عناصر الخطبة
- حيرة البشر في فهم عالم الجن
- أصل خلق الجان وأنواعهم ومساكنهم وأحوالهم المعيشية
- الشيطان أبو الجن
- أهم خصائص الجان وعلاقتهم بالبشر والعقيدة الإسلامية
- الحكمة من خلق الشيطان
اقتباس سنلج هذا العالم لنفقه كيفية خلقهم والحكمة من وجودهم وخلقهم حتى نكون على بصيرة من ديننا، فإن عالم الجن يختلف اختلافا كليا عن عالم الملائكـة والإنسان، فكل له مادتـه التي خلـق منها، وصفاته التي يختلف بها عن الأخر، إلا أن عالم الجن يرتبط مع عالم الإنس من حيـث صفـة الإدراك وصفة العقل والقدرة علـى اختيار طريق الخير والشر…
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب الأرض والسماء، الحمد لله خير الأسماء، الحمد لله باسط الأرض ومنزل الماء، الحمد لله مظهر الإنس وخافي الجآن، الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، الحمد لله الذي لم يخلقنا هباء ولا سدى، الحمد لله الذي أتم النعمة وأعظم المنة، الحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة، والصلاة والسلام على النبي المختار، وإمام الأبرار، و قدوة الأحرار، الداعي إلى الجنة والمنذر من النار، نبينا محمد صلوات ربي وتسليماته عليه ما أقبل ليل وطلع نهار.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله الواحد القهار، فهي المنجية من عذاب النار، والواقية من غضب الجبار، بها فاز كل بار، وهي زينة كل دار.
عباد الله: إن البشرية اليوم تنفق أموالا طائلة وأوقات ضخمة في مجالات عبثية من أجل البحث عن عالم ما وراء المشاهدة، ينفقون مئات المليارات في بحوث الأفلاك وبناء السفن الفضائية طمعا في العثور على مخلوقات وكائنات أخرى عاقلة وغير عاقلة تعيش على الكواكب الخارجية، والمحصلة بعد مئات المليارات وعشرات السنين قبض الريح، وكان من الأولى إنفاق هذه الأموال في توفير حياة كريمة لملايين الفقراء في شتى أنحاء العالم، وفي المقابل يهمل البشر خلقا عاقلا يحيي بيننا، ويسكن أرضنا، ويأكل ويشرب معنا، والأدهى من ذلك أن هذا الخلق وثيق الصلة بنا، وسبب مباشر لكثير من الفتن والاضطرابات والابتلاءات التي تقع على بني آدم، فأي عجب هذا ؟!. البشر يلهثون خلف السراب ويهملون الحقيقة.
هذا الخلق هو الجن هذا العالم الخفي على كثير من المسلمين، وعلى الرغم من تواتر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي تناولت هذا العالم بالتفصيل والتأصيل، إلا أن معظم المسلمين لديهم معلومات مغلوطة أو مشوهة عن هذا الخلق الكبير، فبعض الناس ينكرون وجود الجن أصلا ويعدونهم من قبيل الخرافات والخزعبلات الموروثة، ويجارون في ذلك الغرب والمفتونين به، والبعض الآخر يضخمون من شأن الجن ويهابونهم ويخشونهم كخشية الله أو أشد خشية، وينسبون إليه كل نازلة ومصيبة، ونحن في هذا المقام سندخل عالم الجن نتعرف فيه على حقائق هذا العالم الخفي، وفي ضوء الوحيين -القرآن والسنة- دون غيرهما.
سنلج هذا العالم لنفقه كيفية خلقهم والحكمة من وجودهم وخلقهم حتى نكون على بصيرة من ديننا، فإن عالم الجن يختلف اختلافا كليا عن عالم الملائكـة والإنسان، فكل له مادتـه التي خلـق منها، وصفاته التي يختلف بها عن الأخر، إلا أن عالم الجن يرتبط مع عالم الإنس من حيـث صفـة الإدراك وصفة العقل والقدرة علـى اختيار طريق الخير والشر.
وعن سبب التسمية بالجن يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- : “لِاجتِنانهم يجتنون عن الأبصارِ أَي يستترون، قال تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ﴾ أَيْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ فَغَطَّاهُ وَسَتَرَهُ. ومنها اسم الجنين لاحتجابه في بطن أمه، وسمي فاقد عقله بالمجنون لتغطية عقله وستره“.
أما عن خلق الجن فقد خلقهم الله -عز وجل- من مارج من نار، قال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ(27)﴾ [الحجر: 26، 27]. وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “خُلِقَتِ الْـمَلائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْـجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِـمَّا وُصِفَ لَكُم” (مسلم (2996))، فالله -تبارك وتعالى- خلق الملائكة من نور، وخلق الجن من نار، وخلق البشر من تراب، فالملائكة مجبولون على الطاعة، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وتمحض الملائكة للخير، والشياطين تمحضوا للشر، والجن والإنس قابلون للإيمان والكفر، مستعدون للهدى والضلال.
والجني لم يبق على طبيعته النارية ودليله أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمسكه بيده، وأراد أن يربطه في أحد أعمدة المسجد، حتى يراه المسلمون، ويلعب به صبيانهم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:” إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الجِنِّ تَفَلَّتَ البَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلاَتِي، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ فَأَخَذْتُهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبُطَهُ عَلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي المَسْجِدِ حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فَرَدَدْتُهُ خَاسِئًا” [النمل: 39]، ورواية: ” والله لولا دعوة أخينا سليمان، لأصبح موثقا، يلعب به ولدان أهل المدينة ” (البخاري(3423)).
والجن يتشكل ويتصور في أشكال مخلوقات أخرى، قال شيخ الإسلام ابن تيميه: “الجن يتصورون في صور الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير وفي صور بني أدم وقد أتي الشيطان لقريش في صورة شيخ نجدي لما اجتمعوا بدار الندوة هل يقتلوا الرسول -صلى الله علية وسلم- أو يحبسوا أو يخرجوه كما قال تعالي ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال: 30]”.
ولما أجمعت قريش الخروج إلي بدر ذكروا ما بينهم وبين كنانة من الحرب فكاد ذلك يثنيهم, وفيهم إبليس في صورة سراقة بن مالك -وكان من أشراف بني كنانة- فقال لهم: أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة بشي تكرهونه, فخرجوا والشيطان جار لهم لا يفارقهم, فلما دار القتال ورأى عدو الله جند الله قد نزلت من السماء فركض علي عقبيه, فقالوا: إلى أين يا سراقة؟ ألم تكن قلت: إنك جار لنا تفارقنا؟ فقال: ﴿وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 48].
وعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى- عَنْهُ قَالَ: قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ قَاتَلَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْجِنَّ وَالْإِنْسَ فَقُلْنَا هَذَا الْإِنْسُ قَدْ قَاتَلَ فَكَيْفَ الْجِنُّ؟ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَفَرٍ، فَقَالَ لِعَمَّارٍ انْطَلِقْ فَاسْتَقِ لَنَا مِنَ الْمَاءِ فَانْطَلَقَ فَعَرَضَ لَهُ شَيْطَانٌ فِي صُورَةِ عَبْدٍ أَسْوَدَ فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ قَاعِدًا فَصَرَعَهُ عَمَّارٌ، فَقَالَ لَهُ: دَعْنِي وَأُخَلِّي بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْمَاءِ، فَفَعَلَ، ثُمَّ أَبَى فَأَخَذَهُ عَمَّارٌ الثَّانِيَةَ فَصَرَعَهُ، فَقَالَ: دَعْنِي وَأُخَلِّي بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْمَاءِ، فَفَعَلَ، ثُمَّ أَبَى فَأخَذَهُ عَمَّارٌ الثَّالِثَةَ فَصَرَعَهُ، فَقَالَ: دَعْنِي وَأُخَلِّي بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْمَاءِ، فَتَرَكَهُ فَأَبَى فَصَرَعَهُ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَتَرَكَهُ فَوَفَّى لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنَ عَمَّارٍ وَبَيْنَ الْمَاءِ فِي صُورَةِ عَبْدٍ أَسْوَدَ وَإِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَظْفَرَ عَمَّارًا بِهِ“، قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَتَلَقَّيْنَا عَمَّارًا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- نَقُولُ: ظَفِرَتْ يَدُكَ يَا أَبَا الْيَقْظَانِ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “كَذَا وكَذَا، فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شَعَرْتُ أَنَّهُ شَيْطَانٌ لَقَتَلْتُهُ وَلَكِنْ كُنْتُ هَمَمْتُ أَنْ أَعَضَّ بِأَنْفِهِ لَوْلَا نَتَنُ رِيحِهِ” (العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (5 / 1648)).
ومن طبيعة خلقهم أنهم يرون الناس ولا يراهم الناس، قال الله عن الشيطان وذريته: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 27].
هذا عن أصل خلقهم أما عن أصنافهم وأنواعهم؛ فهم على أنواع وهيئات مختلفة، الجن خلقهم -عز وجل- أصنافا، فعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “الْجِنُّ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ صِنْفٌ لَهُمْ أَجْنِحَةٌ يَطِيرُونَ فِي الْهَوَاءِ، وَصِنْفٌ حَيَّاتٌ وَكِلَابٌ، وَصِنْفٌ يَحِلُّونَ وَيَظْعَنُونَ” (المستدرك على الصحيحين (3702) الذهبي صحيح ولم يخرجاه). وهذا الخلق علي مراتب: فالجن الخالص يعني عموما، وإذا قالوا جني فإن أرادوا أنه ممن يسكن مع الناس قالوا: عامر والجمع: عمار وعوامر, فإن كان ممن يعرض للصبيان قالوا: أرواح، فإن خبث وتعزم فهو شيطان، فإن زاد على ذلك فهو: مارد. فإن زاد على ذلك وقوي أمره قالوا: عفريت والجمع: عفاريت والله اعلم بالصواب.
أما عن طعام الجن؛ فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله علية وسلم- قال: “أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ فَذَهَبْتُ مَعَهُ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ“ قَالَ: فَانْطَلَقَ بِنَا فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ وَسَأَلُوهُ الزَّادَ فَقَالَ:” لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا, وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ” فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمْ” (مسلم(450))، وذكر هذين الصنفين من الطعام لا يدل على أن الجن عامة مقتصرون عليهما، فربما كان ذلك من أهم طعامهم، أو أنه مختص ببعضهم على حسب أصنافهم وأماكن إقامتهم.
وتحول العظم إلى أوفر ما يكون لحما، وكذلك الروث إلى علف للدواب، مختص بالمؤمنين فحسب، أما الكفّار من الجن فليس لهم ذلك، بل هم يستحلون كل طعام لم يذكر اسم الله عليه، كما في حديث حذيفة -رضي الله عنه- قال:” قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “إِنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ أَنْ لَا يُذْكَرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ جَاءَ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ لِيَسْتَحِلَّ بِهَا فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا، فَجَاءَ بِهَذَا الْأَعْرَابِيِّ لِيَسْتَحِلَّ بِهِ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ يَدَهُ فِي يَدِي مَعَ يَدِهَا” (مسلم(2071)).
ويمنع الشياطين من تناول طعام الأنس ذكر اسم الله عليه، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ:”إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ، فَذَكَرَ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: لَا مَبِيتَ لَكُمْ، وَلَا عَشَاءَ، وَإِذَا دَخَلَ، فَلَمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ” (مسلم(2018)).
وأما مساكن الجن فلم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- الصحيحة وصفا تفصيليا لمساكن الجن، أو شكل عيشهم، وهل لهم مدن وقرى كالحال عند البشر، أم إنهم يعيشون في البراري والفيافي، أم هم مختلطون بالبشر في بيوتهم، إلا أنه قد ورد في السنة تعيين بعض الأماكن بأن الشياطين تتواجد فيها، ففي حديث عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: ” إِنَّ هَذِهِ الْحُشُوشَ مُحْتَضَرَةٌ، فَإِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْخَلَاءَ فَلْيَقُلْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ” (أبو داود (6)). قال الخطابي: “والحش النخل المتكاثف، كانوا يقضون حوائجهم إليها قبل أن تتخذ المراحيض في البيوت، ومعنى ( مُحْتَضَرةٌ ) أي: تحضرها الجن والشياطين وتنتابها لقصد الأذى“.
جاء في حديث عن أنسٍ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا دَخَلَ الخَلاَءَ قَالَ: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ وَالخَبَائِثِ” (البخاري(142))، الخبث: ذكور الجن والخبائث: إناثهم، وقال شيخ الإسلام ابن تيميه: “وغالب ما يوجد الجن في الخراب والفوات في مواضع النجاسات كالحمامات والمزابل والمقابر, والشيوخ الذين تقترن بهم الشياطين وتكون أحوالهم شيطانية لا رحمانية يأوون كثيرا إلى هذه الأماكن التي هي مأوى الشياطين” روى بن أَبِي الدُّنْيَا مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ يَزِيدِ بْنِ جَابِرٍ أَحَدِ ثِقَاتِ الشَّامِيِّينَ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ قَالَ: “مَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ إِلَّا وَفِي سَقْفِ بَيْتِهِمْ مِنَ الْجِنِّ, وَإِذَا وُضِعَ الْغَدَاءُ نَزَلُوا فَتَغَدَّوْا مَعَهُمْ وَالْعَشَاءُ كَذَلِكَ يدفع الله بهم عنهم“.
وكثير من الناس يخلطون بين الجن والشيطان وإبليس والجن، وإبليس هو أبو الجن وفيهم المؤمن والكافر، فإبليس هو أبو الشياطين، وله ذرية لا يموتون إلا معه، ولكنه تمحض للشر المحض، كما أن أبو الإنسان آدم -عليـه السلام-، وفيهم المؤمن والكافر، أما طبيعـة خلقتهم فقد أخبرنا الله -عز وجل- عنهم أنه خلقهم من نار، قال عز وجل: ﴿ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ﴾ [الرحمن: 15]، قال تعالى: ﴿وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ ﴾ [الحجر: 27]، والسموم الريح الحارة تؤثر تأثير السم.
لقد كان الشيطان في بداية أمره عابد لله، وسكن السماء مع الملائكة، ودخل الجنة، ثمّ عصى ربه عندما أمره أن يسجد لآدم، استكباراً وعلواً، فطرده الله من رحمته، وقد حدثنا اللهُ عنه كثيراً في القرآن أنه من عالم الجنّ. وهذا معناه أن إبليس هو الشيطان، وأصله من الجن، وله ذرية، قال سبحانه: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ﴾ [الكهف: 50].
روي عن ابن جرير: أنه لما أراد الله خلق آدم ليكون في الأرض هو وذريته من بعده وصور جثته، منها جعل إبليس وهو رئيس الجان وأكثرهم عبادة إذ ذاك وكان اسمه عزازيل يطيف به فلما رآه أجوف عرف أنه خلق لا يتمالك, وقال: أما لئن سلطت عليك لأهلكنك ولئن سلطت علي لأعصينك. فلما أن نفخ الله في آدم من روحه، وأمر الملائكة بالسجود له, دخل إبليس منه حسدٌ عظيم وامتنع من السجود له, وقال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين, فخالف الأمر واعترض على الرب -عز وجل- وأخطأ في قوله وابتعد من رحمة ربه وأنزل من مرتبته التي كان قد نالها بعبادته, وكان قد تشبه بالملائكة ولم يكن من جنسهم لأنه مخلوق من نار وهم من نور, فخانه طبعه في أحوج ما كان إليه ورجع إلى أصله.
فأهبط إبليس من الملأ الأعلى وحرم عليه قدرا أن يسكنه فنزل إلى الأرض حقيرا ذليلا مذءوما مدحورا متوعدا بالنار هو ومن اتبعه من الجن والإنس إلا أنه مع ذلك جاهد كل الجهد على إضلال بني آدم بكل طريق وبكل مرصد، قال تعالى: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)﴾ [الإسراء: 62 – 65].
عباد الله: إن من بنود عقيدتنا الإسلامية ؛ الإيمان بكل غيب أخبر الله عنه، والإيمان بكل ما ورد في كتاب الله -عز وجل- من حقائق وأمور، ومن ضمنها الجن والملائكة والشياطين، فالإيمان بالجن من بنود الإيمان، والمكذب بوجود الجن مكذب للقرآن الصريح في ذكر وجودهم،، ولا يجوز إنكار هذا الخلق، فقد أنزل الله -تبارك وتعالى- سورة كاملة عن الجن في القرآن الكريم، قال الله -تعالى-: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)﴾ [الجن: 1- 28].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية:
الحمد لله خالق الأكوان، فاطر الإنس والجن، والصلاة والسلام على رسول البيان، محمد بن عبد الله النبي العدناني، وعلى آله وصحبه الأئمة الكرام.
عالم الجن عالم له خصوصياته التي يتشابه فيها مع الإنسان في بعض بنودها، ويختلف في البعض الآخر، هذه الخصوصيات تحدد المعالم العامة لفهم هذا العالم الغامض على كثير من الناس، من أهم هذه الخصوصيات:
أولا: الجن مكلفون بالتكليف الرباني وما جاء به عليه الصلاة والسلام يشترك فيه الجن والإنس، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، فدلت الآية على أن الغاية التي لأجلها خلق الثقلان هي العبادة، وهم مكلفون بها، وهذا أمر مجمع عليه، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- بعث إلى الثقلين الإنس والجن، قال ابن عبد البر: “الجن مكلفون، والدليل ما في القرآن من ذم الشياطين، والتحرز من شرهم، وما أعدَّ لهم من العذاب، وهذه الخصال لا تكون إلا لمن خالف الأمر، وارتكب النهي، مع تمكنه من أن لا يفعل، والآيات والأخبار الدالة على ذلك كثيرة جدا، فمن ذلك قوله – صلى الله عليه وسلم: ” وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ وَبُعِثْتُ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ” (فتح الباري لابن حجر (6 / 345)).
فالجن مثابون على الطاعة مستحقون العقاب على المعصية، قال تعالى: ﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ﴾ [الجن: 15] [الجن: 15]، وقال أيضاً: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ) [الجن: 16]، ومما يستدل عليهم به من العقاب ولهم من الثواب، قوله -تعالى-: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: 46]، ثم قال: ﴿ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [الرحمن: 13] والخطاب للإنس والجن، فإذا ثبت أن فيهم مؤمنين، والمؤمن من شأنه أن يخاف مقام ربه ثبت المطلوب.
والله -عزَّ وجلَّ- أمر الإنس والجن بعبادته، وأعطاهم القدرة على امتثال الأوامر والعمل بالشرع، وأعطى كل جنس من الطاقات والقدرات ما يناسب حاله، والجن متفاوتون كالإنس في مراتبهم وعبادتهم لربهم، وصلاحهم وفسادهم، فمنهم الصالحون ومنهم دون ذلك، قال تعالى: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا﴾ [الجن: 11] وقال تعالى: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ﴾ [الجن: 14].
ثانيا: التعايش مع الإنسان كما أن لهم قدرة على الحياة في هذه الأرض مع البشر، قال الله عن آدم وإبليس: ﴿قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ [الأعراف: 24]، ولهم قدرة كذلك على الحياة خارج الأرض، والصعود إلى السماء، قال سبحانه: ﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا(9)﴾ [الجن: 8-9].
ومن تعايشهم مع الإنسان أنهم يستطيعون سماع صوت الإنسان، ويفهمون لغته، ويتأثرون به، قال الله عنهم: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ﴾ [الأحقاف: 29]، وأعطى الله إبليس وذريته القدرة على التأثير على البشر وإغوائهم، إلا عباد الله المخلصين فلا سلطان لهم عليهم، قال سبحانه: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [ص: 82-83].
وقد مكان من خلال سماعهم للقرآن الكريم استطاعوا أن يميزوا الحق من الباطل، والرشد من الغي، والخير من الشر، وقد شاء الله -عزَّ وجلَّ- أن تعرف الجن نبأ الرسالة الأخيرة، نتيجة للتغيرات التي حصلت في حياتهم، فآمن فريق منهم لما سمعوا القرآن، ودعوا قومهم إليـه، قال سبحانه: ﴿قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الأحقاف: 30]، وحين سمعوا الهدى من ربهم أسلموا فوراً، قال سبحانه: ﴿وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا﴾ [الجن: 13].
وهؤلاء الجن الذين سمعوا القرآن من النبي -صلى الله عليه وسلم- شعروا أن عليهم واجباً في الإنذار لا بد أن يؤدوه، واعتبروا نزول هذا الكتاب إلى الأرض دعوة من الله لكل من بلغته من إنس وجن، فنادوا قومهم: ﴿يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الأحقاف: 31]، وهم يتأثرون بسماع الهدى كالإنس فيؤمنون، وهم مطمئنون إلى عدل الله وقدرته، مؤمنون أن الله لا يبخس المؤمن حقه، ولا يرهقه فوق طاقته.
ثالثا : الجن والسنن الكونية الجن تجري عليهم السنن الكونية، فهم يموتون ويبعثون وفي الجزاء الأخروي يستوي فيه الجن والإنس, بحيث أن المحسنين ينعمون في الجنة والمسيئين يعذبون بالنار، حسب إيمانهم وأعمالهم، وكل ميسر لما خلق له، ويدخلون الجنة أو النار قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنعام: 128]، وقال سبحانه: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [هود: 119].
صفة خلقة الجن نحن لا نعرف من خلقتهم وصورهم وحواسهم إلا ما عرفنا الله منها، فنعلم أن لهم قلوباً قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾ [الأعراف: 179]، فقد صرح تبارك وتعالى بأن للجن قلوباً، وأعيناً وآذاناً، وللشيطان صوتاً، لقوله -تعالى-: ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [الإسراء: 64]، وثبت في الخبر أن الجان يأكلون، ويشربون، ويضحكون، وغير ذلك مما تجده مبثوثاً في دواوين السنة النبوية المطهرة.
رابعا: الجن وخوارق الأعمال لقد منح الله -عز وجل- الجن قدرة خاصة على القيام بالأعمال الخارقة، والصناعات البديعة، والأشغال الَّتي يعجز البشر عن القيام بمثلها، كما أن لهم القدرة على التشكُّل بالأشكال الجسمانية الَّتي يمكن أن يراها البشر، فقد أخبر القرآن الكريم أن الله قد طوَّع الجنَّ لنبيِّه سليمان -عليه السلام-، وسخَّرهم له فشيَّدوا له الأبنية الضخمة، وعملوا له الصناعات الفنية، وجلبوا إليه الأحمال الثقيلة من مسافات بعيدة وبوقت قليل، وغير ذلك من الأعمال الَّتي يعجز البشر عن القيام بها.
قال تعالى ممتنّاً على نبيِّه سليمان: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36)وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ(38)﴾ [ص: 36 – 38] وقال أيضاً: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ﴾ [سبأ: 13]، والله -سبحانه- حينما سخر الجن لسليمان سخرهم لنفع الناس، وعمارة الأرض، ولم يسخرهم في الإيذاء، وفي قصَّة جلب عرش بلقيس دليل على قدرتهم على القيام بالأعمال الخارقة، وفي هذا يقول تعالى: ﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ﴾ [النمل: 39].
وهنا ربما يثور تساؤل هام في ذهن كثير من الناس، عن الحكمة من خلق كائن بشع ومليء بالشر المحض مثل إبليس؟ ولماذا سلطه الله -عز وجل- على بني آدم، ولماذا أعطاه من القدرة والبقاء لإغواء بني آدم طيلة بقاء الإنسان على وجه الأرض؟, ولهؤلاء المشككين في حكمة وقدرة رب العالمين نهدي إليهم كلمات الإمام ابن القيم الرائعات التي أودعها سفره القيم (شفاء العليل) وفيها يقتفي بعض آثار حكمة الله في خلق إبليس -لعنه الله- ومنها:
إكمال مراتب العبودية في مجاهدة الشيطان وأعوانه ومقاومة الفتن والزينات التي يزينها الشيطان للناس.
ومنها تخويف العباد من الذنوب، بالنظر في مصير إبليس لما عصى الله -عز وجل- وخالف أمره، فانقلب من خير حال لأسوأ حال.
ومنها أنه فتنة للخلق ليري الله -عز وجل- الصادق من الكاذب، والخبيث من الطيب.
ومنها إظهار كمال قدرة الله بخلق الأضداد، الملائكة والشياطين، الخير والشر، والحسن والقبيح.
ومن ذلك استخراج المراتب الإيمانية من قلوب العباد مثل الصبر والشكر والحمد والرضا واليقين، وهي مقامات لا تظهر إلا بمجاهدة الهوى ومخالفة النفس والشيطان.
ومنها ظهور آثار أسماء الله الحسنى وصفاته العلا مثل الغفور الرحيم البصير السميع الخبير وهكذا، وظهور صفات العفو والصفح والإمهال والكرم والجود على العباد، وذلك في كل الأحوال، حال مخالفة الشيطان وحال موافقته وإتباع هواه.
ومن الحكمة في خلق إبليس: أن إبقاء إبليس طوال الزمان لدوام الامتحان للخلق، ولتمايز المؤمنين عن المجرمين في كل عصر وزمان.
اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَبِكَ مِنْكَ، لا أُحْصِى ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ.