عناصر الخطبة
- وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- بسنته وسنة الخلفاء
- خوف الأنبياء من الشرك وسؤال الله الثبات
- ثبات الصحابة والتابعين وخوفهم من النفاق
- وجوب الحذر من النفاق والتوبة من ذنوب الخلوات
- تعاهد أهل الإيمان لقلوبهم
اقتباس اشتد خوفهم من الحور بعد الكور، ومن الغواية بعد الهداية، وأصبحوا يخافون على دينهم أشد الخوف، ويفرقون من انتكاس القلب، وسلب الإيمان، ويتراؤون النفاق عدواً قريباً غادراً يوشك أن يوقع بهم، فعظم…
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره…
أما بعد:
أيها المسلمون: فمن أعظم الوصايا التي تحمّلها السابقون وتلقّاها اللاحقون؛ ما جاء في حديث العرباض بن سارية -رضي الله عنه- من خبره الصادق يوم أن شعر الصحابه الكرام بدنو أجل إمامهم -صلى الله عليه وسلم- فاستزادوه من العلم، وسألوه أن يمحِّض لهم النصح، فوعظهم وأرشدهم، وعلَّمهم بما علَّمه الله من علم الغيب، وأخبرهم بأن من عاش منهم فسيدرك الاختلاف والاختلال، والتفرق وسوء الحال، ثم أوصاهم تلك الوصية العظيمة الجامعة المانعة التي لا يوليها حقها إلا من عض بالنواجذ عليها، فقال: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي".
فمن كان ذلك الهديُ النبوي إمامَهُ فلا خوف عليه، ومن كان أولئك الرجال قدوتَه ودليل?ه لم يحتج بعدهم -بإذن الله- إلى هاد وقدوة ودليل.
ولذا كان ينبغي على المسلم أن يرفع همته، ويعلي إسناده، وأن يعلق قلبه بالله -عز وجل- وبسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ثم بالسلف الصالحين الذين امتدحهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنهم مضوا إلى ربهم على خير حال، وأحسن مثال، لا يُعرف عنهم في مجملهم بدعة ولا غواية ولا هوى، قال صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم".
ولقد علم أولئك الأخيار والمتقون الأبرار أن القلب قُلَّبٌ وأن الفتنة لاتؤمن على أحد بعد الخليلين -صلى الله عليهما وسلم-، وقد قال أولهما وهو إبراهيم: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم: 35].
وقال الخليل الثاني محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو يناجي مولاه ويدعوه: "أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت والإنس والجن يموتون" [متفق عليه].
فلما وقرت هذه الحقيقة في نفوس القوم اشتد خوفهم من الحور بعد الكور، ومن الغواية بعد الهداية، وأصبحوا يخافون على دينهم أشد الخوف، ويفرقون من انتكاس القلب، وسلب الإيمان، ويتراءون النفاق عدواً قريباً غادراً يوشك أن يوقع بهم، فعظم خوفهم وقلقهم منه؛ كما قال الإمام البخاري -رحمه الله-: "قال ابن أبي مُليكة -رحمه الله-: أدركتُ ثلاثين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كلهم يخاف النفاق على نفسه".
وقال الجعد: "قلت لأبي رجاء العُطاردي: هل أدركتَ من أدركتَ من إصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يخافون النفاق؟ قال: "نعم شديدا، نعم شديدا، وإني أدركت منهم بحمد الله صدراً حسناً" وكان قد أدرك عمرَ -رضي الله عنه-.
بل إن عمر -رضي الله عنه- نفسَه، كان يسأل حذيفةَ صاحبَ سرّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقول: يا حذيفة هل عدّني -صلى الله عليه وسلم- من المنافقين؟
وعلى هذا المنهاج سار التابعون لهم بإحسان، هذا أحد ساداتهم وهو الحسن البصري -رحمه الله- يقول عن النفاق: "ما خافه إلا مؤمن وما أمِنه إلا منافق".
وعن المُعلَّى بن زياد قال: "سمعت الحسن -رحمه الله- يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا إله إلا هو: ما مضى مؤمن قط ولا بقي إلا وهو من النفاق مشفِق" أي خائف.
وهذا صنوه الإمام الجليل محمد بن سيرين يصف حاله، فيقول: "ما عليَّ شيءٌ أخوفَ من هذه الآية: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 8].
وقال أيوب: "كل آية في القران فيها ذِكر النفاق فإني أخافها على نفسي".
وكان سفيان الثوري -رحمه الله- يشتد قلقه ويبكي، ويقول: "أخاف أن أكون في أم الكتاب شقياً".
وكان يقول: "أخاف أن أُسلَب الإيمان عند الموت".
قال الحسن: "إن القوم لما رأوا النفاق يغول الإيمان لم يكن لهم همٌّ غيرَ النفاق".
قال الإمام ابن رجب -رحمه الله- في شرح: "باب خوف المؤمن أن يحبط عمله"، من صحيح البخاري: "وأصل هذا يرجع الى ما سبق ذكره من أن النفاق أصغر وأكبر، فالنفاق الأصغر هو نفاق العمل وهو الذي خافه هؤلاء على أنفسهم وهو باب النفاق الأكبر، فيُخشى على من غلبت عليه خصال النفاق الأصغر في حياته، أن يُخْرجه ذلك الى النفاق الأكبر حتى ينسلخ من الإيمان بالكلية؛ كما قال تعالى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الأنعام: 110].
وقال رحمه الله -تعالى- في "شرح الأربعين": "فالمؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر، ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة، فيخرجه إلى النفاق الأكبر، فإن دسائس السوء توجبُ سوء الخاتمة".
ومن هنا كان واجباً على من عظَّم ربه أن ينزّه دينه عمّا يُنقِصه أو يُحبطه لا سيما ما يكون من خصال النفاق، وهي مشهورة مذكورة في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص المتفق عليه: "أربعٌ من كان فيه كان منافقاً، وإن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر".
فيا من فرح بفضل الله عليه بالإيمان: احذر أن يحبط عملك ويزول إيمانك بسبب دسيسة سوءٍ أُشربها قلبك.
احذر خصال النفاق فإنها بريد الفسق والكفر.
دع الكذب فإنه موجوب للفجور ثم النار.
وإياك والغدر فلواء الغدر يُنصب يوم القيامة للتشهير بالغادرين.
ولا تخلف الوعد ولا تفجر في الخصومة فإن هذا دأب المنافقين.
ويا من كان عنده معصية مستديمة أخفاها عن الناس واطَّلَعَ عليها رب الناس: استغفِر الله منها، وحاذر أن يحبط عملك بسببها، قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "ما يؤمِّن أحدَكم أن ينظر النظرة فيحبط عمله؟ ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63].
اللهم ثبِّتنا على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة…
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم…
الخطبة الثانية:
الحمد لله…
أما بعد:
أيها المسلمون: أعظم الناس تعاهداً للإيمان وحرصاً على الثبات هم أعظم الناس قرباً من الله ومنزلةً لديه، وزلفى إليه؛ هذا إبراهيم أبو الأنبياء يقول وهو يبني بيت الله ويضع لبنة على لبنة: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 128].
وها هو يكسر الأصنام ويحطمها قطعة قطعة، ثم يسأل الله لنفسه وذريته الثبات على التوحيد والسلامة من الشرك، فيقول: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم: 35].
وها هو الكريم ابنُ الكريم ابنِ الكريم ابنِ الكريم يوسف -عليه الصلاة والسلام- وهو في آخر فصل من فصول حياته التي تقلب فيها بين الإيمان والصبر والرسالة والدعوة إلى التوحيد وأنواع العبودية، ها هو يخضع لربه في موقف هو من أشرف مقامات البشر وأعزِّها وأرفعها، فيقول: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [يوسف: 101].
وهذا محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو إمام المرسلين وسيد ولد آدم أجمعين لا ينفك من دعاء ربه كل حين: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".
وكان يقول كل صباح وكل مساء: "أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه".
ويعلِّمه ربه الاستعاذة من كيد الشيطان وفتنته، فيقول له: ﴿وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ(98)﴾ [المؤمنون: 97 – 98].
ويقول له: ﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأعراف: 200].
وهاهم عباد الله المتقون، وحزبه المفلحون، يتوبون من ذنوبهم، ويأوبون إلى مولاهم، فيثني عليهم ربهم بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 201].
اللهم اجعلنا من عبادك المتقين، وحزبك المفلحين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين…
اللهم أعز الإسلام والمسلمين…
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد…