عناصر الخطبة
- ذم الشرع للإحباط
- محبة النبي الكريم للفأل الحسن
- الأحاديث النبوية الدالة على تمكن الإسلام وسيادته
- شهادة التاريخ على تكرر انبعاث المسلمين وتمكنهم.
اقتباس ومن أعظم الدلائل على عظمة هذا الدين أنه أشدُّ ما يكون قوة, وأصلبُ ما يكون عودا, وأعظم ما يكون رسوخاً وشموخاً؛ حين تنزل بساحته الأزمات, وتُوصد عليه المنافذ, حينئذ يحقق الإسلام معجزتَه, ويَنْبعث الجثمان الهامد, ويتدفق الدم في عروق أبنائه. فإذا النائم يصحو, وإذا الغافل يفيق, وإذا الجبان يتشجع, والضعيف يتقوى. إن هذه الأمة تمرض لكنها لا تموت, وتغفو لكنها…
الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام، وهدى قلوبنا للإيمان، ونوَّر بصائرنا بالقرآن؛ وأشهد ألا إله إلا الله، تعهد بحفظ كتابه من التحريف والبطلان، وتكفَّل برفعة دينه على سائر الأديان.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بشَّر أتباعه بالتمكين في الأرض على سائر الأنام، ووعدهم بفتح القرى والبلدان، صلى الله عليه وعلى صحابته الذين فتحوا الدنيا بالسيف والسِّنان، والحجة والبرهان، وعلى آله الطيبين الطاهرين, أولي الفضل والإحسان، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ [البقرة:197].
عباد الله: إن مَن يَرَ واقع أمتنا وأحوالها، وتسلُّطَ الأعداء على كثير من بقاعها, عسكرياً، أو ثقافياً، فقد يصيبه الإحباط، ويظنّ أن هذه الأمة قد هلكت، ومعالم الإسلام قد زالت.
وهذا ما جاء الشرع بذمه؛ فعن أَبي هريرة -رضي الله عنه-, أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا قَالَ الرجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ، فَهُوَ أهْلَكُهُمْ" رواه مسلم.
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحب الفأل الحَسَنَ؛ فليحذر المسلم من مجالسة المتشائمين والمحبطين, حتى لا تنتقل هذه العدوى وتسري إليه، فهي داء قتّال, تصيب المرء بالشّلل النفسي، والتخبط الذهني. إن هذا الدين العظيم, موعودٌ بنصر من الله، وتمكين في الأرض.
ومن أعظم الدلائل على عظمة هذا الدين أنه أشدُّ ما يكون قوة, وأصلبُ ما يكون عودا, وأعظم ما يكون رسوخاً وشموخاً؛ حين تنزل بساحته الأزمات, وتُوصد عليه المنافذ؛ حينئذ يحقق الإسلام معجزتَه, ويَنْبعث الجثمان الهامد, ويتدفق الدم في عروق أبنائه؛ فإذا النائم يصحو, وإذا الغافل يفيق, وإذا الجبان يتشجع, والضعيف يتقوى. إن هذه الأمة تمرض لكنها لا تموت, وتغفو لكنها لا تنام, وتخبو لكنها لا تَطْفَأُ أبداً.
بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ارتدت الجزيرة العربية بكاملها إلا ثلاث مدن وقرية: المدينة ومكة والطائف، وقرية هجر بالبحرين، ولم تكن الردة بمنع الزكاة فقط، بل ارتد كثير من الناس عن الإسلام بالكلية، ومنهم من فتن المسلمين في دينهم، ومنهم من قتل المسلمين، بل إن منهم من ادعى النبوة، وعمّ الكفر جزيرةَ العرب، فكان الموقف أشد مما نحن فيه الآن ألف مرة، حتى قال بعضهم: يا خليفة رسول الله، لا طاقة لنا بحرب العرب جميعاً!.
قالت عائشة: لما قُبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ارتدت العرب قاطبة, وأُشربت النفاق, وصار أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- كأنهم معزى في ليلة مطيرة بأرض كثيرة السباع.
حتى أقبل عمر فقال لِأَبِي بَكْرٍ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ, فَمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ", فَقَالَ: وَاللَّهِ! لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ, وَاللَّهِ! لَوْ مَنَعُونِي عناقا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-, لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ, فَقَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ.
. فهل انتهى أمر الإسلام؟ لا؛ بل قام الصديق -رضي الله عنه- وقام معه المسلمون، فما هو إلا عامٌ من الجهاد والقتال والنزال، حتى أشرقت الأرض من جديدٍ بنورِ ربها، وأسلمت الجزيرة العربية بكاملها، بل واتَّخَذ أبو بكر الصديق قراراً لا يخطر على البال! وهو إخراج جيشين من جزيرة العرب: جيش لفتح بلاد فارس، وجيش لفتح بلاد الروم.
عجبا لإيمانه ويقينه بالله! دولة صغيرة لم تلتئم جراحها من حروب الردة تواجه دولتين تقتسمان العالم: فارس والروم! لكنه اليقينُ بوعد الله: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم:47].
فبعث جيوش الإسلام إلى بلاد فارس، بقيادة خالد بن الوليد -رضي الله عنه- ففتحوا طرفاً منها، وجيشاً آخر بقيادة أبي عبيدة -رضي الله عنه- إلى أرض الشام ففتح بصرى ودمشق وما حولهما.
وتوفاه الله -عز وجل-, ومنّ على أهل الإسلام بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق، فقام بالأمر بعده قياماً تاماً، وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكاملها, وديار مصر كلها، وأكثر إقليم فارس، وكسر كسرى وأهانه غاية الهوان, وتقهقر إلى أقصى مملكته، وقصر قيصر وانتزع يده عن بلاد الشام، وانحدر إلى القسطنطينية، وأنفق أموالهما في سبيل الله، كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ثم لما كانت خلافة عثمان بن عفان -عليه رضوان الله- امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، فمن جهة الغرب: فُتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك، الأندلس, وقبرص, وبلاد القيروان, مما يلي البحر المحيط، ومن جهة المشرق: تم الفتح إلى أقصى بلاد الصين، وقُتل كسرى وباد ملكه بالكلية، وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز، وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جداً، وجُبي الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه-.
ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها. وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها". قال ابن كثير: "فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، فنسأل الله الإيمان به وبرسوله، والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا".
عباد الله: إن قراءةً متأنيةً لتاريخ الصليبيين وبيت المقدس تعطي الأمل بأن الواقع سوف يتغير, ففي سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة للهجرة دخل ألفُ ألفِ مقاتل بيتَ المقدس, وصنعوا فيه ما لا تصنعه وحوش الغاب, لبثوا فيه أسبوعا يقتلون المسلمين حتى بلغ عددُ القتلى أكثر من ستين ألفا, منهم الأئمة والعلماء والمتعبدون.
وكانوا يُجبرون المسلمين على إلقاء أنفسهم من أعالي البيوت لأنهم يشعلون النار عليهم وهم فيها, فلا يجدون مخرجا إلا بإلقاء أنفسهم من السطوح… فذهب الناسُ على وجوههم مستغيثين إلى العراق، وتباكى المسلمون في كل مكان لهذا الحدث، وظن اليائسون ألّا عودة لبيت المقدس أبداً إلى حظيرة المسلمين. وأنشد بعضهم:
أَحَلَّ الكفرُ بالإسلامِ ضيماً *** يطولُ عليهِ للدِّينِ النحيبُ فحَقٌّ ضائعٌ وحِمىً مُباحٌ *** وسيفٌ قاطعٌ ودمٌ صبيب وكم من مسلِمٍ أمْسى سليباً *** ومُسلمةٍ لها حرمٌ سليب أمورٌ لو تأمَّلَهُنَّ طِفْلٌ *** لطفَّلَ في عوارضِهِ الـمَشِيب أتُسْبَى المسلماتُ بكُلِّ ثغرٍ *** وعَيْشُ المسلمينَ إذاً يطيب؟
فهل انتهى دين الإسلام؟ لا, بل تمضي الأيام, وتدور الأعوام, وفي سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة للهجرة أعد صلاح الدين جيشا لاسترداد بيت المقدس, وبدأ في الإعداد. وفي وقت الإعداد تأتيه رسالة على لسان المسجد الأقصى:
يا أيُّها الملِكُ الَّذِي *** لِمَعالمِ الصُّلبانِ نَكَّسْ جاءت إليكَ ظُلامةٌ *** تسْعَى من البيت المقدَّس كُلُّ المساجدِ طُهِّرَت *** وأنا على شرفي أُنَجَّس
فانتحى وصاح: وا إسلاماه! وامتنع عن الضحك، وسارع في الإعداد، ولم يُقارف بعدها ما يُوجب الغُسل.
وعندما علم الصليبيون أن هذا من جنود محمد -صلى الله عليه وسلم-, تصالح ملوك النصارى وجاءوا بحدِّهم وحديدهم, وكانوا ثلاثةً وستين ألفا, وعندها تقابل الجيشان, وتواجه الفريقان، وأَسْفر وجه الإيمان، واغْبَرَّ وجه الظلم والطغيان, فدارت دائرة السوء على عبَدة الصلبان, فانهزم الكفار, ليؤسر ملوكهم, ويقتل منهم ثلاثون ألفاً, ويؤسر منهم ثلاثون ألفا؛ ثم سار نحو بيت المقدس فأخرجهم منه أذلة صاغرين.
ودخل المسلمون بيت المقدس، وطهروه من الصليب والخنزير، ونادى المسلمون بالأذان, ووحدوا الرحمن, وارتفعت الدعوات, وتنزلت البركات, وتجلت الكُرُبات, وأُقِيمت الصلوات, وأذن المؤذنون, وخَرَسَ القسيسيون.
وأُحضر منبرُ نور الدين رحمة الله, الذي كان يأمل أن يكون الفتح على يديه, فكان على يدي تلميذه صلاح الدين، ورقى الخطيبُ المنبرَ في أول جمعة بعد تعطل للجمعة والجماعة في المسجد الأقصى دام واحدا وتسعين عاما، فكان مما بدأ به الخطيب خطبته بعد أن حمد الله أن قال: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام:45].
فالإسلام باقٍ وشامخٌ مهما توالت عليه المصائب.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول ما تسمعون, وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيما لشأنه.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليما كثيرا.
عباد الله: وحين غزا التتار ديار المسلمين ودخلوها كالريح العقيم، ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم, دمروا المدن, وخربوا العمران, وأسالوا الدماء, وعطلوا الصلوات.
قال ابن كثير: "فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ عَمَّ الْبَلَاءُ، وَعَظُمَ الْعَزَاءُ بِجِنْكِزْخَانَ وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ التَّتَارِ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُمْ، وَامْتَدَّ إِفْسَادُهُمْ مِنْ أَقْصَى بِلَادِ الصِّينِ إِلَى أَنْ وَصَلُوا بِلَادَ الْعِرَاقِ وَمَا حَوْلَهَا، فَمَلَكُوا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ -وَهِيَ هَذِهِ السَّنَةُ- سَائِرَ الْمَمَالِكِ إِلَّا الْعِرَاقَ وَالْجَزِيرَةَ وَالشَّامَ وَمِصْرَ، وَقَتَلُوا فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ فِي بُلْدَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ كِبَارٍ وَصِغَارٍ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمْ يَدْخُلُوا بَلَدًا إِلَّا قَتَلُوا جَمِيعَ مَنْ فِيهِ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ وَالرِّجَالِ، وَكَثِيرًا مِنَ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ، وَأَتْلَفُوا مَا فِيهِ بِالنَّهْبِ إِنِ احْتَاجُوا إِلَيْهِ، وَبِالْحَرِيقِ إِنْ لَمْ يَحْتَاجُوا إِلَيْهِ، وَيُخَرِّبُونَ الْمَنَازِلَ، وَمَا عَجَزُوا عَنْ تَخْرِيبِهِ أَحْرَقُوهُ، وَأَكْثَرُ مَا يُحْرِقُونَ الْمَسَاجِدَ وَالْجَوَامِعَ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَانُوا يَأْخُذُونَ الْأُسَارَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَيُقَاتِلُونَ بِهِمْ، وَيُحَاصِرُونَ بِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَنْصَحُوا فِي الْقِتَالِ قَتَلُوهُمْ". اهـ.
بل قال ابن الأثير -رحمه الله-, وقد عاصر هذه الحادثة: لقد بقيت عدةَ سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها، كارهًا لذكرها، فأنا أقدِّم إليها رجلاً وأُؤخِّر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فياليت أمي لم تلدني! وياليتني متُّ قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا!…
وهذا الفصل يتضمن ذكرَ الحادثةِ العظمى، والمصيبة الكبرى التي عَقِمَتِ الأيام والليالي عن مثلها… عمَّت الخلائق، وخصّت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله -سبحانه وتعالى- آدم إلى الآن لم يُبتلوا بمثلها لكان صادقاً؛ فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها…
ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا، إلا يأجوج ومأجوج، وأما الدجال، فإنه يبقي على من اتبعه ويُهْلِكُ من خالفه، وهؤلاء لم يُبْقُوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشَقُّوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجِنَّة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح.
وَلَقَدْ جَرَى لِهَؤُلَاءِ التَّتَرِ مَا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ وَحَدِيثِهِ; حَتَّى إِنَّهُمْ دخلوا مَدِينَةَ مَرْوَ في نَحْوٍ مَنْ مِائَتَيْ أَلْفِ مُقَاتِلٍ فقَتَلُوا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ سَبْعَمِائَة أَلْف إِنْسَانٍ!.
وَتَاللَّهِ! لَا أَشُكُّ أَنَّ مَنْ يَجِيءُ بَعْدَنَا إِذَا بَعُدَ الْعَهْدُ، وَيَرَى هَذِهِ الْحَادِثَةَ مَسْطُورَةً يُنْكِرُهَا وَيَسْتَبْعِدُهَا، وَالْحَقُّ بِيَدِهِ، فَمَتَى اسْتَبْعَدَ ذَلِكَ فَلْيَنْظُرْ أَنَّنَا سَطَرْنَا نَحْنُ وَكُلُّ مَنْ جَمَعَ التَّارِيخَ فِي أَزَمَانِنَا هَذِهِ فِي وَقْتٍ كُلُّ مَنْ فِيهِ يَعْلَمُ هَذِهِ الْحَادِثَةَ. اهـ.
وهذا الوصف كلُّه من ابن الأثير، وهو لم يشهد فاجعتهم الكُبرى بسقوط بغداد سنةَ ستٍّ وخمسينَ وستِّمائة، وقَتْلِ الخليفةِ العباسيِ، وسفكِ دماءِ المسلمين، وهي فاجعةٌ تضاهي ما سبقها؛ بل تزيد.
فظن اليائسون حينها أن راية الإسلام نُكِسَتْ, ولن ترتفع بعد ذلك اليومِ أبداً, وأن أمةَ الفتح والنصر قد حقَّت عليها الهزيمة, ولن تعود إلى الميدان من جديد.
ولم يمض سوى سنواتٍ حتى تحققت معجزة الإسلام, فإذا بهؤلاء الجبابرة الغازين للإسلام, يغزوهم الإسلام, فيدخلون في دين الله أفواجا, يدخلون في دين المغلوبين على خلاف ما هو معروف من أن المغلوب مولع دائما بتقليد الغالب المنصور! ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً﴾ [فاطر:44].
فمهما رأينا في واقعنا بعض المآسي، فهي لا توازي شيئاً مما مرّت به الأمة قبل ذلك, وللكلام بقية إن شاء الله.