عناصر الخطبة
- يوم عرفة أفضل أيام السنة
- خطوات عملية لإدراك فضل يوم عرفة
- بعض أحكام الأضحية وبيان فضلها
اقتباس وإِلى الذِينَ عَجَزوا عَن شِرَاءِ الأُضحيةِ، نَقُولُ لَهُم: هَنِيئًا لكُمُ البُشْرى؛ فقَدْ ضَحَّى عنكُم رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ضَحَّى عَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِن أُمَّتِهِ، فإنَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما قَضَى خُطبَتَه ونَزَلَ مِن مِنْبَرِه أُتِيَ بِكَبْشٍ فذَبَحَهُ بيدِهِ، وقالَ: “بِسْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، هَذَا عَنِّي وَعَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِي”.
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ العَليِّ الكَبيرِ، الجليلِ العظيمِ، الذي منَّ على المؤمنينَ بدِينِه القَويمِ، دِينًا يُهذِّبُ نُفوسَهُم، ويُجَمِّلُ أخلاقَهُم، ويُزيِّنُ تَعامُلَهُم، ويُصلِحُ ما تَنطِق به ألْسِنَتُهُم، وما تفْعَلُهُ جَوارِحُهُم، فله الحمدُ.
والصلاةُ والسلامُ على عبدِهِ ورسولِهِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ الهاشِميِّ القُرشِيِّ، أَحسنِ الناسِ مَنطِقًا، وأتَمِّهِمْ خُلُقًا، وأفضَلِهِم طَبْعًا، وأَجملِهِمْ تَعامُلًا، وأزْكَاهُم حَالًا، وعلى زوجَاتِهِ المصُونَاتِ المكرَّماتِ، الطَّيباتِ الطَّاهِراتِ، العَابداتِ القانتاتِ، الزَّاكِياتِ العَفِيفَاتِ، وعلى باقِي أهلِ بيتِهِ وذُريَّتِهِ، وأَصحابِهِ الأكابرِ الأَفاضِلِ، النَّاصِرينَ للهِ ورَسُولِهِ ودِينهِ… أمَّا بعدُ:
أيها المسلمونَ: اتقوا اللهَ ربَّكُم حقَّ التقوَى؛ فإنَّ تقوى اللهِ خيرُ لِباسٍ لكُم وزَادٍ، وأفضلُ وسيلةٍ إلى رِضَا رَبِّ العِبادِ، فقدْ قالَ اللهُ -تعالى- مُبشِّرًا لكُم ومُسْعِدًا: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ(3)﴾[الطَّلَاقِ: 2-3].
أيها المسلمونَ: بَقِيَ مِن عَشْرِكُمْ أَيامٌ قَليلةٌ، مِنهَا يَومٌ فَاضلٌ عَظِيمٌ مِن أَفضَلِ أَيامِ السَّنةِ، أَكمَلَ اللهُ فيهِ المِلَّةَ، وأَتمَّ بهِ النِّعمَةَ، نَعَمْ! إنَّكُم مُقبِلونَ عَن قَريبٍ على يَومِ عَرَفَةَ، وما أدْرَاكُمْ مَا يَومُ عَرفةَ، إنَّه يومُ الرُّكنِ الأكبرِ لِحجِّ الحُجَّاجِ، ويومُ تَكفيرِ السيئاتِ، والعِتقِ من النَّارِ، اليومُ الذي خَصَّهُ اللهُ بالأجرِ الكَبيرِ والثَّوابِ العَظيمِ، لَا يومَ كهذا اليومِ، ولَا عَشِيَّةَ كعشيَّتِهِ، اجتماعٌ عظيمٌ لتعظيمِ اللهِ -تعالَى- وذِكْرِهِ وشُكرِهِ وعِبَادتِهِ.
يَومُ عَرفةَ، يَومٌ يَجتمِعُ فيهِ الحَجِيجُ علَى صَعيدِ عَرفَاتٍ في أَكبرِ تَجمُّعٍ سَنويٍّ دَورِيٍّ للمُسلِمينَ في العَالَمِ؛ إِذ لا يُمكِنُ للمُسلِمِينَ أَبدًا أَن يَجتمِعُوا ويَحتشِدُوا بهَذا العَددِ في وَقتٍ وَاحدٍ وفي مَكانٍ وَاحدٍ يُلبُّونَ تَلبِيةً وَاحدةً ويَلبسُونَ ثِيابًا وَاحدةً إلا علَى صَعيدِ عَرفاتٍ.
عبادَ اللهِ: ولأَجلِ أَن نَستفِيدَ مِن هَذا اليَومِ المُبَاركِ إليكُمْ هذِه الخُطُواتِ العَمَلِيَّةَ لإِدراكِ هذَا اليومِ:
أولًا: التَّفرُّغُ التامُّ للعبادةِ في هذا اليومِ بَدْءًا مِنْ ليلتهِ بالقِيامِ، ونَهارِهِ بأنواعِ الطَّاعاتِ والقُرُباتِ، وتَركِ المشَاغِلِ والأعمالِ وتَأجِيلِهَا إلى يَومٍ آخَرَ؛ كشِراءِ الأُضحِيةِ ونَحوهِا.
ثانيًا: صِيامُ هذا اليومِ؛ فقدْ خَصَّهُ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بمزيدِ عنايةٍ؛ حَيثُ خصَّهُ مِنْ بينِ أَيامِ العَشرِ، وبيَّنَ ما تَرتَّبَ على صِيامهِ مِنَ الفضلِ العَظِيمِ؛ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ” (رواهُ مُسلمٌ).
والحذرَ الحذرَ مِنَ التَّفرِيطِ في صِيامِ هذا اليَومِ، فإنَّ صِيامَهُ سُنَّةٌ مُؤكَّدةٌ، يُكفِّرُ اللهُ فيهِ السِّيئاتِ، ويَرفعُ اللهُ بهِ الدَّرَجاتِ، ويَنبغِي حَثُّ الأهلِ والأولادِ على صِيامِ هذا اليَومِ وإدْرَاكِهِ.
ومِنهَا: الإِكثارُ منَ التَّهلِيلِ والتَّسبِيحِ والاستِغفَارِ في هذا اليومِ العَظِيمِ؛ فعنِ ابنِ عُمرَ -رضيَ اللهُ عنهما- قالَ: “كنَّا معَ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غَدَاةِ عَرَفةَ، فمِنَّا المُكَبِّرُ ومِنَّا المُهَلِّلُ” (رواهُ مُسلمٌ).
ومِنهَا: التَّكبِيرُ، حيثُ يَبدأُ التَّكبِيرُ المُقيَّدُ لغَيرِ الحَاجِّ عَقِبَ صَلاةِ الفَجرِ مِنْ هذا اليومِ إلى آخِرِ أيَّامِ التَّشرِيقِ، وأما التكبير المطلَق فَلا يَزالُ مِن أَولِّ الشَّهرِ مُستمِرًّا.
وللدُّعَاءِ يَومَ عَرفةَ مَزِيَّةٌ علَى غَيرِهِ، فإنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالَ: “خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ” (رواهُ التِّرمِذيُّ). ولْيَحرِصِ المُسلِمُ على الدُّعاءِ في هذَا اليومِ العَظِيمِ اغتنامًا لفِضلِهِ ورَجاءً للإجابةِ والقَبُولِ، وأنْ يَدعوَ لنفسِهِ ووالِدَيْهِ وأَهلِهِ وللإِسلامِ والمسلِمِينَ.
ومِنهَا: الإكثارُ مِنْ شهادةِ التوحيدِ في هذا اليومِ: فإنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالَ: “وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” (رواهُ التِّرمِذيُّ).
عبادَ اللهِ: إنَّ تَقرِيبَ القَرِابِينِ وذَبحَ الأَضَاحِي للهِ -عزَّ وجَلَّ- شَعِيرةٌ مِن الشَّعَائِرِ القَدِيمةِ، وعِبادَةٌ مِن العِبادَاتِ الأُولَى التي عَرفَهَا الإنسانُ مُنذُ عَرفَ الدِّينَ؛ لهذَا لَمْ تَخْلُ منها شَرِيعةٌ مِن الشَّرَائعِ الإِلهيَّةِ في وقتٍ مِن الأَوقاتِ، وقَارِئُ القُرآنِ يُدرِكُ قِدَمَ هذهِ العِبَادةِ في قَولِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا﴾[الْمَائِدَةِ: 27]، وقولِه -تعالى-: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾[الْحَجِّ: 34].
أيها المؤمنونَ: الأُضْحِيةُ عِبادةٌ أجمعَ المسلمونَ على مَشروعِيَّتِهَا بعدَمَا جاءَ ذِكْرُها في الكِتابِ العَزيزِ والسُّنةِ النَّبويةِ المحمَّدِيةِ، على صَاحِبِهَا أَفضلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ.
شُرِعَتِ الأُضحِيةُ في السَّنةِ الثَّانيةِ للهِجرَةِ، وكانَ يُدَاوِمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علَى فِعلِ الأُضحِيةِ، وقد استَمرَّ على ذَلكَ عشرَ سِنينَ مُنذُ أنْ قَدِمَ المدينةَ.
وهذِهِ العِبادةُ تَأتِي شُكرًا للهِ على نِعمَةِ الحياةِ، وإحياءً لسُنَّةِ إبراهيمَ الخليلِ، وتذكيرًا للمُسلمِ بصَبرِ إبراهيمَ وإسماعيلَ، وإيثَارِهِمَا طَاعةَ اللهِ ومحبَّتِهِ على محبَّةِ الوالدِ والوَلدِ، كمَا وتَأتِي تَوسِعةً على النَّفسِ وأَهلِ البيتِ، ونَفعًا للفَقِيرِ، وأَجرًا لِمَنْ تَصدَّقَ بهَا.
أيها المؤمنونَ: الأُضحِيةُ سُنَّةٌ مُؤكَّدةٌ عندَ جُمهُورِ أهلِ العِلمِ ولَيستْ وَاجبةً، قالَ العلَّامةُ عبدُالعزيزِ بنُ بازٍ -رحمهُ اللهُ-: “الأُضحِيةُ سُنةٌ مُؤكَّدةٌ، تُشرَعُ للرجلِ والمرأةِ، وتُجزئُ عَنِ الرَّجلِ وأهلِ بَيتِهِ، وعنِ المرأةِ وأهلِ بيتِهَا؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كانَ يُضَحِّي كلَّ سَنَةٍ بكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، أحدُهُمَا عَنه وعنْ أهلِ بيتِهِ، والثَّانِي عَمَّنْ وَحَّدَ اللهَ مِن أُمَّتِهِ“. اهـ.
عِبادَ اللهِ: لا يَنبغِي أَبدًا للقَادرِ أَنْ يُفَوِّتَ هذِه الفُرصَةَ الثَّمِينةَ، وكانَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَكرَهُ للأَغنِياءِ أَنْ يُهْمِلُوا هذِهِ السُّنَّةَ، إلى دَرجَةِ أنَّه قَالَ -كمَا رَوى (ابنُ مَاجَهْ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللهُ عنه-، (وصحَّحَهُ الأَلبانيُّ)-: “مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ، وَلَمْ يُضَحِّ، فَلا يَقْرَبَنَّ مُصَلاَّنَا“.
وفي صِفَةِ أُضْحِياتِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقولُ أَنسٌ -رضيَ اللهُ عنه-: “ضَحَّى النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا” (رواهُ البُخاريُّ ومسلمٌ).
وعلَى المُسلِمِ أنْ يَعتَنِيَ باختِيارِ الأُضحِيَةِ، وكلَّمَا كانتِ الأضحيةُ أَكْمَلَ في ذَاتِهَا وصِفَاتِهَا وأحسنَ مَنظَرًا وأغْلَى ثَمنًا فهِي أَحَبُّ إلى اللهِ وأعظمُ لأجرِ صَاحِبِهَا، قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيمِيَّةَ: “والأجرُ في الأُضحيةِ على قَدْرِ القِيمَةِ مُطْلقًا” اهـ.
ولقدْ كانَ المسلمونَ في عَهدِ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُغَالُونَ في الهَدْيِ والأضَاحِي، ويختارونَ السَّمِينَ الحَسَنَ، قالَ أَبو أُمَامَةَ بنُ سَهْلٍ: “كُنَّا نُسَمِّنُ الأُضْحِيةَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ المُسْلِمُونَ يُسَمِّنُونَ“. (رواهُ البخاريُّ مُعَلَّقًا).
وتَسمِينُ الذَّبِيحَةِ مِن تَعظِيمِ شَعَائِرِ اللهِ، كما قالَ ابنُ عبَّاسٍ -رضي اللهُ عَنهُمَا-، ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾[الْحَجِّ: 32].
عبادَ اللهِ: بيَّنَ سُبحانه الحكمةَ مِن ذَبحِ الأضَاحِي والهَدايَا بقولِهِ: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾[الْحَجِّ: 37]، قال الشَّيخُ السَّعدِيُّ -رحمهُ اللهُ-: “ليسَ المقصودُ منها ذَبْحَهَا فَقَطُ. ولا يَنالُ اللهَ مِن لُحُومِهَا ولا دِمائِهَا شَيءٌ؛ لِكونِهِ الغَنيَّ الحميدَ، وإنَّما يَنالُهُ الإخلاصُ فيهَا، والاحتِسَابُ، والنِّيَّةُ الصَّالِحةُ، ولهَذا قالَ: ﴿وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾[الْحَجِّ: 37]، ففي هذا حَثٌّ وتَرغِيبٌ على الإِخلاصِ في النَّحْرِ، وأنْ يكُونَ القَصدُ وَجهَ اللهِ وحْدَهُ، لا فَخرًا ولا رِياءً، ولا سُمعَةً، ولا مُجرَّدَ عَادةٍ، وهكَذا سَائِرُ العِباداتِ إنْ لم يَقتَرِنْ بها الإِخلاصُ وتَقوى اللهِ، كانتْ كالقُشُورِ الذي لا لُبَّ فيهِ، والجَسَدِ الذي لا رُوحَ فيهِ“. اهـ.
ومِنْ أَهمِّ مَقاصدِ الأضحيةِ -أيها المؤمنونَ- تَوحيدُ اللهِ -سُبحانهُ وتعالَى-، وإخلاصُ العبادةِ لهُ وحدَهُ؛ وذلكَ بذِكْرِهِ وتكبِيرهِ عندَ الذَّبحِ، قالَ تعالَى عنِ الأضاحِي: ﴿كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾[الْحَجِّ: 37].
ولَنْحذَرْ -أيها المسلمونَ- من الْمُباهَاةِ والمُفَاخَرَةِ أَو مُجَارَاةِ النَّاسِ بكَثرَةِ الأَضاحِي أو بِغَلاءِ ثَمنِهَا أو نحوِ ذلكَ ممَّا قد يُسَبِّبُ ضَيَاعَ الثَّوابِ؛ فالقُرُباتُ للهِ -سُبحانَه وتعالى- لا يَجُوزُ أنْ تَتَلَبَّسَ بالرِّيَاءِ؛ لأنَّ الرياءَ يُسقِطُ العَمَلَ ويُحبِطُهُ.
وإِلى الذِينَ عَجَزوا عَن شِرَاءِ الأُضحيةِ، نَقُولُ لَهُم: هَنِيئًا لكُمُ البُشْرى؛ فقَدْ ضَحَّى عنكُم رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ضَحَّى عَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِن أُمَّتِهِ، فإنَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما قَضَى خُطبَتَه ونَزَلَ مِن مِنْبَرِه أُتِيَ بِكَبْشٍ فذَبَحَهُ بيدِهِ، وقالَ: “بِسْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، هَذَا عَنِّي وَعَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِي“.
نَسألُ اللهَ العظيمَ ربَّ العرشِ العظيمِ أن يُوفِّقَنَا وإيَّاكُم لتعظِيمِ شَرَائعِه وشَعَائِرِه، وأَن يجْعَلَنَا مِنَ المؤمِنِينَ المُخْبِتِينَ المسلمينَ التَّائِبِينَ العَابِدِينَ القَانِتِينَ.
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم فاستغفرُوه، إنَّه هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله، حمدًا كثيرًا، طيِّبًا مباركًا فيه، كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهد أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ… أما بَعدُ:
أيها المؤمنونَ: وآخِرُ هذِه العَشْرِ الفَاضلَةِ، هوَ أَعظمُ الأيَّامِ عِندَ اللهِ، عِيدُ الأَضحَى مِنْ أَفضَلِ أيَّامِ العَامِ، بلْ قالَ بعضُ العُلَماءِ: إنَّهُ أَفضَلُ الأيامِ على الإطلاقِ، كمَا صحَّ عنهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قَالَ: “إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ” (رواه الإمامُ أَحمدُ، وأبو دَاودَ، والنَّسائِيُّ، وصحَّحَهُ الأَلبَانِيُّ).
والفَرَحُ فِيهِ مِنْ مَحَاسِنِ هذَا الدِّينِ وشَرَائِعِهِ؛ فعَنْ أَنسٍ -رِضيَ اللهُ عَنهُ- قالَ: قَدِمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأهلِ المَدِينةِ يَومَانِ يَلعَبُونَ فِيهمَا في الجَاهِليةِ، فقالَ: “قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ وَلَكُمْ يَوْمَانِ تَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ يَوْمَيْنِ خَيْرًا مِنْهُمَا، يَوْمَ الْفِطْرِ، وَيَوْمَ النَّحْرِ” (رواهُ أحمدُ، وأبو داودَ، والنسائيُّ).
ويُسَنُّ الإِمسَاكُ عَنِ الأَكلِ في عِيدِ الأَضحَى حتى يُصلِّيَ، لِيأكُلَ منْ أُضحِيَتِهِ. بخلافِ عِيدِ الفِطرِ.
ويشرعُ للمُسلمِ التَّجَمُّلُ في العيدِ بلُبسِ الحَسَنِ مِنَ الثيابِ والتطيُّبِ.
ويُستَحَبُّ لهُ الخروجُ مَاشيًا إنْ تَيسَّرَ، ويُكثِرُ مِنَ التَّكبِيرِ حتى يَحضُرَ الإمامُ، ويَرجِعُ مِنْ طَريقٍ آخَرَ. هكَذا كانَ يَفعَلُ رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
ومِن أَعظَمِ شَعائِرِ الإِسلامِ في هذا اليومِ، أَداءُ صَلاةِ العِيدِ، وقَد صَلاَّهَا النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ودَاوَمَ علَى فِعلِهَا هو وأَصحَابُهُ والمسلمونَ.
وكَذا الجُلُوسُ لِسمَاعِ خُطبَةِ العِيدِ، وعَدمُ الانِشغالِ عَنها بشيءٍ كالتهنِئةِ أَو رَسائِلِ الهَاتِفِ الجَوَّالِ أَو غَيرِ ذَلكَ.
تَقبَّلَ اللهُ مِن الجَميعِ صَالحَ العَملِ وأعَانَ ويَسَّرَ الفَوزَ بهذِه الأيامِ المبَاركَةِ.
هذَا وصَلُّوا وسلِّموا -رحِمَكمُ اللهُ- على النبيِّ المصطفَى، والحبيبِ المُجتَبَى، كما أمرَكُم بذلكَ ربُّكم -جلَّ وعلا-، فقالَ تعالى قولًا كريمًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[الْأَحْزَابِ: 56]، وقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ صلَّى عليَّ صَلاةً صلَّى اللهُ عليهِ بِهَا عَشْرًا“.
اللهمَّ يَسِّرْ للحُجَّاجِ حَجَّهُم وأَعِنْهُمْ علَى أَداءِ مَناسِكِ حَجِّهِمْ.
اللهمَّ اجْعَلْ حَجَّهُم مَبرورًا، وسَعْيَهُم مَشكورًا، وذَنبَهُمْ مَغفورًا.
اللهمَّ إنَّا نَستودِعُكَ حُجاجَ بَيتِكَ، اللهمَّ احْفظْهُمْ بحِفظِكَ واكْلأْهُمْ برِعايَتِكَ.
اللهمَّ سَلِّمِ الحجاجَ المعتمرينَ في بَرِّكَ وجَوِّكَ وبَحرِكَ، وأَعِدْهُم لأَهلِيهِم سَالمينَ غَانمينَ بِمَنِّكَ وجُودِكَ يا أَكرَمَ الأَكرَمِينَ.
اللهمَّ اجْزِ قَادةَ هذِه البلادِ خَيرَ الجَزاءِ على مَا يقدِّمونَه للإسلامِ والمسلمينَ وعلى عُمَّارِ بَيتِكَ المُقدَّسِ وعلَى كُل مَا يُبْذَلُ للحجاجِ والمعتمرينَ.
اللهم اكفناِ بِمَنِكَ وكرمك كلَّ مَن يريد سوءا لهذه البلاد، اللهم رُدَّ كيده في نحره، وافضحه للعالمين يا عظيمُ يا ذا البأس الشديد.
اللهمَّ تَقبَّل مِنَّا صَالِحَ العَملِ، واغفرْ لنا الذَّنبَ والزَّللَ، وتَوفَّنَا وأنتَ رَاضٍ عَنَّا.
وصلى اللهُ وسَلَّمَ على نَبِيِّنَا محمَّدٍ.