عناصر الخطبة
- شوق السلف الصالح لعشر ذي الحجة
- فضل العمل الصالح في عشر ذي الحجة
- عظم ارتكاب المحرمات في عشر ذي الحجة
- من الأعمال الصالحة في عشر ذي الحجة
- عدم الأخذ من الشعر والظفر للمضحي إذا دخلت العشر
اقتباس نستقبل أياماً هي أفضل أيام العام، أيام عشر ذي الحجة، من حُرم العمل الصالح فيها فهو المحروم، محروم من التوفيق لطاعة ربه، ومحروم من لذة العبادة التي يجدها المتعبدون، ومحروم من أجرها المترتب عليها في الآخرة…
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل لعباده مواسم ليتزودا بها من الطاعات، ويتقربوا بها إليه ما داموا في الحياة، أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين، ألبس عباده من المنن والنعم ما لو أرادوا إحصاءها ما استطاعوا؛ فنعمه علينا كثيرة، لا يراها إلا أولو الألباب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الكريم الغني الوهَّاب، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين، فبلَّغ رسالة ربه في أوضح بيان، وهدى به الإنس والجان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المؤمنون-، وقدِّموا من الأعمال ما يسركم أن تروه في يوم المعاد.
معاشر المسلمين: إننا نستقبل أياماً هي أفضل أيام العام، أيام عشر ذي الحجة، من حُرم العمل الصالح فيها فهو المحروم، محروم من التوفيق لطاعة ربه، ومحروم من لذة العبادة التي يجدها المتعبدون، ومحروم من أجرها المترتب عليها في الآخرة، ومتحسِّر لإضاعته أوقات العشر الفاضلة.
أيها المؤمنون: إنَّ عشر ذي الحجة طالما اشتاق إلى إدراكها الصالحون من السلف ومن سار على أثرهم، وكانت أغلى أمانيِّهم ليتسابقوا فيها إلى فعل الخير وإلى الأعمال الصالحات، وأعظم الناس تقديراً لهذه العشر هو أعظمهم استغلالاً لأوقاتها؛ لما فيه فوزه ونجاته في الحياة الحقيقية، الحياة الدائمة الأبدية في الآخرة، ذلك الذي يطيع ربه، ويخشى عقابه ويرجو ثوابه، ويبادر إلى التوبة وإلى الأعمال الصالحة؛ لأنَّه لا يدري متى يحِلُّ به الموت، ويعلم يقيناً أنَّ الموت ليس لكبير ولا لمريض، بل هو مقدَّر بوقت لا يعلمه إلا الله، قال تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾[النحل:61]؛ فكم أخذ الموت من شاب وهو في أوج قوته ونشاطه وصحته، فمات قبل هرِم ومريض؛ فاعملوا عمل من يرى الموت أمامه لا يعلم متى يذوقه.
تزود من التقوى فإنك لا تدري *** إذا جنَّ ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم صحيح مات من غير علِّة *** وكم عليل عاش حيناً من الدهر
معاشر المؤمنين: إنَّكم في رمضان داومتم على أعمال صالحة كثيرة، وتسابقتم فيها إلى طاعة الله، وها أنتم على أبواب أيام هي أفضل أيام الدنيا، أقسم الله بها في كتابه، فقال تعالى: ﴿وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ(2)﴾[الفجر:1-2] واختلف أهل العلم في هذه العشر، هل هي العشر الأواخر أو عشر ذي الحجة؟ قال الإمام الطبري -رحمه الله- في تفسيره: “الصواب…أنَّها عشر الأضحى لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه“.
عباد الله: في عشر ذي الحجة يؤدي الحجاج مناسكهم، وفيها يوم هو خير يوم طلعت فيه الشمس يوم عرفة، وفيها أفضل أيام العام، وهو يوم عيد الأضحى، عيد تعبَّد الله فيه عباده بصلاة العيد وبذبح الأضاحي؛ فالمسلمون في العالم كله يصلون فيه صلاة العيد، ومن ثم يتقربون إلى الله بذبح أضاحيهم، ولقد جعل الله -تعالى- العبادة في عشر ذي الحجة أفضل من الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وبماله فلم يرجع من ذلك بشيء، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عنها: “مَا العَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ؟” قَالُوا: وَلاَ الجِهَادُ؟ قَالَ: “وَلاَ الجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ“(أخرجه البخاري). قال الإمام ابن تيمية -رحمه الله-: “استيعاب عشر ذي الحجة بالعبادة ليلاً ونهاراً أفضل من جهادٍ لم يذهب فيه نفسه وماله، والعبادة في غيره -أي في غير الجهاد- تعدل الجهاد للأخبار الصحيحة المشهورة“.
معاشر المسلمين: المؤمن يحرص أشد الحرص على اغتنام هذه العشر الفاضلة، بالأعمال الصالحة لمضاعفة الحسنات فيها، وكذلك فعلى المسلم أن يجتنب المحرمات ويبتعد عنها، ويتوب إلى الله منها؛ فإنَّ إثمها أعظم في هذه العشر، وليس معنى ذلك أنَّها تضاعف عدداً، لكنَّ المعنى أنَّ إثمها يكون أعظم، قال الإمام ابن باز -رحمه الله-: “السيئات لا تضاعف من جهة العدد، لا في رمضان، ولا في الحرم ولا في غيرها، بل السيئة بواحدةٍ دائماً وهذا من فضله -سبحانه وتعالى- وإحسانه، ولكن سيئة الحرم، وسيئة رمضان، وسيئة عشر ذي الحجة أعظم إثماً من السيئة فيما سوى ذلك؛ فسيئة في مكة أعظم وأكبر وأشد إثماً من سيئةٍ في جدة والطائف مثلاً، وسيئةٌ في رمضان، وسيئةٌ في عشر ذي الحجة أشد وأعظم من سيئةٍ في رجب، أو شعبان ونحو ذلك“.
معاشر المسلمين: من الأعمال الصالحة في هذه العشر، ابتداء من ليلة اليوم الأول منه” الجهر بالتكبير والتهليل والتحميد، في البيوت وفي الأسواق وفي مجامع الناس وفي المساجد، يكبِّر كل واحد منفرد بصوت جهوري، فيذكِّر غيره بالتكبير، ويقتدي به من سمعه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “ما من أيامٍ أعظمُ عند الله، ولا أحبُّ إليه من العمل فيهنَّ من هذه الأيامِ العشر، فأكثروا فيهنَّ من التهليل، والتكبير، والتحميد“(أخرجه أحمد).
وقد كان ابن عمر وأبو هريرة -رضي الله عنهما- “يخرجان إلى السوق في أيام العشر، يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما“(أخرجه البخاري معلقا).
ومن صيغ التكبير أن يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، وهذه السنة من السنن التي هجرها كثير من الناس؛ فأحيوها يرحمكم الله.
وكذلك من أفضل الأعمال الصالحة في هذه العشر -يا عباد الله-: صيام تسعة أيام منها، قال -صلى الله عليه وسلم-: “قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ“(متفق عليه). وقد ورد الفضل في صيام يوم عرفة أنَّه يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : “صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده“(أخرجه مسلم).
ومن أعظم القربات والأعمال الصالحة -يا عباد الله-: التقربُ إلى الله -عز وجل- بذبح الأضاحي، وهي أفضل من الصدقة بثمنها، أما من كان عنده مال فاضل عن قيمة الأضحية، فإنَّه يتقرب إلى الله بالصدقة على المحتاج من فقير ويتيم وأرملة ومسكين.
معاشر المسلمين: إنَّ الأعمال الصالحة كثيرة ومتنوعة من الصلوات النافلة وبر الوالدين وصلة الرحم وكثرة تلاوة القرآن الكريم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على البر والتقوى، والإحسان إلى الناس؛ وخصوصاً الأقارب والجيران، وحث الأهل والأبناء على ذلك؛ فاجتهدوا بالأعمال الصالحة في هذه العشر؛ فإنَّها موسم عظيم من مواسم الخيرات التي هي من أعظم منن الله على عباده.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه؛ إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وتابعيهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المسلمون-، ومن أراد منكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئاً إذا دخلت العشر حتى يذبح أضحيته، قال -صلى الله عليه وسلم-: “إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي، فليمسك عن شعره وأظفاره“(أخرجه مسلم).
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، البشير النذير، والسراج المنير، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليّ، وارضَ عن بقيَّة الصحابة، وعن التابعين، ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين…