عناصر الخطبة
- فضل الطاعة في شعبان والعبادة وقت الغفلة
- تفويت المشركين والمتشاحنين لمغفرة ليلة منتصف شعبان
- بِدَعُ شعبان
اقتباس ها هو شعبان قد دخل، وهو موسم من مواسم الطاعة، على خلاف ما يظنه بعض المسلمين، فيغفلون عنه وما فيه من الفضائل. ولعلنا نقف مع فضل الطاعة في هذا الشهر المبارك وقفات تأسٍّ ننظر فيها حال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي أُمرنا بالاقتداء به، وحال سلف الأمة، وهم…
أما بعد: فإن المؤمن يعيش في هذه الحياة ما شاء الله له أن يعيش، وكل يوم يبقى فيه في هذه الدنيا هو غنيمة له ليتزود منه لآخرته.
وقد كان رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَعِظُ ِرَجُلاً وَيَقُولُ لَه: "اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ, وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ, وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ, وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغُلُكَ, وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ" رواه النسائي وغيره وصححه الألباني.
فحريٌّ بكل مؤمن أن يبذل المستطاع، ويغتنم فرصة الحياة ليحوز على الخير ويرتقي في سلم الطاعة؛ من أجل أن يحقق لنفسه أعلى الدرجات في جنات الخلود.
أحبتي: ها هو شعبان قد دخل، وهو موسم من مواسم الطاعة، على خلاف ما يظنه بعض المسلمين، فيغفلون عنه وعن ما فيه من الفضائل.
ولعلنا نقف مع فضل الطاعة في هذا الشهر المبارك وقفات تأسٍّ ننظر فيها حال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي أُمرنا بالاقتداء به، وحال سلف الأمة، وهم أقرب الأمة هدياً به.
فعن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، لم أرَك تصومُ من شهرٍ من الشُّهورِ ما تصومُ شعبانَ؟! قال: "ذاك شهرٌ يغفلُ النَّاسُ عنه بين رجب ورمضانَ، وهو شهرٌ تُرفعُ فيه الأعمالُ إلى ربِّ العالمين، وأُحِبُّ أن يُرفعَ عملي وأنا صائمٌ" رواه النسائي، وإسناده صحيح.
ومن شدّة محافظته -صلى الله عليه وسلم- على الصوم في شعبان أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما رأيت رسول الله في شهر أكثر صيامًا منه في شعبان" رواه البخاري ومسلم.
وقد تضمن حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- المتقدم حكمتين لإكثار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الصيام في شعبان: حيث قال: "ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان"، وقال: "وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم".
أيها الإخوة: أما كون شعبان تغفل الناس عنه، فذلك بسبب أنه بين شهرين عظيمين، وهما شهر رجب الحرام ، وشهر رمضان المبارك، فاشتغل الناس بهما عنه، فغفلوا عن شعبان.
وقال أهل العلم في قوله: "يغفل الناس عنه، بين رجب ورمضان" دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله -عز وجل-؛ ولذا كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشائين بالصلاة ويقولون: هي ساعة غفلة.
وكذلك فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- فضل القيام في وسط الليل لشمول الغفلة لأكثر الناس فيه عن الذكر، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن أفضل الصلاة بعد المفروضة الصلاة في جوف الليل" رواه مسلم.
ومما يقوي فضل التفرد بالطاعة ما منحه الله من الفضائل والدرجات للذاكرين الله في وقت غفلة الناس، ومنها الأجر العظيم للرجل الذي يدخل السوق فيذكر الله؛ لأنه ذكر الله في مكان غفلة الناس، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن دخل السُّوقَ فقال: لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ يُحيي ويُميتُ وهو حيٌّ لا يموتُ، بيدِه الخيرُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، كتب اللهُ له ألفَ ألفِ حسنةٍ، ومحا عنه ألفَ ألفِ سيِّئةٍ، ورفع له ألفَ ألفِ درجةٍ" رواه الترمذي وحسنه الألباني.
ومما يؤكد هذا المعنى ما دار بين طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، وسلمان -رضي الله عنهما- أَنَّ طارقاً بَاتَ عِنْدَ سَلْمَانَ لَيَنْظُرَ مَا اجْتِهَادُهُ، قَالَ: فَقَامَ يُصَلِّي مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَ الَّذِي كَانَ يَظُنُّ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ.
فَقَالَ سَلْمَانُ: "حَافِظُوا عَلَى هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، فَإِنَّهُنَّ كَفَّارَاتٌ لِهَذِهِ الْجِرَاحَاتِ مَا لَمْ تُصِبِ الْمُقَتِّلَةَ، يَعْنِي الْكَبَائِرَ.
فَإِذَا صَلَّى النَّاسُ الْعِشَاءَ صَدَرُوا عَلَى ثَلَاثِ مَنَازِلَ: مِنْهُمْ مَنْ عَلَيْهِ وَلَا لَهُ، وَمِنْهُمْ لَهُ وَلَا عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ.
فَرَجُلٌ اغْتَنَمَ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ وَغَفْلَةَ النَّاسِ فَرَكِبَ فرَسَهُ فِي الْمَعَاصِي فَذَلِكَ عَلَيْهِ وَلَا لَهُ، وَمِنْهُمْ مَنِ اغْتَنَمَ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ وَغَفْلَةَ النَّاسِ فَقَامَ يُصَلِّي فَذَلِكَ لَهُ وَلَا عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ فَرَجُلٌ صَلَّى ثُمَّ نَامَ فَذَلِكَ لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ.
إِيَّاكَ وَالْحَقْحَقَةَ! وَعَلَيْكَ بِالْقَصْدِ وَالدَّوَامِ". والحقحقة: أن يجتهد في السير ويلح فيه حتى تعطب راحلته أو تقف. رواه الطبراني في الكبير موقوفا، وقال الألباني صحيح لغيره، موقوف.
أيها الأحبة: الأجور المترتبة على الاشتغال بالطاعات وقت غفلة الناس كثيرة ومتنوعة، فتعرضوا لنفحات الله وتلمسوا مرضاته.
واعلموا أن إحياء وقت الغفلة بالطاعة فيه فوائد:
الفائدة الأولى: إن فعل الطاعة يكون أخفى، وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل، لا سيما الصيام؛ فإنه سر بين العبد وربه، ولهذا قيل: إنه ليس فيه رياء، وقد صام بعض السلف أربعين سنة لا يعلم به أحد، كان يخرج من بيته إلى سوقه ومعه رغيفان، فيتصدق بهما ويصوم، فيظن أهلُه أنه أكلهما في سوقه، ويظن أهل سوقه أنه أكلها في بيته.
الفائدة الثانية: إحياء وقت غفلة الناس بالطاعات أشق على النفوس، وأفضل الأعمال أشقها على النفوس إذا كان على السنة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة: "إنَّ لكَ منَ الأجرِ على قدرِ نَصَبِكَ ونفقتِكَ" رواه الحاكم وصححه الألباني.
والسبب -والله أعلم- في أن الطاعات في وقت غفلة الناس شاقة وشديدة على النفوس؛ أن النفوس تتأسى بما تشاهده من أحوال أبناء جنسها، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعاتهم، كثر أهل الطاعة لكثرة المقتدين بهم، فسهلت الطاعات.
وتأمل كيف أن كثيرًا من الناس يشق عليهم الصيام في غير رمضان: فإذا جاء رمضان سهل عليهم الصيام، ولم يجدوا مشقة في صيامه؛ لأن الناس من حولهم يؤدون هذه العبادة الجليلة.
والناس كأسراب القطا يتبع بعضهم بعضًا، وقد قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "الناس أشبه بأهل زمانهم منهم بآبائهم".
وأما إذا كثرت غفلة الناس تأسَّى بهم عموم الناس، فيشق على نفوس المتيقظين والطالبين لمهر الجنة، وتشق عليهم طاعاتهم، لقلة من يقتدون بهم في أوقات الغفلة.
ولهذا المعنى قال -صلى الله عليه وسلم- في حال الغرباء في آخر الزمان: "للعامل منهم أجر خمسين منكم"، أي من الصحابة، وعلل فقال: "إنكم تجدون على الخير أعوانًا ولا يجدون"، وفي مسلم: "فطوبى للغرباء!".
ولهذا جاء في صحيح مسلم أيضًا من حديث معقل بن يسار -رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "العبادة في الهرج كالهجرة إلي"، وعند الإمام أحمد بلفظ: "العبادة في الفتنة كالهجرة إليّ".
وسبب ذلك أن الناس في وقت الفتن تستولي عليهم الغفلة، ويتبعون أهواءهم ولا يرجعون إلى دين، وينشغلون عن عبادة ربهم بهذه المحدثات والمضلات من الفتن، ويكون حالهم شبيهًا بحال الجاهلية، فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه ويعبد ربه ويتبع مراضيه ويجتنب مساخطه، كان بمنزلة مَن هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مؤمنًا به، متبعًا لأوامره، مجتنبًا لنواهيه، محافظًا على سنته وهديه وطريقته -صلى الله عليه وسلم-، في كل زمان ومكان.
وفي هذا الزمان اجتمعت الغفلة والفتن، عصمنا الله منها وذريتنا والمسلمين.
بارك الله لي ولكم…
الخطبة الثانية:
أما بعد: وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يطَّلِعُ اللهُ إلى جميعِ خَلقِه ليلةَ النِّصفِ من شعبانَ فيغفرُ لجميعِ خلقِه إلَّا لمشركٍ أو مُشاحِنٍ" رواه الطبراني وابن حبان وهو حديث صحيح.
أيها الإخوة: المتأمل لهذا الحديث يرى فيه تنبيهات مهمة.
منها أن الله يغفر فيها لكل عباده إلا المشرك، والشرك ظلم عظيم، فعلى المسلم أن يتفقد نفسه، ويفتش باطنها، فلعله مبتلى بشيء من هذه الشركيات المنتشرة في الأمة وهو لا يدري.
ولقد حذر الله خاتم الأنبياء محمدا وكل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- من الشرك، وبيّن لهم بأن أعمالهم تحبط إن أشركوا، وهم الصفوة من الخلق، فقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ﴾ [الزمر: 65]، ثم قال له بعد ذلك: ﴿بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ﴾.
وهذا الحديث يدل على خطورة الشحناء والبغضاء بين الناس، وأن الله لا يغفر للمتشاحنين، والشحناء: حقد المسلم على أخيه المسلم بغضًا له؛ لهوى في نفسه، وهذه تمنع المغفرة في أكثر أوقات المغفرة والرحمة، كما في صحيح مسلم عن أبى هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: "تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول: أنظروا هذين حتى يصطلحا".
وقد وصف الله المؤمنين عمومًا بأنهم يقولون: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر:10].
قال بعض السلف: أفضل الأعمال سلامة الصدور، وسخاوة النفوس، والنصيحة للأمة، وبهذه الخصال بلغ من بلغ، وسيد القوم من يعفو يصفح، فأقِل -يا عبد الله- حتى تُقال.
أما ما أحدثه بعض الناس من احتفال أو عبادة خاصة في تلك الليلة فلا أصل له. قال سماحة الشيخ عبدا لعزيز بن باز -رحمه الله- في جوابه على السؤال التالي: ما حكم الاحتفال بليلة النصف من شعبان أو تخصيصه بالعبادة من قيام وصلاة وقراءة للقرآن، ونهاره من صيام وغيره؟.
فأجاب بجواب طويل منه: لم يثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أصحابه -رضي الله عنهم- شيء من فضل ليلة أول جمعة من رجب، ولا في ليلة النصف من شعبان، فعلم أن الاحتفال بهما بدعة محدثة في الإسلام، وهكذا تخصيصمها بشيء من العبادة بدعة منكرة.
وهكذا ليلة سبع وعشرين من رجب التي يعتقد بعض الناس أنها ليلة الإسراء والمعراج، لا يجوز تخصيصها بشيء من العبادة، كما لا يجوز الاحتفال بها، هذا لو عُلِمَت؛ فكيف والصحيح من أقوال العلماء أنها لا تعرف؟ وقول من قال: إنها ليلة سبع وعشرين من رجب؛ قول باطل لا أساس له في الأحاديث الصحيحة.
اللهم إننا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا…