عناصر الخطبة
- اختلاف موقف الناس من دعوة الإسلام
- البشارة والنذارة وظيفة الرسل وأتباعهم إلى يوم القيامة
- بعض المواعظ والعبر في سورة يونس
- وجوب النصح والدعوة رغم سوء حال الكثيرين
اقتباس إِنَّ مَنْ مَنَّ اللهُ عليهم بالعيش في مجتمع محافظ في غالبه، قد يُصعقون إذا رأوا من النقص ما لم يكونوا يعهدون، وما علموا أن خيرة خلق الله، وخُلَّص أصفيائه، قد عايشوا ما هو أشد على النفس وأنكى، ومع ذلك قاموا بواجبهم وكانوا يعلمون أن ثمار ذلك العمل موكول إلى الله، وقد يزهو الثمر وقد لا يطيب، إلا أنه في كل الأحوال لا مناص من النصح والدعوة…
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، عَزَّ عن الشبيه وعن النِّدَ وعن المثيل وعن النظير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، بلَّغ الرسالةَ وأدى الأمانةَ ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها الناس، أوصيكم ونفسي بتقوى الله -تعالى-، فهي ستار الأمن يوم الفزع، ولباس السعادة والرضا عند الجزع، وهي البشارة العظمى، ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(64)﴾[يُونُسَ: 62-64].
أيها المسلمون: إنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، القرشي الهاشمي، أشرف الناس نسبا، وأحسنهم خَلْقًا وَخُلُقًا، طهَّره اللهُ واصطفاه، وعرف قومُه صدقه وأمانته من شبابه، بل من صباه، ولما بلَغ من العمر أربعين بعثه الله رحمةً للعالمين، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربَهم وعجمَهم إلا بقايا من أهل الكتاب، ونظر في قلوب العباد فرأى قلب محمد خير قلوب العباد فاختاره لرسالته.
نزل الوحي من السماء، وآذَن الله بصبح جديد، وتسلَّل النور الموصول بالسماء العليا، من غار حراء إلى مكة فغمر بيوت مكة وفجاجها، وسال في طرقاتها ونواديها، وتناثر على وجوه الرائحين والغادين.
وعجب المشركون أن ينزل الوحي على رجل منهم، وكذبوه وكانوا في أمر مريج، وقالوا: ساحر مجنون، وقالوا: أساطير الأولي، وقالوا: ائت بقرآن غير هذا أو بدله، وما زال القرآن يجادلهم في إثبات الرسالة وصدق الرسول، حتى نزلت سورة يونس -عليه السلام-، سورة كاملة في إثبات الرسالة وصدق الرسول -صلى الله عليه وسلم-، سورة نزلت بمكة، وإن للسور المكية لَعَبَقًا وَأَلَقًا، وفيها ما في السور المكية من تقرير التوحيد، والبعث والجزاء، والرسالة والقرآن، وبيان عاقبة الفريقين.
ومن تأمل في هذه السورة خبر نوح وجهره بالدعوة، وخبر موسى وقومه واتخاذهم بيوتهم أماكن للصلاة علم أن هذه السورة من أوائل ما نزل في مكة قبل أن يجهر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالدعوة، وذوات “الر” خمس سور، كل سورة منها تحمل اسم نبي، وهي يونس وهود، ويوسف وإبراهيم، والخامسة الحِجْر ديار ثمود قوم صالح -عليه السلام-.
بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ(2)﴾[يُونُسَ: 1-2].
إنها البشارة والنذارة وظيفة الرسل وأتباعهم إلى يوم القيامة، وإنذار الناس وظيفة الرسل وأتباعهم إلى يوم القيامة، إنذار الناس وبشارة المؤمنين لا يقتصر الداعية على إحداهما دون الأخرى، ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا(47)﴾[الْأَحْزَابِ: 45-47].
أيها المسلمون: آية هذا الرسول الكريم هذا القرآن العظيم، يتلوه عليهم، ويقرع به أسماعهم، ويتحداهم به، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ(58)﴾[يُونُسَ: 57-58].
﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ(40)﴾[يُونُسَ: 37-40].
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة” (رواه مسلم).
فالقرآن معجزة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ(16)﴾[يُونُسَ: 15-16].
وهذا من أعظم دلائل نبوته -عليه الصلاة والسلام-، فقد لبث في قومه أربعين سنة قبل أن يوحى إليه، وهم يعرفون صدقه وأمانته، فلم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، كما قال هرقل في حديث أبي سفيان الطويل.
أيها المؤمنون: وفي هذه السورة ذكر الله خبر ثلاثة من الرسل الكرام، وهم نوح وموسى ويونس -عليهم وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة والسلام-، ولما كانت السورة في إثبات الرسالة ناسب أن يذكر هؤلاء الأنبياء الثلاثة، فنوح أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد أن وقعوا في الشرك، وكانوا قبل ذلك كلهم على التوحيد، ورسالة موسى -عليه السلام- أعظم رسالة بعد القرآن؛ ولهذا يقرن الله بينهما في مواضع كثيرة؛ كقوله -تعالى-: (فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[الْقَصَصِ: 48-49].
وأما يونس -عليه السلام- فإنه نبي كريم، بعثه الله إلى أهل “نينوى” فلما كذبوه لم يصبر وذهب مغاضبا، فقال الله لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ﴾[الْقَلَمِ: 48]، ومناسبة أخرى في ذكر نوح وموسى -عليهما السلام-، وهي أن الله ذكر في هذه السورة قول المشركين لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: ﴿وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾[يُونُسَ: 20]، فناسب أن يذكر نوح -عليه السلام- فإن الله لم يذكر له في القرآن معجزة وآية، كما ذكر موسى -عليه السلام- الذي آتاه الله تسع آيات بينات، ﴿قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾[الْأَنْعَامِ: 37]، ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ﴾[الْإِسْرَاءِ: 59].
ومناسبة أخرى أيها المؤمنون وهي اختلاف النهايات وعاقبة أقوام الرسل الثلاثة؛ فنوح -عليه السلام- كذبه قومه فأغرقهم الله، ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾[هُودٍ: 40]، وموسى -عليه السلام- آمنت به بنو إسرائيل وكانوا سوادا عظيما وكذَّبه فرعون وقومه فأغرقهم الله، ويونس -عليه السلام- آمن قومه أجمعون، وذلك أنه لَمَّا خرج من بين أظهرهم ورأوا العذاب الذي انعقدت أسبابه جأروا إلى الله وتضرعوا إليه، فكشف الله عنهم العذابَ، ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾[يُونُسَ: 98]، فكأن السورة تقول لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: ليس عليك هدى قومك، وإنما عليك الدعوة والبلاغ، وعاقبة أمرهم إلينا، بل قد قالت السورة ذلك بأوضح بيان، ﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ﴾[يُونُسَ: 46].
ومناسبة أخرى أيها المسلمون؛ وهي أن نوحا وموسى -عليهما السلام- من أولي العزم من الرسل الذين جمعوا الاتباع والصبر، وأمر الله نبيه محمدا -صلى الله عليه وسلم- أن يقتدي بهم، ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾[الْأَحْقَافِ: 35]، فنوح -عليه السلام- بقي في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاما، ودعاهم ليلا ونهارا فلم يزدهم ذلك إلا فرارا، وما غير ولا بدل، وموسى -عليه السلام- بعثه الله إلى فرعون داعيا، وكان من أمره ما كان، ثم لقي من بني إسرائيل ما لقي، وكان نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- إذا آذاه قومه قال: “يرحم الله موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر“.
فكأن السورة تقول لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: اصبر كما صبر نوح وموسى، ولا تكن كصاحب الحوت، وهي أيضا تقول لأتباع النبي -صلى الله عليه وسلم-: اصبروا كما صبر نوح وموسى ولا تيأسوا ولا تغادروا مواقعكم.
ومن لطيف العلم ومُلَحِه أن لكل واحد من هؤلاء الرسل الثلاثة خبرا مع الماء، فنوح أغرق الله قومَه بماء منهمر، وفجَّر الأرضَ عيونًا فالتقى الماء على أمر قد قدر، وأنجاه الله ومن معه في الفلك المشحون، على ذات ألواح ودسر، وموسى -عليه السلام- فلَق اللهُ له البحرَ وجاوز ببني إسرائيل ثم أغرق اللهُ فرعونَ وقومَه، ويونس -عليه السلام- ركب البحر في الفلك المشحون وكان في بطن الحوت في ظلمة البحر، في ظلمات ثلاث.
أيها المؤمنون: ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الرحيم الشفيق يدعو قومه، ويحرص على هدايتهم، حتى لتكاد نفسه تذهب عليهم حسرات، فيقول الله له: ﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾[الْحِجْرِ: 88]، ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾[الشُّعَرَاءِ: 3]، ويقول له: ﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾[الْأَنْعَامِ: 35].
ويقول الله في سورة يونس: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ(100)﴾[يُونُسَ: 99-100]، مُخْطِئٌ مَنْ ظن يوما أنه يستطيع هداية الناس أجمعين، أو جمعهم على كلمة الحق الواحدة، إن هذا خلاف سُنَّة الله وتقديره، وخارجٌ عن قدرة البشر، ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾[هُودٍ: 118]، فلا تكونن من الجاهلين.
والواجب على الداعية أن يقوم بما أمره الله به، وأن يبلِّغ الدعوةَ إلى الناس، ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾[الشُّورَى: 48]، قل كما أمر الله نبيه أن يقول: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ(106)﴾[يُونُسَ: 104-106]، وهذا في حقيقته غاية التثبيت واليقين، قل كما أمر الله نبيه أن يقول: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ(109)﴾[يُونُسَ: 108-109].
إنهما الأصلان العظيمان المتلازمان، ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ﴾[يُونُسَ: 109]، اتباع الوحي والصبر على وعثاء الطريق ومن جمع هذين الأمرين فقد سار على طريق الأنبياء ودعوتهم، ومن نقص منهما فقد نقص من أمر دعوته بقدر ذلك، وما وقعت فرق وأحزاب وجماعات من المسلمين في التحريف والتبديل وتهوين التمسك بالشريعة إلا بتضييع أصل الاتباع، وما وقعت طوائف في الغلو والخروج إلا بتضييع الأصل الثاني وهو الصبر، والهدى هدى الله، الجامع بين الصبر والاتباع، ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾[يُونُسَ: 109]، ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾[الرُّومِ: 60]، ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾[يُونُسَ: 15].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله -تعالى- لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهَدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، الملك الحق المبين، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه الصادق الأمين، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، والتابعين ومن بتعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد أيها المسلمون: إنه لم يكن أحد أكرم على الله من أنبيائه ورسله، ومع ذلك فإن حياتهم عموما وزمن بعثتهم خصوصا، قد انقضت في مخالطة المشركين ومجادلتهم، تضمهم المجالس، وتجمعهم المواقف، يسمع أنبياء الله من أقوامهم ما يكرهون، يرون الشرك ويبصرون المنكر، وهم له مبغضون وشانئون، ومع أنهم أعرف الناس بجلال الله وأغيرهم على حرماته إلا أن ذلك لم يثنهم عن الدعوة والبيان، والنصح والرحمة، والصبر والدأب في استنقاذ من سبقت لهم الرحمة، وخُطّ اسمه في كتاب الفائزين، ومع أن الحزن على فُشُوّ المنكر من سيما الصالحين ومن دواعي مثوبتهم إلا أن الله أنكر على نبيه التماديَ فيه؛ لئلا ييأس ويترك، ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾[فَاطِرٍ: 8]، ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾[الْكَهْفِ: 6]، ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾[يُوسُفَ: 103].
إن الكفر والفسق في هذه الحياة تبتلى به طائفتان؛ فيبتلى المتلبِّسون به ما عافانا الله وإياهم، كما يبتلى الصالحون بالكافرين والفاسقين، لينظر الله كيف يثبتون، وينصحون ويصلحون.
إِنَّ مَنْ مَنَّ اللهُ عليهم بالعيش في مجتمع محافظ في غالبه، قد يُصعقون إذا رأوا من النقص ما لم يكونوا يعهدون، وما علموا أن خيرة خلق الله، وخُلَّص أصفيائه، قد عايشوا ما هو أشد على النفس وأنكى، ومع ذلك قاموا بواجبهم وكانوا يعلمون أن ثمار ذلك العمل موكول إلى الله، وقد يزهو الثمر وقد لا يطيب، إلا أنه في كل الأحوال لا مناص من النصح والدعوة، ولا محيص عن الصبر والاحتساب، وإذا قام الإنسان بوسعه فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ورفع الحرج من الله بعد استنفاد العبد وسعه لا قبله، ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾[الشُّورَى: 48]، ﴿بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾[الْمَائِدَةِ: 67]، إن لم تفعل البلاغ، أما الهداية فـ ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾[الْبَقَرَةِ: 272]، لا بد من توطين النفس على تحمُّل الأذى والبيان، وعلى احتساب الأجر ورحمة الخلق، حتى المخالفين منهم والمناوئين، فقد قال الله عن نبيه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[الْأَنْبِيَاءِ: 107]، لكل العالمين؛ إنسهم وجنهم، برهم وفاجرهم.
وإن لهذا الدين إقبالا وإدبارا، فالنقص لا يعني نهاية الدين والتدين، وإنما هي سُنَّة الله، ومرحلة من مراحل أطوار هذه الأمة لحِكَم يريدها الله؛ لِيَمِيزَ اللهُ الخبيثَ من الطيب، وليبتلي الله الناس أجمعين، ليعلم المؤمنين ويمحق الكافرين.
إن إدراك هذه المعاني -والتي دلت عليها سورة يونس- كفيل بتحقيق اليقين والثبات، وباعث على سعة الأفق وتحقيق التوازن في النظر إلى الحوادث، والتعامل مع المتغيرات، ويبقى المنهج الهادي، ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾[يُونُسَ: 109].
اللهم اجعلنا من أهل طاعتك ومحبتك، وأتباع رسولك الصابرين الموقنين.
هذا وصلُّوا وسلِّمُوا على مَن أرسلَه الله رحمةً للعالَمين، وهَديًا للناسِ أجمعين.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتِه الغُرِّ الميامِين، وأزواجه ومن بتعهم، ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وارض اللهم عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الطُّغاةَ والملاحِدَة والمُفسِدين، اللهم انصُر دينَك وكتابَك، وسُنَّة نبيِّك، وعبادَك المؤمنين.
اللهم أبرِم لهذه الأمة أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ طاعتِك، ويُهدَى فيه أهلُ معصيتِك، ويُؤمرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى عن المُنكَر يا رب العالمين.
اللهم من أرادَ الإسلامَ والمُسلمين ودينَهم وديارَهم بسُوءٍ فَأَشْغِلْهُ بنفسِه، ورُدَّ كيدَه في نَحرِه، واجعَل دائرةَ السَّوء عليه يا رب العالمين.
اللهم انصُر المُجاهدِين في سبيلِك في فِلسطين، اللهم انصُر المُجاهدِين في سبيلِك في فِلسطين، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم فُكَّ حِصارَهم، وأصلِح أحوالَهم، واكبِت عدوَّهم، اللهم حرِّر المسجدَ الأقصَى من ظُلم الظالمين، وعُدوان المُحتلِّين، واجعله شامخا عزيزا إلى يوم الدين.
اللهم إنا نسألُك باسمِك الأعظَم الذي إذا سئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت أن تلطُفَ بإخوانِنا المُسلمين في كل مكانٍ، اللهم كُن لهم في فلسطين، وسُوريا، والعراق، واليمَن، وبورما، وفي كل مكانٍ، اللهم الطُف بهم، وارفَع عنهم البلاء، وعجِّل لهم بالفرَج، اللهم أصلِح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوالهم وأحوال المسلمين، واجمعهم على الهُدى، واكفِهم شِرارَهم، اللهم عليك بالطُّغاة الظالِمين ومَن عاونَهم، اللهم عليك بالطُّغاة الظالِمين ومَن عاونَهم.
اللهم وفِّق ولِيَّ أمرِنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تُحِبُّ وترضَى، وخُذ به للبرِّ والتقوَى، اللهم وفِّقه ونائبَه وأعوانَهم لما فيه صلاحُ العبادِ والبلادِ.
اللهم احفَظ وسدِّد جنودَنا المُرابِطين على ثُغورِنا وحُدودِ بلادنا، المُجاهِدين لحفظِ أمنِ بلادِنا وأهلِنا وديارِنا المقدَّسة، اللهم كُنْ لهم مُعينًا ونصيرًا وحافِظًا.
اللهم انشُر الأمنَ والرخاءَ في بلادِنا وبلادِ المسلمين، واكفِنا شرَّ الأشرار، وكيدَ الفُجَّار.
اللهم بارك في مؤتمر العلماء الذين اجتمعوا في مكة المكرمة لتحقيق المصالحة الأفغانية وتحقيق الأمن والسلم والاستقرار في أفغانستان، ووفق المؤتمرين وأهل بلادهم كافة حكومة وشعبا لما فيه مصلحة بلادهم، وإصلاح ذات بينهم ووحدة صفهم ونبذ الفرق والخلاف، وشكر الله لخادم الحرمين الشريفين حرصه ودعوته لهذا المؤتمر عند بيت الله الحرام، ودعم المملكة لأمن واستقرار أفغانستان، والشكر لكل العلماء من عالمنا الإسلامي الذين وقفوا مع إخوانهم لتحقيق الأمن وجمع الكلمة.
﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾[الْبَقَرَةِ: 201].
اللهم اغفِر لنا ذنوبَنا، وإسرافَنا في أمرِنا، وثبِّت أقدامَنا، وانصُرنا على القومِ الكافِرين، اللهم اغفِر ذنوبَنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورَنا، وبلِّغْنَا فيما يُرضِيك آمالَنا، اللهم اغفِر لنا ولوالدِينا ووالدِيهم وذُريَّاتهم، وأزواجِنا وذريَّاتِنا، إنك سميعُ الدعاء، نستغفِرُ الله، نستغفِرُ الله، نستغفِرُ الله الذي لا إله إلا هو الحيُّ القيومُ ونتوبُ إليه.
ربَّنا تقبَّل منَّا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم، سُبحان ربِّنا ربِّ العزَّة عما يصِفُون، وسلامٌ على المُرسلين، والحمدُ لله رب العالمين.