عناصر الخطبة
- نشأة الأحكام التي تنظم العلاقة بين الأفراد
- تنفيذ هذه الأحكام على المسلمين ومن تعاهد معهم من أهل الكتاب
- تولي الخلفاء بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
- صورة الشورى التي وقعت إثر مقتل عمر بن الخطاب
- فوائد جليلة من هذه الصورة
- أوضاع مضطربة في مناطق من العالم
- النظام الديمقراطي تتضاءل قيمته بجانب الشورى
- العالم يلفظ الأنظمة الوضعية
اقتباس نعم لا شك أن في الديمقراطية جوانبَ إيجابيةً يمكن الاستفادةَ منها، ولكني أردتُ أن أقول: إنها ليست كلُّها كذلك، وكذلك فهي ليست نهايةَ التاريخ، ولا نهايةَ الزمان والمكان، وأن عندنا في قيمنا، وتراثِنا، وحضارةِ أسلافنا، واجتهاداتِ علمائنا، ما يمكننا به أن نتجاوز الرَّكب، وأن نتخلَّص من أزماتٍ يتعرض لها العالم بسبب إصراره على اتباع الغرب في كل شيء، حتى ولو لم يكن مناسبًا ..
الحمد لله الذي أقام الحجة ببدائع حِكَمِه، وأظهرها بقضائه وحُكمه، وأيَّدها بتتابع النِّعَم على المطيعين، وتوالي النِّقَم على المُعرضين، حتى قطع أعذار الفُجَّار بعجائب صُنعه، وأخضع قلوب الأبرار لطاعة أمره سبحانه، قهر السماوات والأرضَ حتى جاءتا طائعتين، وصرَّف الليل والنهار فهما يهتفان بوحدانيته في العالمين، وتناديان بكبريائه وعزته في الأولين والآخرين. أشهد أن لا إله إلا هو الواحد القهار، الذي قهرت قوَّتُه ذوي القوى، الجبار الذي خضعت لجبروته الجبابرة، العزيز الذي ذلَّت لعزته أعناق الطغاة المتكبِّرة. سبحانه من إلهٍ لطيفٍ بعباده، رحيمٍ بخلقه.
وأشهد أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- عبدُه المجتبى، ونبيُّه المرتضى، الذي ختم الله به رسالاته للعالمين، وأوضح به الحجة والسبيل على خلقه أجمعين، صلى الله عليه وسلم، بما أوضح وبيَّن وعلَّم وهدى، وصلى الله عليه وسلم، بما جاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع هداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: فقد كنت أزمعتُ الحديثَ في هذه الجمعة عما الناس إليه في حاجة مما يتعلَّق بأحكام شرعية وعقدية تتعلق بهذا البرد، وما فيه من العِبَر، وما فيه من لُطف الشارع، وحِكمة الشرع، ولكني أرجأت هذا الحديث لجمعةٍ قادمة لصالح ما يلاحظه كل متابع من اضطراب سياسي في كثير من بلدان العالم من حولنا قريبِهِ وبعيدِه.
وأقدِّم بين يدي ذلك بهذه المقدمة:
بعث الله رسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- داعيًا لدين التوحيد والعدل، قائمًا ومبشرًا بأن لا إله إلا الله، ولما حاربه أهلُ مكة انتقل إلى القبائل المجاورة؛ لدعوتها إلى هذا الدين، حتى آمن به قومٌ من أهل يثرب، وبايعوه أن لا يُشركوا بالله شيئًا، ولا يسرقون ولا يزنون، ولا يقتلون أولادهم، ولا يعصونه في معروف، وأن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأموالهم، وكانت هذه البيعة بداية تكوُّن المجتمع الإسلامي.
ثم دعا وجودُ أفراد هذه الجماعة معًا في مكان واحد بعد هجرة الرسول إلى المدينة إلى قيام أحكام تنظِّم العلاقات بين أفراد هذه العلاقة، وكانت هذه الأحكام نابعةً من الهدف الذي قامت الجماعة الإسلامية من أجله؛ وهو إقامة دين الله في الأرض، ونشره بين الناس كافة، ولقد عمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على تنفيذ هذه الأحكام على أفراد هذه الجماعة، وعلى من تعاهد معهم من أهل الكتاب، كما عمل -صلى الله عليه وسلم- على نشر أحكام هذا الدين بين الناس كافة بالدعوة الحسنة والجهاد المسلَّح.
ثم توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يستخلف، إلا أنه أشار عدة إشارات إلى تفضيل أبي بكر، ومنزلته منه -صلى الله عليه وسلم-، فبايع المسلمون أبا بكر على كتاب الله وسنة رسوله، ثم تولى من بعده عمر باختيار أبي بكر له -رضي الله عنهما-، فبايعه المسلمون على مثل ما بايعوا عليه أبا بكر، ثم قُتل عمر فجعل الأمر شورى في ستةٍ ممن مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راضٍ، فبايع الناسُ عثمان على كتاب الله وسنة رسوله وعملِ أبي بكر وعمرَ من بعده، وقد اتفقت الأمة على خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم-.
ثم تمَّت بعد ذلك الخلافة لمعاوية -رضي الله عنه- بمبايعة الحسن بن علي له -رضي الله عنهما-، وقد عهد معاويةُ من بعده لابنه يزيد، وأخذ له البيعة من الصحابة، فبايعه جمهور الصحابة والتابعين. ثم استمرَّت الخلافة في بني أمية عندما بايع أهلُ الشام مروانَ بن الحكم دون نكيرٍ من جمهور التابعين، ثم انتقلت من بعدهم إلى بني العباس الذين اتفق جمهور أهل الحل والعقد على صحة خلافتهم.
ولمَّا سقطت خلافة بني العباس على يد التتار عام 656هـ تقدَّم أحدُ بني العباس -وهو أحمد بن الخليفة الظاهر- إلى الظاهر بيبرس، فبايع بيبرسُ أحمدَ هذا على الخلافة، وتكوَّنت به الخلافةُ العباسيةُ بالقاهرة، التي لم يكن لها من نفوذ إلا الوجه الديني الذي كانت المماليك بحاجة إليه لتأييد سلطانهم.
وعندما انهزمت جيوش المماليك أمام العثمانيين في مرج دابق، وتقدم السلطان سليم إلى مصر فقضى على طومان باي، وألحق مصر بالولايات العثمانية، وكان في مصر آنذاك محمد المتوكِّل على الله الخليفة الثامن عشر من الدولة العباسية بمصر، وقد رأى السلطان سليم أن نصره لا يتم إلا بقبضه على الأزِمَّة الدينية، فيُقال: إنه أمر الخليفة بالتنازل له عن الخلافة وأنه تنازل له عنها في جامع أيا صوفيا بتركيا. والله أعلم بصحة هذه الرواية.
هذا تاريخ الخلافة، وقد كان يكون في بعض الأوقات خلفاءُ متعددون، وفي بعضها يبقى الخليفة رمزًا للمسلمين، والحُكمُ والإمارة بيد غيره، بقي الأمر هكذا حتى أَعلَنَ المجلسُ الوطني في تركيا إسقاط الخلافة في عام 1924م قبل نحو من أربعٍ وثمانين سنة.
ونلاحظ مما سبق أن حكام المسلمين كانوا يُعيَّنون في مناصبهم دون استخلاف كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيبايع الناس أكفأهم لهذا المنصب، أو باستخلافٍ لرجل معيَّن كما فعل أبو بكر مع عمر -رضي الله عنهما-، أو بشورى وانتخاب كما وقع في استخلاف عثمان، أو بغير هذه الصُّوَر.
وتبقى صورة الشورى التي وقعت إثر مقتل عمر، تبقى صورةً تحتاج إلى تجلية، وإلى أن تتعرَّف عليها الأمة لترى صورة مشرقة من صُوَر الحكم واختيار الخلفاء في الإسلام، وسوف أسوق قصة مقتل عمر -رضي الله عنه- وما تلاها من أحداث من صحيح الإمام البخاري -رحمه الله-، جامعًا لأحداثها من موضعين منه في سياق واحدٍ تتضح به القصة مع بعض الاختصار:
روى البخاري في صحيحه عن عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- قَبْلَ أَنْ يُصَابَ بِأَيَّامٍ بِالْمَدِينَةِ وَقَفَ عَلَى حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ، قَالَ: كَيْفَ فَعَلْتُمَا؟! أَتَخَافَانِ أَنْ تَكُونَا قَدْ حَمَّلْتُمَا الأَرْضَ مَا لا تُطِيقُ؟! قَالا: حَمَّلْنَاهَا أَمْرًا هِيَ لَهُ مُطِيقَةٌ مَا فِيهَا كَبِيرُ فَضْلٍ، ثم َقَالَ عُمَرُ: لَئِنْ سَلَّمَنِي اللَّهُ لأَدَعَنَّ أَرَامِلَ أَهْلِ الْعِرَاقِ لا يَحْتَجْنَ إِلَى رَجُلٍ بَعْدِي أَبَدًا.
قَالَ: فَمَا أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا رَابِعَةٌ حَتَّى أُصِيبَ، قَالَ: إِنِّي لَقَائِمٌ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ غَدَاةَ أُصِيبَ، وَكَانَ إِذَا مَرَّ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ قَالَ: اسْتَوُوا، حَتَّى إِذَا لَمْ يَرَ فِيهِنَّ خَلَلاً؛ تَقَدَّمَ فَكَبَّرَ، وَرُبَّمَا قَرَأَ سُورَةَ يُوسُفَ أَوْ النَّحْلَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ، فَمَا هُوَ إِلا أَنْ كَبَّرَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَتَلَنِي -أَوْ أَكَلَنِي- الْكَلْبُ، حِينَ طَعَنَهُ، فَطَارَ الْعِلْجُ بِسِكِّينٍ ذَاتِ طَرَفَيْنِ، لا يَمُرُّ عَلَى أَحَدٍ يَمِينًا وَلا شِمَالاً إِلا طَعَنَهُ، حَتَّى طَعَنَ ثَلاثَةَ عَشَرَ رَجُلاً مَاتَ مِنْهُمْ سَبْعَةٌ…
قال: فَصَلَّى بِهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عوفٍ صَلاةً خَفِيفَةً، فَلَمَّا انْصَرَفُوا قَالَ عمر: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ: انْظُرْ مَنْ قَتَلَنِي. فَجَالَ سَاعَةً ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: غُلامُ الْمُغِيرَةِ. قَالَ: الصَّنَعُ؟! قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قَاتَلَهُ اللَّهُ، لَقَدْ أَمَرْتُ بِهِ مَعْرُوفًا، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ مِيتَتِي بِيَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي الإِسْلامَ…
ثم قال لابنه عبد الله بن عمر: انْطَلِقْ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَقُلْ: يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ السَّلامَ، وَلا تَقُلْ: أَمِير الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنِّي لَسْتُ الْيَوْمَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَمِيرًا، وَقُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ. فَسَلَّمَ وَاسْتَأْذَنَ ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهَا فَوَجَدَهَا قَاعِدَةً تَبْكِي، فَقَالَ: يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ السَّلامَ وَيَسْتَأْذِنُ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ. فَقَالَتْ: كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي، وَلأُوثِرَنَّ بِهِ الْيَوْمَ عَلَى نَفْسِي، فَلَمَّا أَقْبَلَ قِيلَ: هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَدْ جَاءَ، قَالَ: ارْفَعُونِي، فَأَسْنَدَهُ رَجُلٌ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا لَدَيْكَ؟! قَالَ: الَّذِي تُحِبُّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَذِنَتْ. قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَا كَانَ مِنْ شَيْءٍ أَهَمُّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا أَنَا قَضَيْتُ فَاحْمِلُونِي، ثُمَّ سَلِّمْ فَقُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَإِنْ أَذِنَتْ لِي فَأَدْخِلُونِي، وَإِنْ رَدَّتْنِي رُدُّونِي إِلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ…
فَقَالُوا: أَوْصِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اسْتَخْلِفْ. قَالَ: مَا أَجِدُ أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْ هَؤُلاءِ النَّفَرِ أَوْ الرَّهْطِ الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، فَسَمَّى عَلِيًّا وَعُثْمَانَ وَالزُّبَيْرَ وَطَلْحَةَ وَسَعْدًا وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَقَالَ: يَشْهَدُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ… فَإِنْ أَصَابَتْ الإِمْرَةُ سَعْدًا فَهُوَ ذَاكَ وَإِلَّا فَلْيَسْتَعِنْ بِهِ أَيُّكُمْ مَا أُمِّرَ؛ فَإِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ عَنْ عَجْزٍ وَلا خِيَانَةٍ.
وَقَالَ: أُوصِي الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي بِالْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ وَيَحْفَظَ لَهُمْ حُرْمَتَهُمْ، وَأُوصِيهِ بِالأَنْصَارِ خَيْرًا: ﴿الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [الحشر: 9]، أَنْ يُقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَأَنْ يُعْفَى عَنْ مُسِيئِهِمْ، وَأُوصِيهِ بِأَهْلِ الأَمْصَارِ خَيْرًا، فَإِنَّهُمْ رِدْءُ الإِسْلامِ وَجُبَاةُ الْمَالِ وَغَيْظُ الْعَدُوِّ، وَأَنْ لا يُؤْخَذَ مِنْهُمْ إِلا فَضْلُهُمْ عَنْ رِضَاهُمْ، وَأُوصِيهِ بِالأَعْرَابِ خَيْرًا؛ فَإِنَّهُمْ أَصْلُ الْعَرَبِ وَمَادَّةُ الإِسْلامِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ حَوَاشِي أَمْوَالِهِمْ وَيُرَدَّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ وَلا يُكَلَّفُوا إِلا طَاقَتَهُمْ…
فلما قُبض وفرغ الناس من دفنه اجْتَمَعَ هَؤُلاءِ الرَّهْطُ: عليٌ، وعُثمان، وطلحةُ، والزبير، وسعدٌ، وعبد الرحمن بن عوف، وحضر معهم عبد الله بن عمر، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: اجْعَلُوا أَمْرَكُمْ إِلَى ثَلاثَةٍ مِنْكُمْ. فَقَالَ الزُّبَيْرُ: قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ طَلْحَةُ: قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عُثْمَانَ، وَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَيُّكُمَا تَبَرَّأَ مِنْ هَذَا الأَمْرِ فَنَجْعَلُهُ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ عَلَيْهِ وَالإِسْلامُ لَيَنْظُرَنَّ أَفْضَلَهُمْ فِي نَفْسِهِ؟! فَأُسْكِتَ الشَّيْخَانِ. فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَفَتَجْعَلُونَهُ إِلَيَّ، وَاللَّهُ عَلَيَّ أَنْ لا آلُ عَنْ أَفْضَلِكُمْ، قَالا: نَعَمْ. قَالَ لَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَسْتُ بِالَّذِي أُنَافِسُكُمْ عَلَى هَذَا الأَمْرِ، وَلَكِنَّكُمْ إِنْ شِئْتُمْ اخْتَرْتُ لَكُمْ مِنْكُمْ!! فَجَعَلُوا ذَلِكَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
قال المسور بن مخرمة -رضي الله عنه-: فَلَمَّا وَلَّوْا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَمْرَهُمْ؛ مَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَتَّى مَا أَرَى أَحَدًا مِنْ النَّاسِ يَتْبَعُ أُولَئِكَ الرَّهْطَ، وَلا يَطَأُ عَقِبَهُ.
وَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُشَاوِرُونَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي، حَتَّى إِذَا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَصْبَحْنَا مِنْهَا فَبَايَعْنَا عُثْمَانَ -قَالَ الْمِسْوَرُ:- طَرَقَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بَعْدَ هَجْعٍ مِنْ اللَّيْلِ؛ فَضَرَبَ الْبَابَ حَتَّى اسْتَيْقَظْتُ؛ فَقَالَ: أَرَاكَ نَائِمًا، فَوَاللَّهِ مَا اكْتَحَلْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ بِكَبِيرِ نَوْمٍ؛ انْطَلِقْ فَادْعُ الزُّبَيْرَ وَسَعْدًا، فَدَعَوْتُهُمَا لَهُ فَشَاوَرَهُمَا، ثُمَّ دَعَانِي فَقَالَ: ادْعُ لِي عَلِيًّا، فَدَعَوْتُهُ فَنَاجَاهُ حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ، وكان مما قال له: لَكَ قَرَابَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَالْقَدَمُ فِي الإِسْلامِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، فَاللَّهَ عَلَيْكَ لَئِنْ أَمَّرْتُكَ لَتَعْدِلَنَّ، وَلَئِنْ أَمَّرْتُ عُثْمَانَ لَتَسْمَعَنَّ وَلَتُطِيعَنَّ، ثُمَّ قَامَ عَلِيٌّ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ عَلَى طَمَعٍ، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي عُثْمَانَ، فَدَعَوْتُهُ فَنَاجَاهُ حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْمُؤَذِّنُ بِالصُّبْحِ وقال له مثل ما قال لعلي. وأخذ منهما الميثاق على ذلك.
فَلَمَّا صَلَّى لِلنَّاسِ الصُّبْحَ وَاجْتَمَعَ أُولَئِكَ الرَّهْطُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ فَأَرْسَلَ إِلَى مَنْ كَانَ حَاضِرًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَأَرْسَلَ إِلَى أُمَرَاءِ الأَجْنَادِ، وَكَانُوا وَافَوْا تِلْكَ الْحَجَّةَ مَعَ عُمَرَ.
فَلَمَّا اجْتَمَعُوا تَشَهَّدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ: يَا عَلِيُّ: إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ النَّاسِ فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ، فَلا تَجْعَلَنَّ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلاً، فَقَالَ عليٌ: أُبَايِعُكَ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ، فَبَايَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ الْمُهَاجِرُونَ، وَالأَنْصَارُ، وَأُمَرَاءُ الأَجْنَادِ، وَالْمُسْلِمُونَ.
إنها والله صورة مشرقة من حضارة هذه الأمة، ومن نُضجها، وحسن سياستها وتدبيرها، إن أمر الاختيار أمر موكولٌ إلى الناس بشرط أن يختاروا من يُقيم لهم أمر دينهم، ويسوسهم في دنياهم، فإن تساووا في ذلك أو تقاربوا نُظر في الترشيح وتقديم بعضهم على البعض الآخر.
وإن في هذا الخبر لفوائد جليلة لا يتسع المقام لها، ولكنها جديرة بأن يلاحظها الساسة، وأن يُبرزها العلماء، وأن يتعرف عليها جمهور الناس.
فهذا عُمر ينصح للأمة، ولا يعيِّن واحدًا، ولكنه يجعل الأمر شورى، وهذا عبد الرحمن بن عوف يجتهد وينصح ويُشاور، وهذا عليّ يلزم الجماعة ويقبل بالاختيار، وهؤلاء الناس يستشارون فيشيرون، ويبحثون ويؤثِّرون.
إن لكل أمة من أُمم الأرض تاريخًا ومنهجًا وحضارة، وقد اختصَّنا الله من بين أُمم الأرض أجمعين بخير رسول، وأفضل كتاب، وبختم الأمم، وجَعَلَ صحابته خير الصحاب، وجعل أمته إن هي قامت بالواجب المفترض عليها خير الأُمم: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ﴾ [آل عمران: 110].
وإننا في زمن ظهرت فيه حضارةُ العالم الغربي، وفَرَضَ فيه بهيمنته -العسكرية والتقنية والثقافية- مفاهيمَهُ وتَصَوُّراتِه، بل وفي بعض الأحيان معتقداته، وعيبُ حضارة الغرب المعاصرة أنها حضارة جاهلية مفارقة لمنهج الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، ومن عيوبها كذلك أن عددًا من مفكريها وقادتها يظن أن ما وصلوا إليه في كل شيء يمثِّل نهايةَ التاريخ، وروعةَ الفكر، وغايةَ الإبداع، وأنهم هم الزمانُ والمكانُ، فما صلح لهم فإنه هو الصالح، وما لم يرُق لهم أو لم يعرفوه فإنه لا خير فيه.
قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الجاثية: 18]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا هل بلغت؟!"، قالوا: نعم. قال: "اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغٍ أوعى من سامع". متفق عليه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله العليم الحكيم، مالك الملك، ومصرف الأمر، سبحانه لم يزل خالقًا عليمًا، أشهد أن لا إله إلا هو، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
وبعد: أكثر من ثلاثمائة قتيل في كينيا، وتنامٍ هائل لأعمال العنف، مع تصاعدٍ لوتيرة الكراهية، مع تخوفات بنشوب حرب أهلية قبلية.
وفي باكستان -وخلال الأسبوع الماضي بعد مقتل بوتو- أشار تقرير نشرته جريدة (ذي نيوز) الباكستانية الشهيرة إلى أن باكستان تكبدت خسائر تبلغ قيمتها الإجمالية 455 بليون روبية باكستانية، أكثر من 52.7 بليون دولار أمريكي، وقد نقلت الجريدة عن مسؤول في وزارة المالية أن تلك المعطيات تشير إلى التقديرات الأولية فقط، أما الكشف عن الخسائر الحقيقية -وهي أكثر منها بكثير- سيأخذ وقتًا.
على صعيد آخر فإن الخسائر التي حصلت بسبب نهب البنوك وحرق أكثر من ستة آلاف سيارة على مستوى البلاد زادت على عشرة بلايين روبية.
وأوضح مسؤول بوزارة الداخلية أن "عدد القتلى بأعمال العنف بلغ ثمانية وخمسين شخصًا، وأصيب تسعة وثمانون بجروح، إضافة إلى تدمير مثيري الشغب الأملاك العامة والخاصة".
وفي الإطار نفسه أشار المصدر إلى أن قيمة الخسائر المادية بلغت عشرات الملايين من الدولارات، وشملت تدمير مئات المصارف والمتاجر والمكاتب، إضافة إلى إحراق عشرات القطارات، وذكرت الحكومة المؤقتة في بيان أن إجمالي الخسائر بشبكة السكك الحديدية بلغ مائتي مليون دولار بعد إحراق كامل لاثنتين وعشرين قاطرة ومائة وأربعين عربة.
وفي لبنان الجو مشحون، ولا تتفق الكلمة على أحد، وأحد عشر اجتماعًا لمجلس النواب دون نتيجة منذ ثلاثة أشهر، حيث قرروا تنصيب فخامة "الفراغ" رئيسًا للجمهورية.
وفي فلسطين قتلٌ وتناحرٌ، وضياعٌ للمصالح، وإفشال متعمَّد للحكومة المنتخبة، وعمليات واسعة للاحتلال، فاللهم سلم سلِّم.
بينما ما زال العراق يشهد أعمال عنف متواصلة، أودت بحياة نحو أربعة وعشرين ألف مدني في العام 2007م فقط.
وغيرها الكثير، وقد حرصت أحبتي على أن لا أذكر إلا ما هو قائمٌ الآن، وإلا فلو ذهبنا نتتبع السنوات القليلة الماضية، وننظر في الانتخابات الديمقراطية هنا وهناك لاحتجنا للكثير الكثير من الوقت.
بالطبع لكل بلد من هذه البلدان ظرفه الخاص، وتتدخل عوامل متعددة في الأحوال التي وصل إليها كلٌّ منها، ولكنَّا لا نستطيع أن نغُضَّ الطرف عن العامل المشترك بينها كلِّها ونجعله بريئًا، إن إشعال المنافسات بين الناس، وتدخلَ الفساد، وظهورَ الخيانة، وقتل المنافسين، والسعي لنقض ما يُبرم الآخرون، وعدمَ النَّظر إلى الدين، وإهمالَ التقوى في المرشحين، كلُّ هذه نتائجُ وثمارٌ لنبتة الديمقراطية.
نعم لا شك أن في الديمقراطية جوانبَ إيجابيةً يمكن الاستفادةَ منها، ولكني أردتُ أن أقول: إنها ليست كلُّها كذلك، وكذلك فهي ليست نهايةَ التاريخ، ولا نهايةَ الزمان والمكان، وأن عندنا في قيمنا، وتراثِنا، وحضارةِ أسلافنا، واجتهاداتِ علمائنا، ما يمكننا به أن نتجاوز الرَّكب، وأن نتخلَّص من أزماتٍ يتعرض لها العالم بسبب إصراره على اتباع الغرب في كل شيء، حتى ولو لم يكن مناسبًا.
ويجب أن لا يغيب عن أذهاننا أن حكم الشعب هذا أو اختياره يفوز فيه غالبًا الأكثر لؤمًا أو دعايةً وكذبًا بحسب مهارته في تغرير الناس، وأمواله في رشوة وسائل الإعلام وتحقيق مصالحها، ومصالح الشركات التي تدعمه، ويمتنع الكثيرون من التصويت؛ حيث تبلغ النسبة في أفضل الأحيان خمسين بالمائة من الناخبين، وفي آخر انتخابات بريطانية عام 2005م قالت إحدى النساء: ليس لدينا خيارات متعددة، كل واحد من الأحزاب الثلاثة على درجة من السوء مثل الآخر، وحينما يكون لدينا خيار جديد، وصندوق جديد اسمه "لا خيار مما تقدم" يمكن أن نعبر عن عدم رضانا.
وهكذا في أمريكا الآن؛ انتخابات لبلد يتجاوز عدد سكانه ثلاثمائة مليون ليس لهم من خيار إلا بين الديمقراطيين والجمهوريين.
ثم مَن فاز مِن الحزبين يفوز غالبًا بنسبة لا تصل نسبة خمسين بالمائة، فهي خمسين بالمائة من خمسين بالمائة؛ ما يدل على أن أكثر من خمسة وسبعين بالمائة من أهل البلاد لم يوافقوا على هذه النتيجة، وبالطبع هذا في الأحوال الممتازة، فيا للعقول والأحلام.
إنه في الوقت الذي يلفظ العقلاء من العالم الغربي هذه النظم الديكتاتورية المغلفة بنظام حرية الكلمة، تتلقف نخبُنا -التي تُدعى ظلمًا وزورًا بالنخب المثقفة- الديمقراطيةَ، وكأنها المنقذ للبشر في الدنيا والآخرة، وتحاول الولوج منها إلى الطعن في النظام الإسلامي.
اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه.
اللهم احفظ علينا أمننا، واحفظ علينا ديننا، ووفق ولي أمرنا لما فيه مراضيك، اللهم وفّقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، اللهم وفق حكام المسلمين لتحكيم شرعك، واتباع سنة نبيك، اللهم ألهمهم الحنو على الرعية، والعدل في القضية، والأمانة والنزاهة.
اللهم الطف بإخواننا المسلمين في فلسطين، وفي لبنان، وفي الصومال، وفي العراق، وفي باكستان، اللهم اجمع شملهم، ووحِّد كلمتهم، وادفع عنهم مكر عدوِّهم.
اللهم أغثنا…