دعوت لنفسك، فردَّ الله عليك بصرك. فتبسم، وقال: يا بُني قضاء الله -سبحانه- عندي أحسن من بصري. (مدارج السالكين: 2/227).
اللهم املأ قلوبنا بالإيمان والراحة والطمأنينة والرضا والأمان.. قلت ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
عباد الله: إن أعظم أبواب الخير والراحة والنعيم أن يرضى عنك ربك في الدنيا والآخرة، ولن يصل المرء إلى هذه المكانة إلا بعقيدة صحيحة وعبادة سليمة وعمل صالح، والطمع فيما عند الله من أجر وثواب.
فليتك تحلو والحياة مريرة *** وليتك ترضى والإنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر *** وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين *** وكل الذي فوق التراب تراب
عنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ بَيْنَ يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ، فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لا نَرْضَى، وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَلا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالُوا: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رضْوَانِي، فَلا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا".
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.
اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ما فسد من أحوالنا، وخذ بنواصينا إلى كل خير؛ فاللهم اجعل لنا من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل عسر يسرا، ومن كل بلاء عافية.
اللهم احقن دماءنا، واحفظ بلادنا، وألف بين قلوبنا.. ومن أرادنا أو أراد بلادنا بسوء أو مكروه فرد كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه.
هذا وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، والحمد لله رب العالمين.