بطاقة المادة
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | مقروء |
اللغة | العربية |
العنوان | اللغة |
---|---|
كلمات (بمناسبة الحملة التوعوية الأمنية المرورية) | العربية |
الحملات الصليبية بين الأمس واليوم | العربية |
بداية الحملات الصليبية | العربية |
عناصر الخطبة
اقتباسقَالَ الْمُؤَرِّخُ الْأُورُبِّيُّ دِيُورَانْتُ: “وَهَكَذَا تَوَحَّدَتْ أُورُوبَّا كَمَا لَمْ تَتَوَحَّدْ فِي تَارِيخِهَا كُلِّهِ… وَسَرَتْ رُوحُ الْحَمَاسَةِ فِيهَا كَمَا لَمْ تَسْرِ فِيهَا مِنْ قَبْلُ فِي أَثْنَاءِ هَذَا الِاسْتِعْدَادِ الْمَحْمُومِ لِلْحَرْبِ الْمُقَدَّسَةِ”، وَأَصَرَّ النِّسَاءُ وَالْأَطْفَالُ عَلَى الْمُشَارَكَةِ فِي هَذِهِ الْحَمْلَةِ ضِدَّ الْمُسْلِمِينَ.
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ؛ أَوْجَدَ الْخَلْقَ مِنَ الْعَدَمِ، وَرَبَّاهُمْ بِالنِّعَمِ. أَحْمَدُهُ وَأَشْكُرُهُ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ أَنْعَمَ عَلَى بَنِي الْإِنْسَانِ بِأَفْئِدَةٍ وَأَسْمَاعٍ وَأَبْصَارٍ؛ حَتَّى يَسْمَعُوا الْعِبَرَ، وَيَرَوُا الْآيَاتِ، وَيَتَعَلَّمُوا الْعُلُومَ، وَقَدْ كَانُوا لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا، ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النَّحْل:78].
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَكْرَمَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- بِالرِّسَالَةِ، وَأَكْرَمَ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِهِ؛ فَبَلَّغَهَا رِسَالَاتِ رَبِّهِ، وَنَصَحَ لَهَا، وَقَادَهَا فِي دَعْوَتِهَا وَجِهَادِهَا حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ -تَعَالَى-، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فَتِلْكَ وَصِيَّةُ اللَّهِ لَنَا وَلِمَنْ كَانُوا قَبْلَنَا، ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا﴾ [النِّسَاء:131].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: جَرَتَ فِي الْأَرْضِ آيَاتٌ وَعِبَرٌ، وَحَوَى التَّارِيخُ أَخْبَارَ كَثِيرٍ مِنَ الْأُمَمِ، عَاشُوا كَمَا عِشْنَا، وَعَمَّرُوا الْأَرْضَ كَمَا عَمَّرْنَا، ثُمَّ صَارُوا أَثَرًا بَعْدَ عَيْنٍ، وَخَبَرًا يُقْرَأُ فِي تَارِيخِ الْأُمَمِ؛ لِيَتَسَلَّى بِهِ مَنْ يَتَسَلَّى، وَيَعْتَبِرَ بِهِ مَنْ يَعْتَبِرُ. ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ(138)﴾ [آلِ عِمْرَانَ:137-138].
وَكَمَا قِيلَ: فَالتَّارِيخُ يُعِيدُ نَفْسَهُ، وَالْأَيَّامُ تَتَوَالَى، وَالسُّنَنُ تَتَكَرَّرُ، وَالْحَوَادِثُ تَتَشَابَهُ. وَالْمُفْلِحُ مَنْ فَقِهَ سُنَنَ اللَّهِ -تَعَالَى- فَاعْتَبَرَ، وَكَرَّسَ حَيَاتَهُ فِيمَا يُرْضِي رَبَّهُ، وَاجْتَنَبَ كُلَّ مَا يُسْخِطُهُ. وَالْأَحْمَقُ مَنْ يَرَى السُّنَنَ، وَيُبْصِرُ الْآيَاتِ وَالْعِبَرَ؛ فَلَا يَنْتَبِهُ وَلَا يَعْتَبِرُ، بَلْ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَنَامُ، وَيَنْتَظِرُ الْأَجَلَ وَهُوَ بِلَا عَمَلٍ.
وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَيَّامِ؛ أَيْ: قَبْلَ رَمَضَانَ بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ، مُنْذُ مَا يُقَارِبُ أَلْفَ عَامٍ، انْتَزَعَ الصَّلِيبِيُّونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَدَنَّسُوهُ زُهَاءَ تِسْعِينَ سَنَةً، وَأَنْشَؤُوا أَرْبَعَ إِمَارَاتٍ صَلِيبِيَّةٍ فِي الْمَشْرِقِ الْإِسْلَامِيِّ، وَمَكَثُوا فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ مِائَتَيْ سَنَةٍ، كَانَتْ أُورُوبَّةُ خِلَالَهَا تُرْسِلُ الْحَمَلَاتِ فِي إِثْرِ الْحَمَلَاتِ، وَالْجُيُوشَ تُرْدِفُ الْجُيُوشَ؛ لِإِحْكَامِ الْقَبْضَةِ عَلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّهَا فَشِلَتْ وَعَادَتْ أَدْرَاجَهَا مِنْ حَيْثُ أَتَتْ، بَعْدَ تَضْحِيَاتٍ جَسِيمَةٍ مِنْ قِبَلِ الْمُسْلِمِينَ فِي مِصْرَ وَالشَّامِ.
اصْطُلِحَ عَلَى تَسْمِيَةِ هَذِهِ الْبُعُوثِ الْإِفْرِنْجِيَّةِ الْكَاثُولِيكِيَّةِ بِالْحَمَلَاتِ الصَّلِيبِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْجُيُوشَ جُيِّشَتْ تَحْتَ رَايَةِ الصَّلِيبِ، وَبِشِعَارِ تَخْلِيصِ قَبْرِ يَسُوعَ الْمُقَدَّسِ، حَسبَ زَعْمِهِمْ.
وَلِهَذِهِ الْحَمَلَاتِ الضَّخْمَةِ الَّتِي اسْتَمَرَّتْ قَرْنَيْنِ كَامِلَيْنِ قِصَّةٌ دِينِيَّةٌ عِنْدَ عُبَّادِ الصَّلِيبِ؛ إِذْ إِنَّ قَادِحَ شَرَارَتِهَا رَاهِبٌ يُدْعَى: “بُطْرُس النَّاسِكَ”، وَمُسَعِّرَ حَرْبِهَا هُوَ الْمُعْتَلِي عَلَى سُدَّةِ عَرْشِ الْبَابَوِيَّةِ الْكَاثُولِيكِيَّةِ آنَذَاكَ الْبَابَا “أُورْبَانُ الثَّانِيَ”.
كَانَ بُطْرُسُ النَّاسِكُ مُنْقَطِعًا لِلرَّهْبَنَةِ وَالتَّعَبُّدِ فِي مَغَارَةٍ مِنْ مَغَارَاتِ أُورُوبَّا، وَأَثْنَاءَ رَهْبَنَتِهِ طَرَأَ عَلَيْهِ الْحَجُّ إِلَى بَلَدِ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَرَحَلَ إِلَيْهَا عَامَ سِتَّةٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ لِلْهِجْرَةِ، فَلَمَّا وَصَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَرَأَى سُلْطَانَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا غَاظَهُ ذَلِكَ، وَامْتَلَأَ قَلْبُهُ حِقْدًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَاجْتَمَعَ مَعَ بَطْرِيَرْكِ كَنَائِسِ فِلَسْطِينَ، وَظَلَّا يَبْكِيَانِ وَيَنْتَحِبَانِ وَيَتَذَاكَرَانِ مَجْدَ النَّصَارَى فِي تِلْكَ الْأَرْضِ، ثُمَّ قَطَعَ بُطْرُسُ النَّاسِكُ عَلَى نَفْسِهِ عَهْدًا لَيُجَنِّدَنَّ أُورُبَّةَ لِانْتِزَاعِ الْقُدْسِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَعَادَ إِلَى أُورُبَّةَ لِلْوَفَاءِ بِوَعْدِهِ، فَالْتَقَى بِالْبَابَا أُورْبَانَ فِي رُومَا، وَأَخْبَرَهُ بِخَبَرِهِ، وَكَانَ الْبَابَا أَشَدَّ حَمَاسًا مِنْ بُطْرُسَ لِيُحَقِّقَ مَجْدًا لِلنَّصَارَى عَامَّةً، وَلِلْبَابَوِيَّةِ الْكَاثُولِيكِيَّةِ عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ، وَاتَّخَذَ مِنْ بُطْرُسَ وَسِيلَةً إِعْلَامِيَّةً لِتَأْجِيجِ مَشَاعِرِ الْأُورُوبِّيِّينَ ضِدَّ الْمُسْلِمِينَ، فَسَارَ الرَّاهِبُ بُطْرُسُ يَجُوبُ أَرْجَاءَ أُورُوبَّةَ رَاكِبًا بَغْلَتَهُ، مُعْتَنِقًا صَلِيبَهُ، مُثِيرًا لِحَمَاسَةِ النَّاسِ، دَاعِيًا إِلَى حَرْبٍ مُقَدَّسَةٍ ضِدَّ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ لِرِحْلَتِهِ تِلْكَ أَبْلَغُ الْأَثَرِ فِي تَهْيِئَةِ النَّاسِ لِغَزْوِ الْمُسْلِمِينَ.
فَلَمَّا رَأَى الْبَابَا أُورْبَانُ أَنَّ الْوَقْتَ قَدْ حَانَ لِقَطْفِ ثَمَرَاتِ دعَايَاتِ بُطْرُسَ، وَأَنَّ الْحَمَاسَةَ الدِّينِيَّةَ قَدْ أَلْهَبَتْ قُلُوبَ الْأُورُوبِّيِّينَ، عَقَدَ مَجْمَعًا كَنَسِيًّا ضَخْمًا فِي فَرَنْسَا تَقَاطَرَ عَلَيْهِ النَّصَارَى مِنْ جَمِيعِ أَنْحَاءِ أُورُوبَّا حَتَّى امْتَلَأَتِ الْمُدُنُ وَالْقُرَى وَالْمَزَارِعُ الْمُحِيطَةُ بِمَكَانِ الْمَجْمَعِ.
وَفِي الْجَلْسَةِ الْعَاشِرَةِ مِنَ الْمَجْمَعِ، افْتَتَحَ بُطْرُسُ الْخِطَابَ بِالْأَكَاذِيبِ وَالدَّعَاوَى ضِدَّ الْمُسْلِمِينَ، مُعَدِّدًا مَا زَعَمَهُ شَدَائِدَ يُعَانِي مِنْهَا نَصَارَى الشَّرْقِ، فِي بَلَدِ يَسُوعَ.
فَلَمَّا تَهَيَّأَ النَّاسُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُمْ، قَامَ بَابَا أُورُوبَّا لِيَخْطُبَ خُطْبَةً مَلِيئَةً بِالشَّحْنِ ضِدَّ الْمُسْلِمِينَ، كَانَ مِنْ قَوْلِهِ فِيهَا: “أَيُّهَا الْمَسِيحِيُّونَ: إِنَّ تِلْكَ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ بِحُضُورِ شَخْصِهَا الْمُخُلِّصِ فِيهَا، وَتِلْكَ الْمَغَارَة الْمُرِيعَة الْمُخْتَصَّة بِفَادِينَا، وَذَلِكَ الْجَبَل الَّذِي عَلَيْهِ تَأَلَّمَ وَمَاتَ مِنْ أَجْلِنَا… كُلُّهَا أَضْحَتْ مِيرَاثًا لِشَعْبٍ غَرِيبٍ… وَلَمْ يَعُدْ مِنْ مَعْبَدٍ دَاخِلَ الْمَدِينَةِ الْمُقَدَّسَةِ الْخُصُوصِيَّةِ، وَالْمُشْرِقِ الَّذِي هُوَ الْمَهْدُ وَالْيَنْبُوعُ الْمُقَدَّسُ لِإِيمَانِنَا، لَمْ يَعُدْ مَشْهَدًا إِلَّا لافْتِخَارَاتِ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ“.
وَخَاطَبَ الشُّعُوبَ النَّصْرَانِيَّةَ الْأُورُوبِّيَّةَ بِعَامَّةٍ فَقَالَ: “يَا شَعْبَ الْفِرِنْجَةِ، شَعْبَ اللَّهِ الْمَحْبُوبَ الْمُخْتَارَ، لَقَدْ جَاءَتْ مِنْ تُخُومِ فِلَسْطِينَ، وَمِنْ مَدِينَةِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ أَنْبَاءٌ مُحْزِنَةٌ، تُعْلِنُ أَنَّ جِنْسًا لَعِينًا أَبْعَدَ مَا يَكُونُ عَنِ اللَّهِ قَدْ طَغَى وَبَغَى فِي تِلْكَ الْبِلَادِ؛ بِلَادِ الْمَسِيحِيِّينَ… إِلَى أَنْ قَالَ: فَلْيُثِرْ هِمَّتَكُمْ ضَرِيحُ الْمَسِيحِ الْمُقَدَّسُ رَبِّنَا وَمُنْقِذِنَا، الضَّرِيحُ الَّذِي تَمْتَلِكُهُ الْآنَ أُمَمٌ نَجِسَةٌ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَمَاكِنِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي لُوِّثَتْ وَدُنِّسَتْ“.
ثُمَّ خَصَّصَ الْبَابَا جُزْءًا مِنْ خِطَابِهِ لِلْأُمَّةِ الْفَرَنْسَاوِيَّةِ الَّتِي تَرْعَى هَذَا الْمَجْمَعَ الْهَائِلَ فَقَالَ لَهُمْ: “أَيُّهَا الطَّائِفَةُ الْفَرَنْسَاوِيَّةُ الْعَزِيزَةُ لَدَى اللَّهِ، إِنَّ كَنِيسَةَ الْمَسِيحِيِّينَ قَدْ وَضَعَتْ رَجَاهَا مُسْنَدًا عَلَى شَجَاعَتِكُمْ، فَأَنَا الَّذِي أَعْرِفُ جَيِّدًا تَقْوَاكُمْ وَكَفَاءَتَكُمْ بِالشَّجَاعَةِ وَالْغَيْرَةِ، وَقَدِ اجْتَزْتُ الْجِبَالَ الْأَلْبِيَّةَ وَحَضَرْتُ لِكَيْ أُنْذِرَ بِكَلَامِ اللَّهِ فِي وَسَطِ بِلَادِكُمْ… يَا أَيُّهَا الشُّجْعَانُ: اذْهَبُوا مُتَسَلِّحِينَ بِسَيْفِ مَفَاتِيحِي الْبُطْرُسِيَّةِ، وَاكْتَسِبُوا بِهَا لِذَوَاتِكُمْ خَزَائِنَ الْمُكَافَآتِ السَّمَاوِيَّةِ الْأَبَدِيَّةِ، فَإِذَا أَنْتُمُ انْتَصَرْتُمْ عَلَى أَعْدَائِكُمْ فَالْمُلْكُ الشَّرْقِيُّ يَكُونُ لَكُمْ قِسْمًا وَمِيرَاثًا، وَأَمَّا إِذَا قُتِلْتُمْ فَلَكُمُ الْمَجْدُ؛ لِأَنَّكُمْ تَمُوتُونَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ مَاتَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ“. -تَعَالَى- اللَّهُ عَنْ إِفْكِهِمْ وَكَذِبِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا.
ثُمَّ قَالَ: “إِنَّ أُورْشَلِيمَ أَرْضٌ لَا نَظِيرَ لَهَا فِي ثِمَارِهَا، هِيَ فِرْدَوْسُ الْمَبَاهِجِ، إِنَّ الْمَدِينَةَ الْعُظْمَى الْقَائِمَةَ فِي وَسَطِ الْعَالَمِ تَسْتَغِيثُ بِكُمْ أَنْ هُبُّوا لِإِنْقَاذِهَا، فَقُومُوا بِهَذِهِ الرِّحْلَةِ رَاغِبِينَ مُتَحَمِّسِينَ تَتَخَلَّصُوا مِنْ ذُنُوبِكُمْ، وَثِقُوا بِأَنَّكُمْ سَتَنَالُونَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَجْدًا لَا يَفْنَى فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ“، فَعَلَتْ أَصْوَاتُ الْجُمُوعِ الْحَاشِدَةِ الْمُتَحَمِّسَةِ قَائِلَةً: “تِلْكَ إِرَادَةُ اللَّهِ”، ثُمَّ أَمَرَ الْبَابَا الذَّاهِبِينَ إِلَى الْحَرْبِ أَنْ يَضَعُوا عَلَامَةَ الصَّلِيبِ عَلَى جِبَاهِهِمْ أَوْ صُدُورِهِمْ، وَتَقَدَّمَ جَمْعٌ مِنَ الْأَسَاقِفَةِ وَالْأُمَرَاءِ وَالتُّجَّارِ، وَخَرُّوا رَاكِعِينَ أَمَامَ الْبَابَا مُعْلِنِينَ أَنَّهُمْ وَهَبُوا نُفُوسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ لِلَّهِ، وَحَذَا حَذْوَهُمْ آلَافُ الْعَامَّةِ، وَخَرَجَ الرُّهْبَانُ وَالنُّسَّاكُ مِنْ صَوَامِعِهِمْ لِيَكُونُوا جُنُودَ الْمَسِيحِ حَسبَ زَعْمِهِمْ .
قَالَ الْمُؤَرِّخُ الْأُورُبِّيُّ دِيُورَانْتُ: “وَهَكَذَا تَوَحَّدَتْ أُورُوبَّا كَمَا لَمْ تَتَوَحَّدْ فِي تَارِيخِهَا كُلِّهِ… وَسَرَتْ رُوحُ الْحَمَاسَةِ فِيهَا كَمَا لَمْ تَسْرِ فِيهَا مِنْ قَبْلُ فِي أَثْنَاءِ هَذَا الِاسْتِعْدَادِ الْمَحْمُومِ لِلْحَرْبِ الْمُقَدَّسَةِ”، وَأَصَرَّ النِّسَاءُ وَالْأَطْفَالُ عَلَى الْمُشَارَكَةِ فِي هَذِهِ الْحَمْلَةِ ضِدَّ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَدْ صَوَّرَ الْمُؤَرِّخُ الْمُسْلِمُ ابْنُ الْأَثِيرِ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- الْحَمَاسَةَ الدِّينِيَّةَ لَدَى الصَّلِيبِيِّينَ لَمَّا اسْتَرَدَّ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بِقِيَادَةِ صَلَاحِ الدِّينِ، فَقَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: “ثُمَّ إِنَّ الرُّهْبَانَ وَالْقُسُسَ، وَخَلْقًا كَثِيرًا مِنْ مَشْهُورِيهِمْ وَفُرْسَانِهِمْ، لَبِسُوا السَّوَادَ، وَأَظْهَرُوا الْحُزْنَ عَلَى خُرُوجِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ مِنْ أَيْدِيهِمْ… وَذَكَرَ أَنَّهُمْ طَافُوا فِي بِلَادِ الْإِفْرِنْجِ يَسْتَنْجِدُونَ أَهْلَهَا، وَيُحِثُّونَهُمْ عَلَى الْأَخْذِ بِثَأْرِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، وَصَوَّرُوا الْمَسِيحَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَجَعَلُوا صُورَةً لِرَجُلٍ عَرَبِيٍّ، وَالْعَرَبِيُّ يَضْرِبُهُ، وَقَدْ جَعَلُوا الدِّمَاءَ عَلَى صُورَةِ الْمَسِيحِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَقَالُوا لَهُمْ: هَذَا الْمَسِيحُ يَضْرِبُهُ مُحَمَّدٌ نَبِيُّ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ جَرَحَهُ وَقَتَلَهُ؛ فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الْفِرِنْجِ فَحَشَرُوا وَحَشَدُوا حَتَّى النِّسَاءَ… وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْخُرُوجَ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَخْرُجُ عِوَضَهُ أَوْ يُعْطِيهِمْ مَالًا عَلَى قَدْرِ حَالِهِمْ، فَاجْتَمَعَ لَهُمْ مِنَ الرِّجَالِ وَالْأَمْوَالِ مَا لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الْإِحْصَاءُ“.
وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: “وَحَدَّثَنِي بَعْضُ الْأَسْرَى مِنْهُمْ أَنَّ لَهُ وَالِدَةً لَيْسَ لَهَا وَلَدٌ سِوَاهُ، وَلَا يَمْلِكُونَ مِنَ الدُّنْيَا غَيْرَ بَيْتٍ بَاعَتْهُ وَجَهَّزَتْهُ بِثَمَنِهِ، وَسَيَّرَتْهُ لِاسْتِنْقَاذِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ؛ فَأُخِذَ أَسِيرًا. وَكَانَ عِنْدَ الْفِرِنْج مِنَ الْبَاعِثِ الدِّينِيِّ وَالنَّفْسَانِيِّ مَا هَذَا حَدُّهُ، فَخَرَجُوا عَلَى الصَّعْبِ وَالذَّلُولِ بَرًّا وَبَحْرًا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ“.
سَارَتْ طَلَائِعُ الصَّلِيبِيِّينَ يَتَقَدَّمُهَا بُطْرُسُ النَّاسِكُ، ثُمَّ أُرْدِفَتْ بِأَرْبَعَةِ جُيُوشٍ ضَخْمَةٍ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهَا إِلَّا اللَّهُ -تَعَالَى-، وَصَفَهَا بَعْضُهُمْ فَقَالَ: “كَانَتِ الْجُيُوشُ الصَّلِيبِيَّةُ عِبَارَةً عَنْ شَعْبٍ كَامِلٍ يَسِيرُ“، فَلَمَّا دَخَلُوا الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ لِلْعُبُورِ إِلَى الشَّرْقِ فَزِعَ أَهْلُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ مِنْ كَثْرَتِهِمْ حَتَّى قَالَتِ ابْنَةُ إِمْبِرَاطُورِهَا آنَذَاكَ: “يُخَيَّلُ لِي أَنَّ أُورُبَّا اقْتُلِعَتْ مِنْ أُصُولِهَا!”.
وَأَعْجَزَتْ كَثْرَتُهُمْ أَيَّ جَيْشٍ أَنْ يَقِفَ أَمَامَهُمْ، وَمَا تَوَقَّفُوا إِلَّا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَعْمَلُوا الْقَتْلَ فِي أَهْلِهِ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي ضُحَى الْجُمعَةِ لِسَبْعَةِ أَيَّامٍ بَقِيَتْ عَلَى رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِماِئَةٍ لِلْهِجْرَةِ.
وَاهْتَزَّ الْمُسْلِمُونَ لِهَذِهِ الْفَاجِعَةِ الْعَظِيمَةِ، وَبَكَوْا بُكَاءً مُرًّا، وَخَطَبَ الْخُطَبَاءُ، وَتَرَاسَلَ الْأُمَرَاءُ، وَاجْتَمَعَ الْعُلَمَاءُ؛ لَكِنَّ الضَّعْفَ وَالْفُرْقَةَ قَدْ عَمِلَتْ عَمَلَهَا فِي الْمُسْلِمِينَ فَمَا اسْتَطَاعُوا عَمَلَ شَيْءٍ.
وَرُفِعَتِ الصُّلْبَانُ فِي الْأَرْضِ الْمُبَارَكَةِ، وَاسْتَبَاحَهَا هَمَجُ أُورُوبَّا، وَمَنَعُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْ إِقَامَةِ شَعَائِرِهِمْ فِيهَا، أَوِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا عَسِيرًا عَلَى أَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَكَانَتْ تِلْكَ نَتِيجَةَ تَضْيِيعِ أَوَامِرِ اللَّهِ -تَعَالَى-؛ إِذْ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ، وَوَكَلَهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، وَمَنْ وُكِلَ إِلَى نَفْسِهِ عَجَزَ، وَمَنْ وُكِلَ إِلَى الْخَلْقِ ضَيَّعُوهُ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ كَفَاهُ…
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشُّورَى:30].
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ…
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، أَحْمَدُهُ وَأَشْكُرُهُ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى-، وَاسْتَجْلِبُوا النَّصْرَ بِاتِّبَاعِ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، وَتَعْظِيمِ شَعَائِرِهِ، وَنُصْرَةِ إِخْوَانِكُمُ الْمُسْتَضْعَفِينَ. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [مُحَمَّدٍ:7].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَقَدْ كَانَتِ الدَّوَافِعُ الدِّينِيَّةُ عِنْدَ قَادَةِ الْحَمَلَاتِ الصَّلِيبِيَّةِ وَمُسَعِّرِيهَا قَوِيَّةً جِدًّا، وَهِيَ الَّتِي أَجَّجُوا بِهَا مَشَاعِرَ الْعَامَّةِ فِي مُخْتَلِفِ أَرْجَاءِ أُورُوبَّا حَتَّى خَرَجُوا بِقَضِّهِمْ وَقَضِيضِهِمْ، وَاصْطَحَبُوا نِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ لِلِاسْتِيطَانِ فِي الشَّرْقِ الْإِسْلَامِيِّ.
وَلَا أَدَلَّ عَلَى هَذِهِ الْحَمَاسَةِ الدِّينِيَّةِ مِنَ الْمَقُولَةِ الَّتِي أَطْلَقَهَا الْبَابَا أُورْبَانُ أَمَامَ مُلُوكِ أُورُوبَّا حِينَمَا قَالَ: “إِنَّ تَعْرِيضَ حَيَاتِي لِلْخَطَرِ فِي سَبِيلِ تَخْلِيصِ الْأَمَاكِنِ الْمُقَدَّسَةِ لَأَفْضَلُ عِنْدِي مِنْ حُكْمِ الْعَالَمِ كُلِّهِ“.
وَمِنْ أَجْلِ هَذَا الْهَدَفِ تَوَحَّدَتْ أُورُوبَّا الْمُتَفَرِّقَةُ، وَتَحَالَفَ مُلُوكُهَا الْمُتَخَالِفُونَ؛ لِأَنَّ هَدَفَ الْحَمْلَةِ كَانَ مُقَدَّسًا عِنْدَ جَمِيعِهِمْ.
لَقَدْ كَانَتِ الْحَمَلَاتُ الصَّلِيبِيَّةُ الَّتِي تَتَابَعَتْ عَلَى الشَّرْقِ الْإِسْلَامِيِّ قَرْنَيْنِ مِنَ الزَّمَانِ وَصْمَةَ عَارٍ عَيَّرَ بِهَا الْمُنْصِفُونَ مِنْ كُتَّابِ أُورُبَّةَ بَنِي جِنْسِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ، فَمَا عَرَفَتِ الرَّحْمَةُ إِلَى قُلُوبِهِمْ سَبِيلًا فِي الْمُدُنِ الَّتِي اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا؛ فَهَذَا قَسٌّ مِنْ قَسَاوِسَتِهِمْ كَانَ حَاضِرًا مَعَهُمْ، كَتَبَ فِي مُذَكِّرَاتِهِ مَا شَاهَدَهُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ فَقَالَ: “وَشَاهَدْنَا أَشْيَاءَ عَجِيبَةً؛ إِذْ قُطِعَتْ رُؤُوسُ عَدَدٍ كَبِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقُتِلَ غَيْرُهُمْ رَمْيًا بِالسِّهَامِ، أَوْ أُرْغِمُوا عَلَى أَنْ يُلْقُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ فَوْقِ الْأَبْرَاجِ، وَظَلَّ بَعْضُهُمُ الْآخَرُ يُعَذَّبُونَ عِدَّةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ أُحْرِقُوا بِالنَّارِ، وَكُنْتَ تَرَى فِي الشَّوَارِعِ أَكْوَامَ الرُّؤُوسِ وَالْأَيْدِي وَالْأَقْدَامِ، وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَيْنَمَا سَارَ فَوْقَ جَوَادِهِ يَسِيرُ بَيْنَ جُثَثِ الرِّجَالِ وَالْخَيْلِ“.
وَيَرْوِي كَاتِبٌ نَصْرَانِيٌّ آخَرُ مَا شَاهَدَهُ فَيَقُولُ: “إِنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يُقْتَلْنَ طَعْنًا بِالسُّيُوفِ وَالْحِرَابِ، وَالْأَطْفَالُ الرُّضَّعُ يُخْتَطَفُونَ بِأَرْجُلِهِمْ مِنْ أَثْدَاءِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَيُقْذَفُ بِهِمْ مِنْ فَوْقِ الْأَسْوَارِ، أَوْ تُهَشَّمُ رُؤُوسُهُمْ بِدَقِّهَا بِالْعُمُدِ، وَذُبِحَ السَّبْعُونَ أَلْفًا الَّذِينَ بَقَوْا فِي الْمَدِينَةِ، أَمَّا الْيَهُودُ الَّذِين بَقوْا أَحْيَاءً فَقَدْ سِيقُوا إِلَى كَنِيسٍ لَهُمْ، وَأُشْعِلَتْ فِيهِمُ النَّارُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ“.
وَظَلَّ الْمُسْلِمُونَ طِيلَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ سَنَةً يُعِدُّونَ الْعُدَّةَ لِإِخْرَاجِ الصَّلِيبِيِّينَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ؛ فَأَصْلَحُوا أَنْفُسَهُمْ، وَنَشَرُوا الصَّلَاحَ بَيْنَهُمْ، وَدَخَلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ تَحْتَ رَايَاتِ الْجِهَادِ؛ حَتَّى حَقَّقَ اللَّهُ لَهُمُ النَّصْرَ فِي حِطِّينَ وَمَا تَلَاهَا مِنْ مَعَارِكَ. فَأَعَادُوا بَيْتَ الْمَقْدِسِ إِلَى حَظِيرَةِ الْإِسْلَامِ.
وَمَا عَمِلَ صَلَاحُ الدِّينِ وَجَيْشُهُ مِثْلَ الَّذِي عَمِلَ الصَّلِيبِيُّونَ بِالْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ آثَرَ الْعَفْوَ عَنْهُمْ، وَافْتَدَى كَثِيرًا مِنْهُمْ بِمَالِهِ الْخَاصِّ.
وَظَلَّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- يُجَاهِدُ الصَّلِيبِيِّينَ حَتَّى حَرَّرَ بِلَادًا كَثِيرَةً مِنْهُمْ، ثُمَّ وَاصَلَ الْمَسِيرَةَ مَنْ كَانُوا بَعْدَهُ مِنَ السَّلَاطِينِ حَتَّى تَمَّ تَحْرِيرُ الشَّرْقِ الْإِسْلَامِيِّ كُلِّهِ مِنَ الْإِمَارَاتِ الصَّلِيبِيَّةِ، وَفَشِلَتْ ثَمَانِي حَمَلَاتٍ صَلِيبِيَّةٍ كُبْرَى فِي تَحْقِيقِ هَدَفِ الْأُورُبِّيِّينَ بَعْدَ مِائَتَيْ سَنَةٍ مِنَ الصِّرَاعِ الدَّامِي الْمَرِيرِ.
وَمَا أَشْبَهَ اللَّيْلَةَ بِالْبَارِحَةِ! وَالتَّارِيخُ يُعِيدُ نَفْسَهُ بَعْدَمَا يُقَارِبُ أَلْفَ سَنَةٍ، وَمَا الْحَمَلَاتُ الْإِعْلَامِيَّةُ الْمَسْعُورَةُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مِنَ الْإِعْلَامِ الْغَرْبِيِّ النَّصْرَانِيِّ وَالْيَهُودِيِّ إِلَّا امْتِدَادٌ لِحَمْلَةِ بُطْرُسَ النَّاسِكِ وَأَكَاذِيبِهِ، وَمَا الْمُجَمَّعَاتُ الْأُمَمِيَّة لِاتِّهَامِ كُلِّ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِرْهَابِ وَالتَّطَرُّفِ مَا دَامُوا يَدِينُونَ بِالْإِسْلَامِ إِلَّا امْتِدَادٌ لِلْمَجَامِعِ الَّتِي دَعَا إِلَيْهَا الْبَابَا أُورْبَانُ الثَّانِي قَبْلَ أَلْفِ عَامٍ، وَالْمُسْتَهْدَفُ مِنْهَا هُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي عَقِيدَتِهِمْ وَدِينِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ.
إِنَّ عَلَاقَتَنَا مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا نَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَةِ حَقِيقَتِهَا إِلَى مُحَلِّلٍ سِيَاسِيٍّ، أَوْ كَاتِبٍ صَحَفِيٍّ، أَوْ مُذِيعٍ إِخْبَارِيٍّ، يَتَلَاعَبُونَ بِالْأَخْبَارِ، وَيَطْمِسُونَ الْحَقَائِقَ؛ وَإِنَّمَا نَأْخُذُهَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ -تَعَالَى- الَّذِي بَيَّنَ اللَّهُ -تَعَالَى- فِيهِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَنْ يَرْضَوْا عَنَّا حَتَّى نَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِلَّتُهُمُ الدِّيَانَةَ الْمُحَرَّفَةَ، أَمِ الْأَيْدِلُوجِيَةَ الْمُخْتَرَعَةَ، أَمِ الْعَلْمَانِيَّةَ اللَّادِينِيَّةَ، وَمَشْرُوعُ الْعَوْلَمَةِ بِرُمَّتِهِ لَا يَخْرُجُ عَنْ خَبَرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ [الْبَقَرَة:120]، وَإِنَّ نُزُولَ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَكَسْرَهُ لِلصَّلِيبِ، وَقَتْلَهُ لِلْخِنْزِيرِ لَمِنْ أَكْبَرِ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الصِّرَاعَ الدِّينِيَّ سَيَظَلُّ مَوْجُودًا إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، وَمَا كَسْرُهُ لِلصَّلِيبِ، وَقَتْلُهُ لِلْخِنْزِيرِ إِلَّا إِلْغَاءً لِشَعَائِرِ دِينِ النَّصَارَى، وَلَوْ لَمْ يَسْتَمِرُّوا عَلَى الِاسْتِمْسَاكِ بِهَا لَمَا كَانَ إِلْغَاؤُهَا مِنْ مُهِمَّاتِ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
إِنَّ الْعَلْمَانِيِّينَ الْعَرَبَ الَّذِينَ تَخَلَّوْا عَنْ دِينِهُمْ، وَطَالَبُونَا بِاطِّرَاحِهِ، وَبِتَبْدِيلِ ثَقَافَتِنَا، وَتَغْيِيرِ نُصُوصِنَا، وَلَازَالُوا يُسَاوِمُونَنَا عَلَى دِينِنَا، لَمْ يَرْضَ عَنْهُمْ عُبَّادُ الْعِجْلِ وَعُبَّادُ الصَّلِيبِ، وَلَنْ يَرْضَوْا عَنْهُمْ أَبَدًا؛ فَلَا لِدِينِهِمْ أَبْقَوْا، وَلَا نَالُوا رِضَا أَعْدَائِهِمْ، وَهُمْ فِي خُسْرَانٍ دَائِمٍ!.
وَوَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْفِتَنِ أَنْ يَزِيدَ اسْتِمْسَاكَهُ بِدِينِهِ، وَأَنْ يُكْثِرَ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَأَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ الثَّبَاتَ عَلَى الْحَقِّ إِلَى الْمَمَاتِ؛ فَإِنَّ الزَّائِغِينَ عَنِ الطَّرِيقِ يَكْثُرُونَ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْفِتَنِ، وَالْمُتَخَلُّونَ عَنْ دِينِهُمْ تَزْدَادُ أَعْدَادُهُمْ كُلَّمَا عَظُمَ الْبَلَاءُ، وَاشْتَدَّتِ الْفِتَنُ، وَإِذَا خَسِرَ الْمَرْءُ دِينَهُ فَقَدْ خَسِرَ آخِرَتَهُ، عَوْذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.
أَلَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ…
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | مقروء |
اللغة | العربية |
العنوان | اللغة |
---|---|
كلمات (بمناسبة الحملة التوعوية الأمنية المرورية) | العربية |
الحملات الصليبية بين الأمس واليوم | العربية |
بداية الحملات الصليبية | العربية |