بطاقة المادة
المؤلف | عمر القزابري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | مقروء |
اللغة | العربية |
العنوان | اللغة |
---|---|
مفهوم الحرية في الإسلام | العربية |
ضوابط الحرية | العربية |
الحرية والعبودية | العربية |
عناصر الخطبة
اقتباسليست العبوديَّةُ عادةً تتحكَّم، وشهوةً تستعْلِي، ولَذَّةً تُطَاع؛ وليست الحريَّةُ هي القدرةَ على الانتقال من بلد إلى بلد؛ فتلك أيسر أنواع الحرية، وأقلُّها ثمنا؛ ولكنَّ الحريةَ الحَقَّةَ أن تستطيع السيطرة على نفسك وأهوائك ونوازعِ الشَّرِّ فيك، وإنَّ الحريَّةَ الحقَّةَ ألَّا تستعْبِدَكَ عادةٌ، ولا تستغلَّك شهوةٌ. بهذا المعنى كان المؤمنون المتديِّنون أحراراً ..
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا وراءه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدُّسًا لا عُدْمًا، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما.
وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم عُربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومَنْمَى، وأشدهم بهم رأفة ورُحمى، حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وذكَّاهُ روحًا وجسمًا، وآتاه حِكمة وحُكمًا، فآمن به وصدَّقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
معاشر الصالحين: يقول أحد الحكماء: "الحريَّةُ تمامُ العبودية، وفي تحقيقِ العبودية تمام الحرية"، ما أجمله من كلام! وما أصدقه! فلن تكون عبداً على وجه الحقيقة إلا إذا كنتَ حُراً، ولن تصل إلى هذه الحرية حتى تصطبغ بصبغة العبودية.
ونحن -أيها الأحباب- على مشارفِ شهر عظيم، يستحق أن يوصف بأنه شهر الحرية، نعم أيها الأحباب، شهر الحرية، شهر الاستعلاء على مطامع الجسد، شهر التحرر من العادات المستحكمة.
ولقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة حول الحرية، الحرية الشخصية، حتى أصبحت الدياثة حرية! وحتى غدا التجسس على الناس حرية! وحتى أصبحت قلة الأدب حرية!.
وأخطر ما يمكن أن تصاب به المجتمعات أن تنقلب الحقائق عندها، ولا يتم ذلك إلا عبر تسويق الوهم، وتعطيل الفهم، والتمكين للزيف والهوى، وهو ما تسعى من أجله اليوم فئاتٌ من المجتمع تحت عناوينَ شتَّى أبرزها الحرية، والمساواة، وغير ذلك من المصطلحات الرنانة.
إننا مسلمون -أيها الأحباب-، وكوننا مسلمين يجعلنا نتقيد بعهد حملناه يوم قلنا: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيا ورسولا. فهذا عقدٌ، وهذه بيعة بايعْنا عليها الله، وبايعنا عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فلماذا -عند تناولنا لهذه القضية، قضية الحرية- نُبعد الدين، ونتناول الموضوع من منظور الغير من شرقٍ وغرب. هل نحن بغير هوية؟ هل نحن بغير دين؟ هذا القرآن بين أيدينا، وهذه السنة مدونة محفوظة، فلماذا نضرب عنهما الذكر صفحاً؟.
لماذا نترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونلجأ إلى التافهين، وربنا يقول: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ﴾، أي: يا محمد، ﴿فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء:65].
إذا سألنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اليوم عن مَن يرى زنا الأم والأخت حرية شخصية، بماذا سيجيب -صلى الله عليه وسلم، وفداه أبي وأمي ونفسي-؟! بماذا سيجيب وهو الغيور على أمته؟ وهو القائل: "مَن زنا و شرِب الخمر نزع الله منه الإيمان كما يخلع الإنسان القميص من رأسه" رواه الحاكم وغيره.
بماذا كان سيجيب وهو القائل: "لا تزال أُمَّتي بخيرٍ ما لم يفشُ فيهم ولد الزنا؛ فإذا فشا فيهم ولد الزنا أوشك أنْ يعمَّهم الله بعذاب"رواه الإمام أحمد وغيره.
قال الإمام الذهبي -رحمه الله-: "ورد في الزبور مكتوبا: إن الزناة معلقون من فروجهم في النار، يضربون عليها بسياط من حديد، فإذا استغاث مِن الضرب نادته الزبانية: أين كان هذا الصوت وأنت تضحك وتفرح وتمرح ولا تراقب الله تعالى ولا تستحي منه؟".
إنها ليست حرية أيها الأحباب، وإنما هي فوضى، فليست الحرية كما يظنها كثيرٌ من الناس -وخصوصا بعض الشباب- أن ينطلق الإنسان وراء أهوائه وشهواته، يأكل كما يشاء، ويفعل ما يشاء، ويحقق كل ما يهوى ويريد، فتلك هي الفوضى أولا، والعبودية الذليلة ثانيا.
أما كونها فوضى فلأنه ليس في الدنيا حرية مطلقة غير مقيدة بقانون أو نظام؛ بل كل شيء في الدنيا له قانون يسيره وينظمه، وحرية الفرد لا تصان إلا حين تقيد ببعض القيود؛ لتسلم حريات الآخرين، ومن هنا كانت الحكمة من الشرائع والأنظمة والقوانين.
خذ لذلك مثلا: قانون السير في المدن الكبرى: هل تستطيع أن تسير بسيارتك إلا وفق اللافتات التي تحدد اتجاهك في السير؟ وخذ لذلك مثلا قانون الراحة العامة: هل تستطيع أن تصيح بصوتك بعد منتصف الليل كما تشاء في الأماكن الآهلة بالسكان؟ هل تستطيع أن تدعو إلى الصلح مع العدو وأمتك في قلب المعركة؟!.
إن تمام الحرية قد يكون بالمنع أحيانا، فالمريض حين يمنع عن الطعام الذي يضره إنما تُحَدّ حريته في الطعام مؤقتا لتسلم له بعد ذلك حريته في تناول ما يشاء من الأغذية.
والمجرم حين يسجن إنما تحد حريته مؤقتا ليعرف كيف يستعمل حريته بعد ذلك في إطار كريم لا يؤذي نفسه ولا يؤذي الناس.
ثم إن الإنسان لا يعيش وحده، وإنما يعيش جزءاً من مجتمع متماسك يؤذيه كلَّه ما يؤذي بعضَه، وقد ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لذلك مثلا من أروع الأمثلة لقوم كانوا في سفينة، وكان بعضهم في أعلاها وبعضهم في أسفلها، وكان الذين في أسفلها يأخذون الماء ممن فوقهم فقالوا: لماذا لا نخرق في مكاننا خرقا نأخذ منه الماء من البحر؟ قال -عليه الصلاة والسلام-: "فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا، وهلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجَوا، ونجوا جميعا".
إنه مثَلٌ كريم من معلِّم الإنسانية الأكبر -صلى الله عليه وسلم- يضع فيه الحد الفاصل بين الحرية الشخصية التي لا تؤذي أحداً، وبين الحرية التي تؤذي المجتمع وتُعرِّضُه للانهيار إذا أطلقت يد صاحبها كما يشاء.
معاشر الأحباب: حين تستولي على الإنسان عادة الانطلاق وراء كل لذة، والانفلات من كل قيد، تكون قد استعبدته اللذة على أوسع مدى، فأصبح أسيرها، يجري في الحياة تحت إرادتها ووحيها؛ فهل هذه هي الحرية ؟!.
حين ينطلق الإنسان وراء فتاة يهواها أو وراء الغانيات يشبع بهن لذائذه، أيستطيع أن يزعم أنه حر من سلطانهن؟ أم تراه أسير اللحظات، رهن الإشارات، شارد الذهن، أقصى أمانيه في الحياة بسمة من حبيبة، أو وصال من جسم ممتنع؟!.
أية عبودية أذلّ من هذه العبودية، وهو لا يملك حرية في الحب والكره، والمنع والرضا، والغضب والهدوء والاضطراب!.
وحين يسترسل الإنسان في شرب الدخان وتناول المسكرات يعب منها ما تناله يده حتى تتلف أعصابه وصحته، وتسلب عقله وكرامته، أيزعم بعد ذلك أنه حر؟! أهنالك أبشع من هذه العبودية لشراب قاتل، وسموم فتاكة؟.
وقل مثل ذلك في التهالك على المال والجاه، والتعصُّب للزعماء والقادة والأشخاص، إن كل ذلك حين يستولي على قلب الإنسان ونفسه ينقلب إلى عبودية ذليلة، وكل هوى يتمكن من النفس حتى تكون له السيطرة على الأعمال والسلوك ينقلب بصاحبه إلى عبودية بشعة لا نهاية لقبحها.
ومن أعجب أساليب القرآن تعبيره عن مثل هذه الحالة بقوله: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الفرقان:43]، إن الهوى عند أمثال هؤلاء له خصائص الإلوهية في نفوس المؤمنين، أليس الإله هو الذي يُعبد ويطاع ويخشى ويرتجي؟ أليس أصحاب الأهواء والشهوات قد خضعوا لأهوائهم وأطاعوها فيما تحب وتكره؛ فلا يستطيعون إغضابها، ولا معارضة سلطانها؟.
أيها الكرام: ليست العبوديَّةُ عادةً تتحكَّم، وشهوةً تستعْلِي، ولَذَّةً تُطَاع؛ وليست الحريَّةُ هي القدرة على الانتقال من بلد إلى بلد؛ فتلك أيسر أنواع الحرية، وأقلُّها ثمنا؛ ولكنَّ الحريةَ الحَقَّةَ أن تستطيع السيطرة على نفسك وأهوائك ونوازعِ الشَّرِّ فيك، وإنَّ الحريَّةَ الحقَّةَ ألَّا تستعْبِدَكَ عادةٌ، ولا تستغلَّك شهوةٌ. بهذا المعنى كان المؤمنون المتديِّنون أحراراً…
إن الدين حرر نفوسهم من المطامع والأهواء والشهوات، وربط نفوسهم بالله خالق الكون والحياة، وقيد إرادتهم بإرادته وحده، والله هو الحق، وهو عنوان الخير والحب والرحمة، فمن استعبده الحق والخير والرحمة كان متحررا من كل ما عداها من صفات مذمومة.
إننا -أيها الأحباب- ندعو دعاة هذا اللون من ألوان الحرية المزعومة أن يتوبوا إلى الله، وأن يعودوا إلى رشدهم، وأن يكفوا عن المسلمين هذه الشرور، وأن يخضعوا لله ورسوله ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ [الشورى:47]؛ ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [النور:51].
إن الدين لا يقبل التجزئة أو التبعيض أو التقسيم، فإما مؤمنٌ منقاد، وإما متمرد ذو عناد، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ [البقرة:208]، أي ادخلوا في الإسلام كُلَّاً وجُملةً، وتوعد الله بني إسرائيل في هذا الأمر فقال: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة:85].
جعلني الله وإياكم ممن ذُكِّرَ فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرا وجهرا، آمين! آمين! والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل عبادته تاجاً فوق رؤوس الأحرار، وشرَّف بخدمته أولياءه وجعلهم من الأبرار، والصلاة والسلام على النبي المختار، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأطهار، ومن سار على نهجهم واقتفى الآثار.
معاشر الأبرار: إذا كان لا بُدَّ للإنسان مِنْ أن تستعبده فطرة أو نزعة أو خلق، فالذين يستعبدهم الخير والحق خيرٌ وأكرمُ ممن يستعبدهم غير الخير الحق، والذين تستعبدهم نزعة إنسانية كريمة تستمد سموها من الله أكرم ممن تستعبدهم نزعة شهوانية يمتد نسبها إلى الشيطان.
والذين يخضعون لله ويمتثلون أمره ونهيه أفضل وأكمل وأعقل ممن يخضعون لامرأة أو كأس أو مال أو لذة، أو يمتثلون لأمر إنسان يخطئ ويصيب، ويعلو ويسفل، ويحسن ويسيء. أفلا ترى معي -رعاك الله- بعد هذا سخف بعض الذين ينادون بالتحرر من القيم ومن العبودية؟ وربما تجد بعضهم يتسمى بعبد الله وعبد الرحمن، فلْيتخلصوا من أسمائهم أولاً!.
أفلا ترى هؤلاء الذين يرفضون عبودية الله لا يملكون لأنفسهم خروجا عن سلطانه، ويقبلون عبوديتهم لأصغر شهوة، وأحط رغبة؟ ألا ترى هؤلاء يستحقون منك الإشفاق والرثاء أكثر مما يثيرون في نفسك السخط والاستنكار؟.
بهذا المعنى الدقيق -أيها الأحباب- نستقبل رمضان على أنه شهر الحرية، وعلى أن الصيام مدرسة لتفريج الأحرار بالمعنى الراقي الصحيح، في رمضان جوع وعطش، وفيه قيد وحرمان ظرفي، ولكنه يمنحنا القوة، ويحررنا من العبودية.
إنَّ فيه تمرداً على عبودية الطعام والشراب والشهوة، وعبودية العادة والحياة الرطيبة، في رمضان امتناع عن اللذة باختيار، فهذه هي الحرية، حرية الإرادة، أن تعمل ما يريد عقلك أن يعمله، لا ما تمليه عليك شهواتك، ويأمرك به هواك، وأن تمتنع عما تستطيع فعله، فأنت إذاً قوي الإرادة، تضبط ميولك بعقلك، ولا ينهزم عقلك أمام أهواء نفسك.
ومن اتصف بهذا كان جديرا بالنصر في كل معركة يخوضها، ألا ترى -رحمك الله- إلى قصة طالوت إذ منع جيشه من الشرب من نهر اعترضهم في المسير وهم عطاش منهكون؟ فما أطاعه إلا قليل؛ ولكن النصر كان على يد القلة الصائمة المتحررة من سلطان الشهوة.
﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة:249].
لقد هزموهم بعد أن هزموا شهواتهم، وتغلبوا على أعدائهم بعد أن تغلبوا على أهوائهم، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت:69].
وفي رمضان عبودية كاملة لله، وهذه هي الحرية الكاملة للإنسان، إن أوسع الناس حرية أشدهم لله عبودية، هؤلاء لا تستعبدهم غانية، ولا تتحكم فيهم شهوة، ولا يستذلهم مال، ولا تُضيع شهامتهم لذة، ولا يُذل كرامتهم طمع ولا جزع، ولا يمتلكهم خوف ولا هلع.
لقد حرَّرَتْهم عبادة الله من خوف ما عاداه، فإذا هم في أنفسهم سادة، وفي حقيقتهم أحرار، وفي أخلاقهم نبلاء، وفي قلوبهم أغنياء وذلك -لعمري!- هو التحرر العظيم، وصدق سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين يقول: "ليس الغنى عن كثرة العرَض -أي: المال-؛ إنما الغِنى غِنى النفس".
وما أجمل قول ابن عطاء الله: "أنت حرٌّ مما أنت عنه آيِس، وعبد لما أنت فيه طامع".
وفي رمضانَ امتناعٌ عن خُلُقٍ ذميمٍ، وقولٍ ذميمٍ، ومعاملةٍ ذميمةٍ، فما أحلى هذه الحرية! أنت في الخلق الكريم حُرٌّ فلا تساق إلى محكمة، ولا توضع في سجن، ولا تُنتقَص في قدرٍ ولا جاه؛ وأنت في القول الكريم حر، فلا تضطر إلى اعتذار، ولا تتعرض لملامة، ولا يملأ نفسَك ندمٌ؛ وأنت في المعاملة الكريمة حر، فلا تنوبك الألسُن، ولا تتحدث عن خيانتك المجالس، ولا تعلق بذِمَّتك الشبُهات.
هذا هو رمضان أيها الأحباب، يعلمنا الحرية بأجمل معانيها في جوعه وعطشه وحرمانه، أتظن -أخي الحبيب- أن هؤلاء الساسة الكبار الذين يسيّرون شؤون العالم، أتظنهم أحرارا؟! ألا تراهم عبيدَ مطامِعِهم وشهواتهم السياسية؟! فكيف يسعد مَن يقوده العبيد؟!.
أتظن هؤلاء الظلمة الذين يبيدون شعوبهم ويحكمونها بغير إرادتهم فيسومونها سوء العذاب ويجرعونها الهوان، أتظن هؤلاء سادة أحرارا؟ ألا تراهم عبيد المناصب والكراسي؟ فكيف يسعد شعب يقوده العبيد؟!.
أتظن هذه الجماهير المنطلقة وراء لذتها، متحررة من كل عبودية، ألا تراها ضحيةً لغفلة مستحكمة؟ فكيف تنهض أمة لم تتحرر من آثار العبودية؟!.
أتظن هؤلاء المطالبين بحرية الإفطار في رمضان أحرارا في تفكيرهم واتجاهاتهم؟! ألا تراهم صَرْعَى لذة عارمة، وعبيد شهوة جائعة، قد نأت بهم بطونهم وشهواتهم عن عالم الأحرار؟.
فكيف يزعم الحرية في فكره من جعل فكره عبداً لشهوته؟ هؤلاء هم عبيدُ شهَواتهم ونزواتهم، ولله در ابن القيم يوم يقول: "هربوا من الرِّقِّ الذي خُلقوا له، فوقعوا في رق الهوى والشيطان".
وبعد أن ذكرنا هذه النماذج المتردية لنذكر الأحرار، على وجه الحقيقة والاعتبار.
ألا تذكر يوم جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رسول الحرية فحرر العرب من ذل الخنوع والخضوع والسجود للأشجار والأحجار، ومن ذل العصبيات والقبليات الجوفاء، وأخرجهم إلى عالم الحرية هداةً أحراراً مُرشدين؟!.
ألا تذكر حريتهم في التفكير؟ حتى قال عمل للحجر: "والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك".
ألا تذكر تحررهم من العبودية للمال؟ حتى إن أغنياءهم لينفقون أموالهم كلها وهم أحياء، ويقول قائلهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد سأله: "ماذا أبقيتَ لأهلك؟"، فيقول: أبقيت لهم الله ورسوله.
ألا تذكر تحررهم من عبادة النساء؟ حتى إن أحدهم من الأنصار ليطلّق إحدى زوجاته ليتزوجها الرجل من المهاجرين!.
ألا تذكر تحررهم من خوف الموت وحب الحياة؟ حتى يقول قائدهم خالد بن الوليد -رضي الله عنه- يرهب بهم عدوهم: "لقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة". أفلا تريدون أن تحيوا مثلهم، وتسيروا على منوالهم؟!.
لا تستعبدكم مناصب، ولا أموال، ولا نساء، ولا كراسي، إن دعاة الحرية اليوم الذين ينعقون في كل ناد، ويهيمون في كل واد، وينادون بالحرية الجنسية، وبأنواع من الحرية يمجها الدين، ويرفضها الطبع السليم، هم في الحقيقة دعاة شر، ودعاة هدم، ودعاة إضلال، وهم من أولئك الذين أخبر عنهم المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بأنهم سيكونون في آخر الزمان دعاة على أبواب جهنم، مَن استجاب لهم قذفوه فيها.
ينادون بالحرية! وأنى لهم الحرية وهم محاطون بآمرات العبودية من كل جانب؟! فالنوم موتٌ، والمرء إذا لم ينم لم يستقم عيشُه؛ فكيف يدعي الحرية من يستمد حياته من الموت؟!.
والطعام ضرورة استمرار الحياة، وعدم وجوده موت، فكيف يدعي الحرية من يستمد بقاءه من طعام ليس له فيه أي يد في خَلقه وإيجاده؟ وبقاء الطعام في الجسد وعدم خروجه موت؛ فكيف يدعي الحرية من لا يتحكم حتى في بطنه؟.
والموت آتٍ؛ فكيف يدعي الحرية من لا يعرف أجله؟! وكيف يدعي الحرية من لا يعرف حركة أعضائه، ولا دوران الدم في جسمه، ولا دقات قلبه؟ بل حتى الهواء الذي يتنفسه، والذي هو مصدر حياته لا يراه، ولا يعرف شكله!.
وكيف يدعي الحرية من إذا آلمه ضرسٌ هجره النوم، ونزل به الألم، وضاقت عليه الأرض بما رحبت؟!.
كيف يدعي الحرية من يموت حبيبه أمامه ولا يملك له شيئا؟ كيف يدعي الحرية مَن أمْسه يسلمه إلى يومه، ويومه يسلمه إلى غده، وغده يسلمه إلى لحده؟.
كيف يدعي الحرية من أوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، ويحمل بين جنبيه العذرة؟ إنها الخسة إذا اختلطت بالبلادة، وسقيت بالجهل، وعجنت بالغفلة، وطبخت على نار التفاهة! إنه الجنون المزدوج: جنون الحقيقة، وجنون الطريقة! ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ(21)﴾ [عبس:17-21].
قُتل الإنسان ما أكفره! فإذا كنت حرا حقا فلا تمت، وإذا كنت حرا حقا فلا تحضر القيامة! ﴿وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾ [الكهف:47].
ونختم بهذه الأبيات لشاعر يعبر عن حريته، رابطا إياها بالمبادئ والأخلاق والمثُل، وهي قصيدة غاية في الروعة، يقول:
حُرٌّ ومذهبُ كلِّ حُرٍّ مذهبي *** ما كنتُ بالغاوي ولا المتعصِّبِ إني لَأغضبُ للكريم ينوشُه *** مَن دونَه وألوم مَن لم يغضب وأحبُّ كُلَّ مهذَّبٍ ولو انَّهُ *** خصمي، وأرحَمُ كلَّ غيرِ مهذَّب يأبى فؤادي أن يميل إلى الأذى *** حُبُّ الأذية من طباع العقرب لي أن أردّ مَسَاءَةً بمساءةٍ *** لو أنَّنِي أرضى ببرْقٍ خُلَّب حسبُ المسيءِ شعورُهُ ومقالُهُ *** في سِرِّهِ: يا ليتني لم أذنب! أنا لا تغشَّنيَ الطيالسُ والحُلَى *** كم في الطيالسِ من سقيمٍ أجربِ! عيناك من أثوابه في جنّة *** ويداكَ من أخلاقه في سبْسَب وإذا بصُرْتَ به بصُرْتَ بأشمطٍ *** وإذا تُحَدِّثُهُ تَكَشَّفَ عن صبي إني إذا نزل البلاء بصاحبي *** دافعتُ عنه بناجذي وبمِخْلَبي وشددتُّ ساعدَه الضعيفَ بساعدي *** وستَرْتُ مَنْكِبَهُ العَرِيَّ بِمَنْكبي وأرى مساوئَه كأنِّي لا أرى *** وأرى محاسِنَهُ وإنْ لم تُكْتَب وألوم نفسي قبْلَهُ إن أخطأَتْ *** وإذا أساءَ إليَّ لم أَتعَتَّب متقرِّبٌ من صاحبي فإذا مشَتْ *** في عطفه الغلواء لم أتقرب أنا مِن ضميري سَاكِنٌ في مَعْقِلٍ *** أنا من خِلالي سائرٌ في مَوْكِبِ فإذا رآني ذو الغباوة دونَه *** فكما تَرى في الماءِ ظلَّ الكوكب
اللهم أصلح أحوالنا…
المؤلف | عمر القزابري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | مقروء |
اللغة | العربية |
العنوان | اللغة |
---|---|
مفهوم الحرية في الإسلام | العربية |
ضوابط الحرية | العربية |
الحرية والعبودية | العربية |