عناصر الخطبة
- إسراف الناس في الوضوء
- هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الاقتصاد في الوضوء
- فوائد الاقتصاد في الوضوء
- الإسراف في الوضوء من الاعتداء والغلو
- عناية العلماء والسلف بالاقتصاد في الوضوء.
اقتباس وانظر للإنسان إذا كان في نزهةٍ أو رحلة أو بردٍ قارسٍ أو سفرة والماء شحيحٌ وقليل يتوضأ بالقليل، بل ويفضل القليل؛ فما بال الإنسان حال الرخاء وزيادة الماء يستغرق ماءً كثيرًا، وكمًّا كبيرًا يملأ أرطالًا وأسطالًا، فُغسل العضو الواحد يكفي لغُسل الجنابة. ثم أرأيتم لو كان كلما زاد الماء زاد…
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله على نعمة الطهارة، أحمده سبحانه على نِعمه الباطنة والظاهرة أنعم علينا بنعمة الماء للوضوء والنظافة، وأشهد أن لا إله إلا الله جعل الوضوء مفتاح الصلاة والنزاهة، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أكمل من توضأ بدون نقصٍ أو زيادة، بل نهى عن الإسراف في الوضوء والطهارة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين من أهل السُّنَّة والجماعة.
أما بعد: فتقوى الله هي الأوفى والأبقى، والفرج والمخرج والأنقى؛ فاتقوا ربكم تنالوا الجزاء الأوفى.
أيها المسلمون: خطبتنا في جمعتنا مسألةٌ فقهية تتعلق بالطهارة وهي الحلقة الرابعة ضمن سلسلة الإضاءة في مسائل الطهارة.
مسألتنا مسألةٌ مهمة وهي تتعلق بكل مسلمٍ ومسلمة نُمارسها في يومنا مع صلاتنا.
نعم مسألةٌ لا ينفك عنها متوضئ، بل ومغتسلٌ ومستنجي، مسألةٌ تتعلق بالماء والنزاهة والنقاء كثيرٌ ممن لا يُلقي لها بالًا، وآخر اهتمامًا، وثالثٌ شكرًا وثناءً، بل إهدارًا وإسرافًا وابتذالًا.
إنها مسألة بحسب العناية بها سببٌ لقبول صلاتنا، وأُسوةٌ بنبينا إنها: الإسراف في الوضوء وإهداره عند الوضوء والطهارة إهدار الماء في الوضوء والغُسل بكمياتٍ وكيلواتٍ ولتراتٍ مسألةٌ أصبحت مشكلةٌ معضلة؛ ذلك لسهولة الوصول إلى الماء وتيسير الله لعباده الصنابير، وتناول الماء فتحًا وصبًا، ولم يكن كالزمان الأول إخراجًا وعناءً وترويةً وشراءً، كانوا يُروون الماء بالراويات ويجمعونه في أواني وحاويات ولا يحصل لهم إلا بكلفةٍ ومشقة؛ فله الحمد والفضل والمنَّة.
فانظر إلى مواطن الوضوء ودورات المياه لا تسمع إلا صبًا وإهدارًا، وانظر إلى بيوتنا لا تسمع إلا إسرافًا وإزعاجًا، والنساء والرجال على حدٍّ سواء في الإسراف في الوضوء وصب الماء.
الماء -بحمد الله- نعمةٌ من نِعم الله، وماءٌ مباركٌ من بركات الله؛ فمن شكره حفظه وعدم الإسراف فيه، لاسيما حال العبادة وهي الوضوء للصلاة، وبعض الناس لا يُفرق في صب الماء والوضوء؛ فالوضوء عبادة يجب التقليل في صب الماء بخلاف استعمال الماء لأمرٍ ما، مع أن الواجب عدم الإسراف في كلا الحالتين، ولكن في الوضوء والغُسل آكد.
وبعض الناس إذا كان يتوضأ من دورات المساجد أو أماكن عامة أو دوائر حكومية يُهدر ويُسرف، ويصب الماء ويُجحف بخلاف ما إذا كان في بيته فيُراعي ذلك؛ لأن ذلك من ماله ودراهمه أو يدفع قيمةً لذلك.
وبعض الناس ينتقي لشرابه وطعامه دون وضوئه وغُسله فلا يُبالي بصبه وإهداره، وبعض الناس إذا توضأ فتح حنفية الماء أو الصنبور من أول الوضوء إلى آخره بأعلى قوته، وبعضهم يزيد المرض علة يتحدث مع جاره والماء له خريرٌ وإهدارٌ، والجميل أن يفتح ويغسل، ثم يُغلق أو يفتح الصنبور فتحًا بمقدار حاجته.
وبعض الناس يجلس يغتسل تحت الدش بالساعة والساعات والماء يسكب إهدارًا ولترات.
إن الوضوء -أيها المسلمون- كميةً وكيفية عبادةٌ منصوصٌ عليها دون نقصٍ أو زيادة؛ فالنقص عن المرة الواحدة لا يُجزئ، والزيادة على الثلاث بدعةٌ مُحدثة، والعبرة ليست بقلة الماء وكثرته، وإنما عبادته وشرعيته.
وتقدم لنا صفة الوضوء وهيئته، وكميته وكيفيته، إن كمية الوضوء لا خيار للإنسان فيها؛ فمن أراد السُّنَّة وقبول صلاته فليتبع ما ورد في السُّنَّة في قلة صرف الماء، والسُّنَّة أن يتوضأ ثلاثًا ثلاثًا يغسل وجهه ويديه ورجليه ثلاث مرات أو مرتين أو مرة كما جاءت بذلك السُّنَّة، ولما وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- الوضوء وتوضأ قال: “مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا” (متفقٌ عليه).
وكان هديه -كما في الصحيحين- يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، ويتوضأ بالمُد، وبوب عليه البخاري في صحيحه (باب: الوضوء بالمُد، وباب: الغُسل بالصاع ونحوه).
قال ابن القيم -رحمه الله-: و”كان -صلى الله عليه وسلم- من أيسر الناس صبًا لماء الوضوء، وكان يُحذر أمته من الإسراف فيه، وأخبر أنه يكون في أمته من يعتدي في الطهور.
وتارةً يزيد على ذلك؛ فالتقدير ليس حتمًا واجبًا، وإنما سُنَّةً واتباعًا، والمُد ما يقرب نصف كيلو وهو ملء اليدين المعتدلتين المتوسطتين.
هذا وبعض الناس يفهم مما جاء في الحديث فيُسبغ الوضوء على كثرة صب الماء وليس كذلك، فالمقصود بالإسباغ هو الإتمام وتبليغ الماء للأعضاء.
والوضوء بقلة صب الماء، والإتيان بالسُّنَّة -أيها الأوفياء- فيه فوائد:
الأولى: اتباع السُّنَّة وتطبيقها.
الثانية: راحة النفس وسرورها.
الثالثة: أقرب لقبول الصلاة.
الرابعة: شكر الله على نعمة الماء.
الخامسة: استحضار نية عبادة الوضوء وفضله.
والسُّنَّة -أيها المسلمون- الوضوء من إناء؛ كما فعل الرسول المصطفى؛ لأن الوضوء من إناءٍ يتحكم الإنسان بمقداره وكميته، بيد أن الوضوء من الصنبور لا حد له ولا عد، وبالتالي يكون الوضوء بأضعاف أضعاف المطلوب؛ إذا الصنبور مفتوحٌ وغسل الأعضاء فيما بينها يكون مفتوحًا؛ فالإسراف وارد والتحديد فيه مشقةٌ وعُسر.
فيقع الإسراف فيه من وجهين:
الأول: عدم التحكم فيه.
الثاني: الكمية النازلة بين غسل الأعضاء.
ولهذا من الحسنات المستحسنة ما يُفعل في بعض المواضئ في المساجد، وبعض الفنادق والبيوتات ونحوها -اقتصادًا واحترامًا وإذا اتُخذ عبادةً كان ثوابًا وأجرًا- هي الصنابير الكهربائية التي بمجرد اللمس أو الإحساس تُخرج لك الماء وإذا رفعت يدك وقف الماء فيصب لك بمقدار؛ فينبغي للمتوضئ قصر الصنبور بقدر الإمكان أو إغلاقه، وإذا توضأ من إناءٍ كان أفضل وأكمل، وأخسر وأقل.
أيها المسلمون: هذا وللوضوء شيطان يُقال له: الولهان؛ كما عند أحمد والترمذي وابن ماجه وغيرهما، وصححه بعضهم، ولا شك أن الشيطان له صولاتٌ وجولاتٌ مع كميات الماء خصوصًا عند الوضوء؛ فانظر إلى إخواننا وأخواتنا من الموسوسين والموسوسات -عافاهم الله وشفاهم ومن شر الشيطان وقاهم- كم يُهدرون من الماء؟! وكم يصبون من المياه الغزيرة؟! وكم يمكثون في الدورات والمواضئ؟! والموسوس يرى أنه لا يكفيه الصاع لغُسل يديه؛ ولهذا قال ابن القيم: “فالموسوس مسيءٌ متعدٍّ ظالمٌ بشهادة رسول الله، فكيف يتقرب إلى الله بما هو مسيءٌ به متعدٍّ فيه لحدوده؟!”.
ولهذا أعظم ما يُعالجون به العمل بالسُّنَّة وتطبيقها كمًّا وكيفًا لا زيادة ولا نقصان، وسنُفرد لهذا الموضوع خطبة لخطره وانتشاره، وكيفية علاجه -بإذن الله-.
ومن الاعتداء في الوضوء والطهور ما جاء في الحديث المخرَّج عند أحمد وأبي داود وابن ماجه: “سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الطَّهُورِ وَالدُّعَاءِ” والله يقول: ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِين﴾ [الأعراف:55].
والإكثار من صب الماء نوعٌ من الغلو، والله يقول: ﴿يا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ﴾ [النساء:171]، وعند أحمد والنسائي: “إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ، فَإِنَّما أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ“، وهو نوعٌ واتباعٌ لخطوات الشيطان، وفتح باب الوسوسة وعدم شكر المنعم على نعمة الماء، ونوعٌ من الإسراف، وربنا يقول -جلَّ في عُلاه-: ﴿وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِين﴾ [الأنعام:141].
والمرء إذا اعتاد التقليل في الماء تعوَّد عليه، وبعض الناس يقول: لا يكفي المد، والماء القليل للوضوء، والجواب: سأل قومٌ جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- عن الغُسل، فقال: يكفيك صاعٌ، فقال رجلٌ: ما يكفيني، فقال جابر: كان يكفي من هو أوفى منك شعرًا وخيرٌ منك، يعني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، (متفقٌ عليه).
وانظر للإنسان إذا كان في نزهةٍ أو رحلة أو بردٍ قارسٍ أو سفرة والماء شحيحٌ وقليل يتوضأ بالقليل، بل ويفضل القليل؛ فما بال الإنسان حال الرخاء وزيادة الماء يستغرق ماءً كثيرًا، وكمًّا كبيرًا يملأ أرطالًا وأسطالًا، فُغسل العضو الواحد يكفي لغُسل الجنابة.
ثم أرأيتم لو كان كلما زاد الماء زاد السعر من المال؛ فكم يا تُرى نتوضأ ويكفي في الوضوء والغُسل ويفي؟ فنعرف حينها كيف نتصرف.
فينبغي على المعلمين والمدرسين، والآباء والأمهات الإرشاد إلى تقليل الماء، وترشيد الاستهلاك، وعدم التبذير والإسراف، والاقتصاد في الوضوء والغُسل، وجميلٌ التطبيق عمليًّا مرئيًّا فإنه أرسخ في الأذهان، وأوقع في النفوس والأبدان.
ومن الإحسان في العبادة: الإتيان بها على الوجه الأكمل الأحسن دون زيادةٍ أو نقصان، والعلماء نوهوا بمن زاد على الثلاث بحرمته وبدعيته، فقال ابن المبارك -رحمه الله-: “لا آمن إذا زاد على الثلاث في الوضوء أن يأثم“، وقال الإمام أحمد -رحمه الله-: “لا يزيد على الثلاث إلا رجلٌ مبتلى، ولا شك في دخوله في حديث” “مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا“.
فاتقوا الله -عباد الله- في ماء الوضوء سواءً كان في المساجد، والمرافق العامة أو البيوت والدوائر الحكومية، وتعظم الأهمية والذكرى الأخوية إذا كان الماء وقفًا فالأخذ منه زيادةً على الحاجة مُحرَّم كالوضوء من البرادات والمياه الموقوفة.
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدًا رسوله وعبده، وبعد:
أيها المسلمون: العلماء والسلف عُنوا بهذا الباب، وعدم إسرافهم في الماء، والتحذير من إهدار الماء لغير حاجة، والقسط في الوضوء واتباع السُّنَّة، فاسمع إلى أخبارهم وطرفًا من أقوالهم وأحوالهم:
قال الإمام أحمد -رحمه الله-: “من فقه الرجل قلة ولوعه في الماء“.
وقال المروزي -رحمه الله-: “وضَّأت أبا عبد الله بالعسكر، فسترته من أعين الناس ليلًا، وكان أحمد يتوضأ فلا يكاد يبل الثرى“؛ أي: التراب من قلة الماء.
وقال البخاري -رحمه الله- في صحيحه: “وكره أهل العلم الإسراف فيه -أي في الماء- وأن يُجاوزوا فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-“.
وقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: “ما إسباغ الوضوء الإنقاء، وكانوا يرون أنه بداية الوسواس الإسراف في الوضوء وأنه من الشيطان“.
قال إبراهيم التيمي -رحمه الله-: “أول ما يبدأ به الوسواس من الوضوء“، وقال: كانوا يقولون: كثرة الوضوء من الشيطان، وكانوا يُحذرون من الإسراف في ماء الوضوء ولو كان المرء على شاطئ البحر ؛كما قال أبو الدرداء -رضي الله عنهما-: “أقصد في الوضوء ولو كنت على شاطئ نهرٍ“.
وكان إبراهيم التيمي -رحمه الله- يقول: “إني لأتوضأ بكوزٍ مرتين، والكوز: الإناء للشرب“.
وعن الحسن -رحمه الله- أنه توضأ بكوزٍ وكانوا يكرهون أن يُلطموا وجوههم بالماء لطمًا، وكانوا يمسونها قليلًا قليلًا، وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- ما يتوضأ فيُسن الماء على وجهه سنًا.
وهذا عمر بن مُرة -رحمه الله- توضأ فما سأل الماء من قلته.
وخلاصة الكلام وزُبدة المقال ما قال ابن العربي -رحمه الله- في (عارضة الأحوذي): “أنه لم يُحد لِما يكفي في الطهارة، وإنما هو على قدر الحاجة والإسراف مكروه، والناس متفاوتون في القصد فيه، وأقل المقدار ما كان يكفي به سيد الناس، فلا يُمكن في الوجود أعلم منه ولا أرفق ولا أحوط ولا أسوس بأمور الشريعة ومكارم الأخلاق منه -صلى الله عليه وسلم-.
فيُقال: السُّنَّة الوضوء بالمد والاغتسال بالصاع، وما زاد فهو بمقدار الحاجة، والحاجة تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال؛ فإن زاد عن الحاجة فهو إسرافٌ وتبذير وبدعةٌ محدثة.
هذا وصلوا وسلموا على عبده ومصطفاه، ورسوله ومُجتباه كما أمركم الله جلَّ في عُلاه ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:56).
وإذا الممالك أكرمت سلطانها *** أو بجلوه وعظموا تعظيمًا
فلتفخروا أن النبي إمامكم * **صلوا عليه وسلموا تسليمًا