عناصر الخطبة
- الفرق بين العفو والصفح
- من صور عفوه وصفحه صلى الله عليه وسلم
- منزلة العفو وفضله
- من صور عفو السلف الصالح وصفحهم
- سلامة القلب والعفو
اقتباس تعافَوا بينكم، وتجاوَزوا عمَّن أساءَ إليكم؛ ابتغاءَ وجهِ الله تعالى، ورغبةً في ثوابِ العفو وجزاء الصَّفح، واخرُجوا من ضيق المناقَشة إلى فُسحةِ المُسامحة، ومن صعوبة المُعاسَرة إلى سهولةِ المُعاشَرة، واطوُوا بساطَ التقاطُع والوحشة، وصِلوا حبلَ الأُخُوَّة، ورُمُّوا أسبابَ المودّة، واقبَلوا المعذِرة؛ فإن ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله..
أيها الإخوة: لقد منح الله -تعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- من الأخلاق أعظمها وأجملها؛ فاستحق أن يثني عليه -سبحانه- بكتابه الكريم ثناءً فريداً يعجز كل قلم، وكل تصور، عن وصفه فقد قال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم:4].
نعم إن هذا الثناء الرباني من الله شهادة لا تعدلها شهادة في الوجود.. لأنها شهادة من الله الكبير المتعال.. وهي في ذات الوقت حث للأمة أن تتخذ هديه قدوة ومثلاً أعلى يحتذى، فما من خُلق حسن إلا وله منه أوفر الحظ والنصيب.. وأفضل أخلاق المؤمن وأعلاها خلق العفو والصفح..
والعفو: هو التّجاوز عن الذّنب، أما الصّفح: فهو عفو وزيادة؛ إذ هو إزالةُ أثرِ الذّنب من النّفس، وصفحت عنه: أوليته صفحةً جميلة، والفرق بينهما أن الصّفح أبلغُ من العفو؛ فقد يعفو الإنسان ولا يصفح؛ لأنّ الصّفح تجاوز عن الذّنب بالكلّيّة، واعتباره كأن لم يكن، أمّا العفو فإنّه يقتضي إسقاط اللّوم والذّمّ فقط، ولا يقتضى حصول الثّواب..
وقبل أن نتعرف على فضل هذا الخلق وما أعده الله للمتخلقين به من الجزاء لابد من إطلالة سريعة على سيرته -صلى الله عليه وسلم- العطرة وهي حافلة بالوقائع الدالة على ذلك؛ فعن أنس -رضي الله عنه- قَالَ: كُنْتُ أمشي مَعَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ، فأدْرَكَهُ أعْرَابِيٌّ فَجَبذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَديدةً، فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَقَدْ أثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُر لِي مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي عِنْدَكَ. فَالتَفَتَ إِلَيْهِ، فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ. (متفقٌ عَلَيْهِ).
وأَخْبَرَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهمَا-: أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ ﴿رجع﴾ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَفَلَ مَعَهُ، فَأَدْرَكَتْهُمُ القَائِلَةُ [النوم وقت الظهيرة] فِي وَادٍ كَثِيرِ العِضَاهِ، [شجر عظيم له شوك]، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تَحْتَ سَمُرَةٍ ﴿شجرة﴾، وَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ، وَنِمْنَا نَوْمَةً، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدْعُونَا، وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: "إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ عَلَيَّ سَيْفِي [سله عليَّ]، وَأَنَا نَائِمٌ"، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا [مصلتًا بارزًا ومستويًا]، فَقَالَ: "مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟" فَقُلْتُ: اللَّهُ الله الله وَلَمْ يُعَاقِبْهُ وَجَلَسَ. (رواه البخاري).
ولما دخل النبي -عليه الصلاة والسلام- مكة فاتحاً ظافراً مظفراً كانت له المنة على الملأ من قريش حتى وقف على بابِ الكعبة ثُمّ قَالَ: "يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَا تَرَوْنَ أَنّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟" وكلهم تحته أذلة ينتظرون حكمه فيهم "قَالُوا: "خَيْرًا أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ" قَالَ: "فَإِنّي أَقُولُ لَكُمْ كَمَا قَالَ يُوسُفُ لِإِخْوَتِهِ: ﴿ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(92)﴾ [يوسف:92]، اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطّلَقَاءُ".. فمنَّ عليهم -عليه الصلاة والسلام- وعفا عنهم وصفح بعد أن كان قادرًا عليهم.
أحبتي: لِمَ لا يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذلك؛ والعفو من أعظم الخصال وأطيبها؟! دعا إليه اللهُ -تعالى- ورغَّب به بأن جعله من صفات المتقين.. ومن أسباب دخول الجنة فقال: ﴿وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(134)﴾ [آل عمران:133-134].
قال الشيخ السعدي: " ﴿وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ أي: إذا حصل لهم من غيرهم أذيةٌ توجب غيظهم وهو: امتلاء قلوبهم من الحَنَق، الموجب للانتقام بالقول والفعل، هؤلاء لا يعملون بمقتضى الطباع البشرية، بل يكظمون ما في القلوب من الغيظ، ويصبرون عن مقابلة المسيء إليهم.
﴿وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾: يدخل في العفو عن الناس، العفو عن كل من أساء إليك بقول أو فعل، والعفو أبلغ من الكظم؛ لأن العفو ترك المؤاخذة مع المسامحة عن المسيء، وهذا إنما يكون ممن تحلى بالأخلاق الجميلة، وتخلى عن الأخلاق الرذيلة، وممن تاجر مع الله، وعفا عن عباد الله رحمةً بهم وإحساناً إليهم، وكراهةً لحصول الشر عليهم، ليعفو اللهُ عنه ويكون أجره على ربه الكريم لا على العبد الفقير".
وقال -سبحانه-: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [الشورى:40]، قال الشيخ السعدي: "ذكر الله في هذه الآية، مراتب العقوبات، وأنها على ثلاث مراتب: عدل وفضل وظلم…
فمرتبة العدل، جزاء السيئة بسيئة مثلها، ومرتبة الفضل: العفو والإصلاح عن المسيء، ولهذا قال: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾. يجزيه أجراً عظيماً، وثواباً كثيراً، وفي جعل أجر العافي على الله ما يهيج على العفو، وأن يعاملَ العبدُ الخلق بما يحب أن يعامله الله به، فكما يحب أن يعفو الله عنه، فَلْيَعْفُ عنهم، وكما يحب أن يسامحه الله، فليسامحهم، فإن الجزاء من جنس العمل.
ثم ثني بعد ذلك على هذه الصفة الجليلة فقال: ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [الشورى: 43] ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ﴾: على ما ينالُه من أذى الخلق، وَغَفَرَ: لهم بأن سمح لهم عمَّا يصدر منهم، إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ. أي: لمن الأمور التي حثَّ اللهُ عليها وأكَّدها، وأخبر أنَّه لا يُلَقَّاها إلا أهلُ الصبرِ والحظوظِ العظيمة، ومن الأمور التي لا يوفَّق لها إلا أولو العزائم والهمم، وذوو الألباب والبصائر؛ فإنَّ تركَ الانتصار للنفسِ بالقولِ أو الفعلِ، من أشقِّ شيءٍ على النفس، والصبر على الأذى، والصفح عنه، ومغفرتِهِ، ومقابلتِهِ بالإحسان، أشقُّ وأشقُّ، ولكنَّه يَسِيْرٌ على منْ يسَّره اللهُ عليه، وجاهدَ نفسَه على الاتِّصاف به، واستعانَ اللهَ على ذلك، ثم إذا ذاقَ العبدُ حلاوتَه، ووجد آثارَه، تلقَّاه بصدر رحب، وسعة الخُلُق، والتلذُّذ فيه".
قال الحسنُ: "أفضل أخلاق المؤمن العفو"، ولذلك كان لسلف الأمة من هذا الخلق أوفر الحظ والنصيب اقتفاءً لسنة حبيبهم وقدوتهم.. فهذا عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- يعلنها "كلّ النّاس منّي في حلّ".
وجلس ابن مسعود -رضي الله عنه- في السّوق يبتاع طعاما فابتاع، ثمّ طلب الدّراهم وكانت في عمامته فوجدها قد حُلَّت، فقال: لقد جلست وإنّها لمعي، فجعلوا يدعون على من أخذها ويقولون: اللّهمّ اقطع يد السّارق الّذي أخذها، اللّهمّ افعل به كذا، فقال عبد اللّه: "اللّهمّ إن كان حمله على أخذها حاجة فبارك له فيها، وإن كان حملته جراءة على الذّنب فاجعله آخر ذنوبه".
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدٍ، قَالَ: لَطَمْتُ مَوْلًى لَنَا فَهَرَبْتُ، ثُمَّ جِئْتُ قُبَيْلَ الظُّهْرِ، فَصَلَّيْتُ خَلْفَ أَبِي، فَدَعَاهُ وَدَعَانِي، ثُمَّ قَالَ للمَوْلَى: امْتَثِلْ مِنْهُ، [أي: افعل به مثل ما فعل بك] فَعَفَا المَوْلَى عَنْ مُعَاوِيَةَ… (رواه مسلم).
وروي أن سارقًا دخل خباء عمار بن ياسر بصفين فقيل له: اقطعه؛ فإنه من أعدائنا. فقال: "بل أستر عليه لعل الله يستر عليَّ يوم القيامة".
وأُتِيَ عبد الملك بن مروان بأسارى ابن الأشعث، فقال لرجاء بن حيوة: ماذا ترى..؟ قال: إنّ اللّه -تعالى- قد أعطاك ما تحبّ من الظّفر فأعط اللّه ما يحبّ من العفو، فعفا عنهم…
وعن صالح بن أحمد بن حنبل قال: قلت لأبي يوما: إنّ فضلاً الأنماطيّ جاء إليه رجل، فقال: اجعلني في حلّ، قال: لا جعلت أحداً في حلّ أبدًا، قال: فتبسّم، فلمّا مضت أيّام، قال: يا بنيّ، مررت بهذه الآية ﴿فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ فنظرت في تفسيرها، فإذا هو: "إذا كان يوم القيامة قام مناد فنادى: لا يقوم إلّا مَن كان أجره على اللّه، فلا يقوم إلّا من عفا"؛ فجعلت الميّت في حلّ من ضربه إيّاي، ثمّ جعل يقول: "وما على رجلٍ ألّا يعذّبَ اللّهُ بسببه أحداً..".
فرضي الله عنهم وأرضاهم وجعلنا الله من أهلِ العفوِ والإحسان والصفح والغفران، وعفا عنا جميعًا بمنّه وكرمه وهو العفو الغفور الكريم المنان.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: من فوائد العفو أنه من مظاهر حسن الخلق.. ودليل على كمالِ الإيمان وحسنِ الإسلام.. وسعةِ الصّدر وحسنِ الظّنّ بالله…كما أنه يثمر محبّةَ اللّه -عزّ وجلّ- ثمّ محبّةَ النّاس…
والعفو أمان من الفتن وعاصم من الزّلل… ودليل على كمال النّفس وشرفها.. والعفو يهيّئ المجتمع والنّشء الصّالح لحياة أفضل.. كما أن العفو والصفح طريقا نور وهداية لغير المسلمين.. والصفح يقوي رابطة التّآخي بين أفراد المجتمع ويجعلهم متحابّين متّحدين.. وإذا تحلّى معظم أفراد الأمة بالصّفح، كانت أمّة سعيدة في الدّنيا والآخرة. وذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء.
أيّها الإخوة: لا عافيةَ ولا راحة ولا سعادة إلا بسلامةِ القلب من وسَاوس الضغينة وغواشي الغِلّ ونيران العداوة وحسائِك الحقد.. ومن أمسَك في قلبِه العداوة وتربَّص الفرصَةَ للنّقمَة.. وأضمَر الشّرَّ لمن أساء إليه.. تكدَّر عيشُه، واضطربت نفسُه، ووهنَ جسدُه، وأُكِل عِرضُه..
أحبتي: تعافَوا بينكم، وتجاوَزوا عمَّن أساءَ إليكم؛ ابتغاءَ وجهِ الله -تعالى-، ورغبةً في ثوابِ العفو وجزاء الصَّفح، واخرُجوا من ضيق المناقَشة إلى فُسحةِ المُسامحة، ومن صعوبة المُعاسَرة إلى سهولةِ المُعاشَرة، واطوُوا بساطَ التقاطُع والوحشة، وصِلوا حبلَ الأُخُوَّة، ورُمُّوا أسبابَ المودّة، واقبَلوا المعذِرة؛ فإن قبولَ المعذرة من محاسنِ الشِّيم، وإذا قدرتم على المُسيء فاجعَلوا العفوَ عنه شُكرًا لله للقدرة عليه، وخصوا الأهل وذوي الرحم منه بأوفر الحظ والنصيب فهم أولى الناس به وأحراهم تحوزوا الحسنيين.
وصلوا وسلموا…