عناصر الخطبة
- فضائل التفاؤل وثمراته
- من سمات المتفائلين
- صور مشرقة في تفاؤل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشدائد
- المنح في أرحام المحن
- ذم اليأس والقنوط والتقاعس.
اقتباس تفاءل؛ فحياتك وموتك بيد الله، تفاءل فمرضك وصحتك بيد الله، تفاءل فكربك وهمك بيد الله، تفاءل فدَينك وضيقك بيد الله، أزِمَّة الأمور بيده، والأمر أمره، والعبد عبده، وهو على كل شيء قدير.. تفاءل في حياتك ومستقبلك، تفاءل بنصر دينك، وصلاح حالك، تفاءل بانهزام عدوك، ونجاح أمرك، البس لحياتك نظارة بيضاء، وإياك والنظرات السوداء، والنظارات الظلماء. النفوس تتشوق للكلام الحسن، وترتاح للمنظر الأنيق والوجه الحسن، وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- أنه يعجبه إذا خرج لحاجة أن يسمع: يا راشد، يا نجيح. وكان يبشّر أصحابه بنصر دينه، وإعلاء كلمته،…
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله -جل في علاه-، فهي الوصية الأولى، والمعتَصَم الأقوى، والعروة الوثقى.
أيها المسلمون: في خضم الأحداث، وانفتاح الحضارات، واللهث وراء الماديات، وكثرة الحروب الطاحنات، والدماء السائلات، والفتن والمحن السائرات، في وقت عاد المنكر معروفًا، والمعروف منكرًا، والصدق كذبًا، والكذب صدقًا، خُوِّن الأمين، وائتُمن الخائن.
في زمن كثرت فيه المنكرات، وقلت البركات، وتكلمت الرويبضة بأمر العامة، وادعى الإصلاح أهل الفساد، باسم الصلاح والديانة والإصلاح، تكالبت الأعداء، وتكاتف المنافقون الألداء، كثر الهرج، وقلّ العلم، وفشا الجهل، وطغا أهل الطغيان، وانتشر أهل العصيان، في زمن انتشرت فيه الأفكار المنحرفة، والأهواء الضالة، والشهوات الطاغية، والتشريد والتخريب، والهدم والتدمير.
مع ذلك كله فباب التفاؤل وحسن الظن والتكافل موضوعنا في لحظاتنا.
الناس مجبولون على التفاؤل، والكلمة الطيبة، والمقالة الحسنة، والبشاشة والابتسامة، والأنس والسعادة، فالتفاؤل عند الأزمات، وحسن الظن عند الشدائد الحالكات، هو الذي يميِّز المؤمن عند المضائق، ويوسِّع المآزق، ويبعث الحقائق، ذلكم –عباد الله- أن اليمن والتفاؤل يدفع وينفع، ويزيد ويرفع، التفاؤل سنة إلهية، وقدوة نبوية، يحارب التشاؤم، ويصادم التعاسة والخذلان، والتقاعس والنكد.
التفاؤل –أيها المؤمنون- عند الشدائد والأزمات يتصف به أهل الحقائق والثبات، فإذا عثرت الأمور، وضاقت الدروب فاستحضر: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر: 36]، وإذا اشتدت الكروب، وتلاحمت الخطوب فتذكر: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح: 5، 6]، وإذا ضاق أمرك، واشتد مرضك، وتراكم دينك، فتذكر قول ربك: ﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً﴾ [الطلاق: 7].
هوّن عليك فكل الأمر ينقطع *** وخل عنك عنان الهم يندفع
فكل همّ له من بعده فرج *** وكل أمر إذا ما ضاق يتسع
إن البلاء وإن طال الزمان به *** فالموت يقطعه أو سوف ينقطع
ومن هديه عليه الصلاة والسلام: أنه يحب التفاؤل، والكلمة الطيبة الحسنة، ويعجبه ذلك.
ومن لطائف الاستنباط عند ابن حجر على حديث عائشة –رضي الله عنه-: "كان يعجبه التيمن في تنعله وطهوره وترجله، وفي شأنه كله". قال: "قيل: لأنه كان يحب الفأل الحسن؛ إذ أصحاب اليمين أهل الجنة".
ولهذا أيها المسلم: عرّف الرسول -صلى الله عليه وسلم- الفأل بأنه الكلمة الطيبة يسمعها أحدكم، بل كان يعجبه الفأل الكلمة الحسنة والكلمة الطيبة، كما في الصحيحين عن سيد الثقلين، فالمحن مهما بلغت قساوة، وتتابعت ضراوة، عند الإيمان والعقيدة، والعلم بالله وحده، وتصريفه وتدبيره، وقوته وقهره، تضمحل وتتلاشى.
ومن تكن قوة الإيمان ناصره *** فأعظم الخطب هيِّن حين يصطدم
إن العقيدة ندّ للحياة فإن *** ضاعت فكل حياة بعدها عدم
تفاءل في حياتك ومستقبلك، تفاءل بنصر دينك، وصلاح حالك، تفاءل بانهزام عدوك، ونجاح أمرك، البس لحياتك نظارة بيضاء، وإياك والنظرات السوداء، والنظارات الظلماء.
النفوس تتشوق للكلام الحسن، وترتاح للمنظر الأنيق والوجه الحسن، وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- أنه يعجبه إذا خرج لحاجة أن يسمع: يا راشد، يا نجيح. وكان يبشّر أصحابه بنصر دينه، وإعلاء كلمته، وقال: "ليدخلن هذا الدين كل بيت مدر ووبر، وليتمن الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل"، وقال كما في الصحيح: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله"، ويقول إمام الدعوة، ومجدد الملة، محمد بن عبد الوهاب –أجزل الله له الأجر والثواب-: وفيه البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية، كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا بعث عماله أوصاهم بما يفتح الصدور، وينير الطريق: "بشِّرا، ولا تنفِّرا، يسِّرا، ولا تعسِّرا"، وقال: "تطاوعا، ولا تختلفا".
تفاءل بصلاح ذريتك، ونجاحك في حياتك، وحياتك مع أسرتك.
وإني لأرجو الله حتى كأنني *** أرى بجميل الظن ما الله صانع
تفاءل؛ فحياتك وموتك بيد الله، تفاءل فمرضك وصحتك بيد الله، تفاءل فكربك وهمك بيد الله، تفاءل فدَينك وضيقك بيد الله، أزِمَّة الأمور بيده، والأمر أمره، والعبد عبده، وهو على كل شيء قدير.
ولرب نازلة يضيق بها الفتى *** ذرعًا وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها *** فرجت وكنت أظنها لا تفرج
أيها المسلمون: من أسرار القرآن: الاستعاذة برب الفلق، ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ [الفلق: 1]، والفلق الصبح، وفي هذه لفتة: وهي أن القادر على إزالة الظلمة والليل عن العالم قادر على إزالة الضرر وكشف الضر، فالمظلوم سوف ينتصر، والليل سوف ينجلي، والدَّيْن سوف ينقضي، وكل ما هو آت قريب.
وبعض الناس يغلّب الشؤم والسلبيات على الفأل والإيجابيات، فكل حركة عين، وكل هم كدر، وكل مصيبة عين حاسدة، الأمور إذا ضاقت انفرجت، وإذا عسرت تيسرت.
إذا الحادثات بلغن النهى *** وكادت تذوب لهن المهج
وحل البلاء وقلّ العزاء *** فعند التناهي يكون الفرج
إن للتفاؤل فوائد، ولحسن الظن منافع وعوائد: كالاقتداء بسيد الأوائل والأواخر، فالفأل لا يفارقه في حروبه وغزواته، في دعوته وسياساته، "لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله".
والتفاؤل من باب حسن الظن، وحسن الظن من الإيمان، والتفاؤل الحسن يجلب السعادة والسرور والمنن، وكذا يفتح باب الرجاء والأمل، ومن ثَم الجدّ وحسن العمل، وفي التفاؤل شرح الصدور، وإفراح القلوب، يبعث الهمة، ويزيل الغمة، ويدعو للمجد والاجتهاد وعلو الأمة.
في التفاؤل راحة البال، وصلاح المال والعيال، وفيه الرضا بالقدر والقضاء، يحقق العبودية، وينشط الحياة الدنيوية، ويعمر الدار الأخروية، المتفائل مبتسم مهما كانت حاله، وضاق أمره، واشتد كربه، وعلا همه.
ومن أسرار ولطائف القرآن: البِشْر والسرور، والأنس والحبور، هو الأصل في النفوس والصدور، ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى﴾ [النجم: 43]، فقدم الضحك لتكون سعيدًا، وفي الحياة حميدًا، متفائلًا أنيسًا.
ومن سمات المتفائلين: قوة الإيمان، والتوكل على رب العالمين، فأعظم دافع للتفاؤل الإيمان والعقيدة.
ومنها: حسن الظن، وفي مسلم: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله".
ومن سماتهم: التعقل والتريث، وعدم العجلة والتضجر.
ومنها: عدم تضخيم الأمور، وتكبير المسائل وإضاعة الدور، المتفائل لا يتسرع ويبطش، ولا يلعن ويغضب ويفحش، فهو دائم البشر واللطافة والهدوء، والبشاشة والابتسامة والحنو.
وأعظم من ذلك كله: الرضا بالقضاء والقدر، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
وأن كل شيء بقضاء وقدر *** والكل في أم الكتاب مستطر
المؤمن بقضاء الله إن أصابته شكر، وإذا أصابته ضراء صبر، في الحالتين مؤمن بالقضاء والقدر.
يجري القضاء وفيه الخير أجمعه *** لمؤمن واثق بالله لا لاهي
إن جاءه فرح أو نابه ترح *** في الحالتين يقول: الحمد لله
فهو في جنة معجلة، وراحة مبجلة، واستقرار وطمأنينة، وسعادة روحانية.
وكل حر وإن طالت بليته *** يومًا تُفرج غماه وتنكشف
بعض الناس دائم الحزن، سريع الغضب، يتشاءم من كل شيء، تضيق الدنيا بعينه، وتصغر الحياة عنده، بيد أن السرور أكثر، والنعم أكبر، والعطاء أعظم، والتفاؤل أشمل وأعم.
يا صاحب الهم إن الهم منفرج *** أبشر بخير فإن الفارج الله
اليأس يقطع أحيانًا بصاحبه *** لا تيأسن فإن الكافي الله
إذا بُليت فثق بالله وارض به *** إن الذي يكشف البلوى هو الله
الله يُحدث بعد العسر ميسرة *** لا تجزعن فإن الصانع الله
والله ما لك غير الله من أحد *** فحسبك الله في كلٍ لك الله
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين.
هذا، وقد ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- الصور المشرقة في تفاؤله بالشدائد، في غزواته وحروبه، في رخائه وسلمه، في الصحيحين: قالت عائشة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أُحُد؟ فقال: "لقد لقيت من قومك… فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال، وسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد: إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين".
فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بل أرجو أن يُخرِج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، ولا يشرك به شيئًا"، فبعث الأمل والتفاؤل، والرحمة والشفقة، في هذا الموقف العصيب، واليوم الرهيب، ورغم شركهم وعنادهم كان مشفقًا عليهم متفائلًا.
فلما قيل له: إن دوسًا عصت وأبت فادع الله عليها. فقال الناس: هلكت دوس. فاستقبل القبلة، ورفع يديه قائلاً: "اللهم: اهد دوسًا، وائت بهم"، ولما سأل أهل مكة النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يجعل لهم الصفا ذهبًا، وأن ينحِّي الجبال عنهم، فقيل له: "إن شئت أن تستأني بهم، وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أُهلكوا كما أُهلكت من قبلهم"، قال: "لا، بل أستأني بهم"، وبعض الناس في لحظة يتشاءم، وفي لفظة يتلاطم، وفي غضبة يتراجم، فيجعل الحبة قبة، والنقطة بحرًا.
فحسِّن ظنك، ووسِّع تفاؤلك، مهما كانت حياتك، ولو كنت على فراش الموت، ولو بلغ العدو والعدا مبلغ الفوت، فعند أحمد: "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل"، هكذا يبث التفاؤل، ويزرع الآمال، ويضيء النور، ويغرس البذل والعمل، حتى ولو عند حلول الأجل.
وعليه: فالمنح في أرحام المحن، والعظمة في الشدائد، والنصر مع الصبر، والنقمة نعمة، فانهض وانطلق، وتفاءل ولا تلتفت، والصبح تنفس بنوره، ولاح بناظره بخروجه.
وللنجم من بعد الرجوع استقامة *** وللشمس من بعد الغروب طلوع
وإن نعمة زالت عن الحر وانقضت *** فإن لها بعد الزوال رجوع
فكن واثقًا بالله واصبر لحكمة *** فإن زوال الشر عنك سريع
أيها المسلمون: لنتفاءل ونطرد اليأس والقنوط، والتقاعس والحبوط، تأمل قواعد القرآن، وارسم خطاها في الزمان، ﴿فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾ [النساء: 19]، وثانيًا: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216، وغيرها]، وثالثًا: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ﴾ [البقرة: 216]، ورابعًا: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾ [النساء: 17]، وخامسًا: ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾ [يوسف: 21].
وكل الحادثات إذا تناهت*** فموصول بها فرج قريب
فثق بنفسك، وأصلح حالك، وابتسم في حياتك، وكما قيل: الغيوم لا تدوم، فعلِّق قلبك بالحي القيوم. فالحياة جميلة، وفي طياتها سعيدة، تفاءل بمغفرة الله لك، ورحمته بك، ونصره وعطائه، وبركته وجوده وهباته، وتيسيره وفرجه، ففي الحديث: "لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت. ليعزم المسألة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه، ولا مُكره له".
تفاءل؛ فرغم وجود الشر هناك الخير، ورغم وجود المشاكل هناك الحل، ورغم وجود الفشل هناك النجاح، ورغم قسوة الواقع هناك الأمل.
تفاءل بما تهوى فقلما *** يقال لشيء كان إلا تحققا
وفي الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء" (رواه البخاري).
تذكر نعم الله عليك، وفضله لك ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ [لقمان: 20]، واقنع بما أعطاك الله، واحمد الله على ما أولاك إياه.
إذا المرء عوفي في جسمه *** وملَّكه الله قلبًا قنوعا
وألقى المطامع عن نفسه *** فذاك الغني وإن مات جوعا
والخلاصة بالتفاؤل عند الأزمات: حسن الظن برب البريات، والمتفائل يستفيد من ماضيه، ويعيش مع يومه بما فيه، ويتشوق لمستقبله وحياته فيه.
والله أعلم.