الستر وفضله

عناصر الخطبة

  1. الله هو الستير
  2. الستر خُلق عظيم
  3. فضل الستر على النفس والآخرين
  4. الستر لا يخالف الإنكار على المذنب
  5. أقسام المذنبين
اقتباس

إن المسلم في الحياة معرّض للخطأ والزلل، فلو فُضح في كل خطيئة لاستمرأ الخطأ وزاد فجوره، وقل حياؤه، ولهذا كان من ستر الله للعبد أنه إذا فعل المعصية واسترجع، تاب الله عليه وستره في الدنيا، وذكّره بها يوم القيامة ثم يعفو عنه..

إن الحمد لله…

أما بعد:

فيا أيها الناس: إن الله جل في علاه له الصفات العليا، التي لا يتطرق إليها النقص بحالٍ من الأحوال، ومن تلك الصفات الستر، فهو ستير يحب الستر، تعالى وتقدس.

عباد الله: الستر هو التغطية، ومنه قوله تعالى: ﴿حجابًا مستورًا﴾ يعنى حجابًا على حجاب، فالأول مستور بالثاني، ومعنى الستر الترك للقبائح، وستر العيوب والفضائح، فمن هذا المنطلق سنتطرق في هذه الخطبة عن الواجب على العبد تجاه نفسه وتجاه الخلق من الستر.

معاشر المسلمين: إن الستر صفة عظيمة اتصف الله بها، وحثّ الخلق عليها، فبها تشرق شمس المعروف، ويسود الإخاء، وينتشر حسن الظن بالآخرين.

إن المسلم في الحياة معرّض للخطأ والزلل، فلو فُضح في كل خطيئة لاستمرأ الخطأ وزاد فجوره، وقل حياؤه، ولهذا كان من ستر الله للعبد أنه إذا فعل المعصية واسترجع، تاب الله عليه وستره في الدنيا، وذكّره بها يوم القيامة ثم يعفو عنه.

إن ستر المسلم لغيره إذا أذنب، علامة على محبته له؛ حيث ستر عيبه وأرد منه التوبة، وأعرض عن فضيحته، وعلى العكس فمن فضح أخاه المسلم دلّ على كرهه له وإرادة السوء به، والتشهير به، ومن ثَم انتشرت البغضاء بين الناس.

بل إن الساتر لعيب غيره يحس بالسعادة والطمأنينة؛ لأنه فعل خيرًا، وستر مسلمًا، ويتذوّق طعم الإيمان عندما يستشعر الحديث الصحيح وهو ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة».

بل إن الساتر لعيب غيره يكتم سوءًا أن ينتشر، وفي انتشاره إعانة على فشو المنكر وتقوية لقلوب أهل المعاصي، وتقوية للشيطان على العاصي، وفيه دخول الفاضح لغيره في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾.

وعلى المسلم أن يستر نفسه، فإذا وقع في ذنب وستره الله أن لا يفضح نفسه، فيهتك ستر الله عليه، بل عليه أن يتوب ويتم ستر الله عليه، كما أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة قال صلى الله عليه وآله وسلم: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من الجهار أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله تعالى فيقول: عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه». ‌ولما قالت امرأة لعائشة يا أم المؤمنين: إن كريا أخذ بساقي، وأنا محرمة. قالت: "حجري حجري". وأعرضت عنها بوجهها، وقالت: بكفها. وقالت: "يا نساء المؤمنين، إذا أذنبت إحداكن ذنبًا، فلا تخبرن به الناس، ولتستغفر الله، ولتتب إليه، فإن العباد يعيرون ولا يغيرون، والله عز وجل يغيّر ولا يعيّر".

إن الساتر لعيبه قد استحى من الله ومن الخلق، ولهذا هو حسن الظن بربه يرجو المغفرة، وأما الذي يهتك ستر الله له فهو غير مراقب لله، ولم يستحِ من أحد، فهو بعيد عن التوبة، وعن المغفرة.

إن الواجب على المسلم أن يحزن عندما يرى أخاه قد وقع في معصية، وأن يسعى في ستره ونصحه، ودُعي عثمان إلى قوم على ريبة، فانطلق ليأخذهم فتفرقوا فلم يدركهم فأعتق رقبة شكرًا لله تعالى أن لا يكون جرى على يديه خزي مسلم.

ولهذا كان من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه إذا جاءه من يقرّ على نفسه بذنب، أعرض عنه حتى يكرر السؤال، ثم يلقنه الحجة في رفع الحد عنه، فقال: لمن جاءه وهو يقر على نفسه بالزنا: «لعلّك قبّلت، لعلك غمزت»، ويقول لمن شهد على نفسه بالسرقة: «لا إخالك سارقًا» ونحوها؛ علّه أن يذهب فيتوب ويستر على نفسه، فيتوب الله عليه.

قال أبو بكر: "لو أخذت سارقًا لأحببت أن يستره الله، ولو أخذت شاربًا لأحببت أن يستره الله".

وروى وكيع في الزهد (3/774) عن أبي الشعثاء قال: كان شرحبيل بن السمط على جيش، فقال: "إنكم نزلتم أرضًا فيها نساء وشراب، فمن أصاب منكم حدًّا فليأتنا حتى نطهّره"، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فكتب له: "لا أم لك تأمر قومًا ستر الله عليهم أن يهتكوا ستر الله عليهم".

ولهذا من وقع في ذنب، واعترف على نفسه عند الحاكم ليطهره، فله الرجوع قبل إقامة الحد عليه، ولو هرب أثناء إقامة الحد فلا يتبّع كما حصل في قصة ماعز الأسلمي رضي الله عنه، كما أخرج أبو داود في سننه من حديث نعيم بن هذال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما بلغه أن ماعزًا هرب منهم، وهم يرجمونه من شدة الرمي، فلحقوه حتى قتلوه، قال: «هلا تركتموه؛ لعله أن يتوب فيتوب الله عليه». ‌

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين………………………

أما بعد فيا أيها الناس: اتقوا الله وراقبوه، وتراحموا فيما بينكم بالستر والنصح، وعدم الكشف والفضائح، فالله ستير يحب الستر ويستر على من ستر، ومن تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته.

معاشر المسلمين: إن الستر لا يخالف الإنكار على المذنب، بل أستره وأنصحه وأنكر عليه جرمه، والستر يكون بين الناس بعضهم البعض، فإذا بلغ السلطان وجب إقامة الحد على صاحبه وحرمت الشفاعة حين إذن.

والستر يكون لمن زلت قدمه، ولم يكن يعرف بكثرة الأخطاء، فهذا يجب ستره وإقالة عثرته، وأما المكثر من الخطأ والمجاهر بالمعصية، فيجب رفعه للسلطان ليؤدّبه بما يكون رادعًا له ولغيره.

عباد الله: إن من الستر عدم نشر المنكرات التي تقع في البلد، خصوصًا ما يكون حصل خفية، وانتهى أمره، فبالستر يقضى عليه وبفضحه نشرٌ له بين الناس، واستمراء للمنكر.

فلو فرض أن رجلاً أغلق على نفسه داره، وأخذ في شرب الخمر، لم يكن لك الاطلاع عليه للتثبت، بل دعه في ستر الله، وانصحه إن استطعت، قال العلاء بن بدر: "إن الله لا يعذّب قومًا يسترون الذنوب".

ومثله من تزوج بامرأة أو خطبها، وبان له فيها عيب، فيجب أن يستر عليها، وأن لا يفضحها ويهتك سترها، فإنها عورة، فالحذر الحذر أن تكون مجالسنا هتك لستر الله على الناس، ألا تعلم أنك تحادّ الله بذلك، فالله يستر وأنت تفضح.

اللهم استر على المسلمين والمسلمات، وارزقنا وإياهم التوبة النصوح.