بطاقة المادة
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | مقروء |
اللغة | العربية |
العنوان | اللغة |
---|---|
من الشرك الاستعاذة بغير الله | العربية |
الاستعاذة في الكتاب والسنة | العربية |
الاستعاذة بالله ‘فضلها – مواضعها‘ | العربية |
عناصر الخطبة
اقتباسوطبيعة الإنسان لا تصلح إلا بالالتجاء إلى الله تعالى، فهو خلق أصلاً لعبادته، فلا يستقيم حاله، ولا تصلح حياته، إلا مع الاستعانة به والتوجه إليه بكل أنواع العبادة، واللجوء لا يكون إلا إلى الله تعالى وحده، وإلا كان الخسران والهلاك، ولذلك يستعيذ المؤمن بالله فاستعذ بالله…
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جَلَّ عن الشبيه والمثيل والكفء والنظير.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله ربه رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين، فهدى الله تعالى به من الضلالة، وبصَّر به من الجهالة، وجمع به بعد الشتات، وأمَّن به بعد الخوف، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغر الميامين، ما اتصلت عين ببصر، ووعت أذن بخبر، وسلم تسليمًا كثيرًا.
عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، وعظموه حق تعظيمه، وأطيعوا أمره، واصبروا على قضائه، واعلموا أن الخوف من الله من مقامات الأنبياء والمرسلين، ومنازل المتقين، وحلية أولياء الله المخلصين.
عباد الله: لقد كرم الله أبينا آدم -عليه الصلاة والسلام- وأسجد له الملائكة سجود تحية وتكريم، لا سجود عبادة وتعظيم، إلا أن إبليس بقياسه الفاسد عصى الله -تبارك وتعالى- فأبى واستكبر وكان من العالين، وأظهر العداوة لأبينا آدم -عليه الصلاة والسلام- من قبل أن تنفخ فيه الروح، فأقسَمَ بعزَة الله ليُغويَنَه وذريته أجمعين إلا عباد الله منهم المخلصين، الذين أخلصوا دينهم لله -تبارك وتعالى- توحيداً واتباعاً فأحاطهم الله برعايته، وتولاّهم بما يتولّى به عباده الصالحين قال تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 27].
أيها الإخوة: الاستعاذة تعني الالتجاء إلى الله تعالى، والالتصاق بجانبه والاحتماء به من شر كل ذي شر، ومعنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أي أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه، فإن الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا الله.
ولهذا أمر تعالى بمصانعة شيطان الإنس ومداراته بإسداء الجميل إليه؛ ليرده طبعه عما هو فيه من الأذى، وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجن لأنه لا يقبل رشوة ولا يؤثر فيه جميل؛ لأنه شرير بالطبع، ولا يكفّه عنك إلا الذي خلقه. وهذا المعنى في ثلاث آيات من القرآن, قال الله تعالى: ﴿خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(200)﴾ [الأعراف: 199- 200]، فأمر -سبحانه- بالاستعاذة بالله عند ورود الوساوس الشيطانية، والهواجس النفسية.
وقال تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ(98)﴾ [المؤمنون: 96- 98]، وفي هذا أمر للعبد أن الموحد أن يلجأ لله رب العالمين عند مجيء الوساوس الشيطانية، لينجو مما يخاف منه. وقال تعالى: ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ(36)﴾ [فصلت:3436].
فهذه ثلاث آيات ليس لها رابعة في معناها، وهو أن الله تعالى يأمر بمصانعة العدو الإنسي والإحسان إليه؛ ليرده عنه طبعه الطيب الأصل إلى الموالاة والمصافاة، ويأمر بالاستعاذة به من العدو الشيطاني لا محالة، إذ لا يقبل مصانعة ولا إحسانًا، ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم؛ لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم من قبل كما قال تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الجَنَّةِ﴾ [الأعراف: 27]، وقال تعالى ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُواًّ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فاطر:6]، وقال -عز وجل-: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً﴾ [الكهف:50].
وقد أقسم للوالد آدم -عليه السلام- أنه له لمن الناصحين وكذب، فكيف معاملته لنا وقد قال (فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ) [ص: 82 -83].كما حذرنا الله -تبارك وتعالى- من هذا العدو ومن مكايده، وبين لنا سبل النجاة منه بفضله -سبحانه- ومنّه وكرمه. ومنها: قال الله تعالى : ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فاطر 6]، وقال الله تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأعراف: 200].
أيها الإخوة: إن الاستعاذة بالله تعالى نوع من أنواع الذكر لله الذي يلجأ به العبد إلى ربه؛ لكي يحفظه ويحميه من وسوسة الشيطان، وقد علَّم الله -سبحانه- عباده وأولهم رسوله الكريم التعوذ به من همزات الشياطين، فقد أمره الله، والأمر له أمر لغيره، فقال تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ(98)﴾ [المؤمنون: 97- 98].
وهكذا تحصن أنبياء الله ورسله من كل شر كل ذي شر، ولاذوا إلى الله في كل نازلة، فهذا يوسف -عليه السلام- إذ قال: ﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ [يوسف: 23]، أعوذ بالله وألتجئ إليه أن أفعل هذا الفعل القبيح، لأنه مما يسخط الله ويبعد منه، ولأنه خيانة في حق سيدي الذي أكرم مثواي؛ فكان أن صرف عنه السوء والفحشاء.
فلقد طلب المعونة من الله، وهو -سبحانه- من أنجاه من كيد إخوته؛ ونجاه من الجب؛ وهيأ له أفضل مكان في مصر، ليحيا فيه ومنحه العلم والحكمة مع بلوغه لأشده.
وقال موسى -عليه السلام-: ﴿إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ [غافر: 27]، وقال موسى -عليه السلام- لقومه على سبيل التثبيت لهم على الحق يا قوم: إني استجرت وتحصنت بربي وربكم وامتنعت بربوبيته التي دبر بها جميع الأمور؛ من شر كل مستكبر عن الإيمان بالحق، كافر بيوم الحساب وما فيه من ثواب وعقاب.
وفي هذا القول الذي قاله موسى لقومه يتجلى صدق إيمانه، وقوة يقينه ووثوقه برعاية الله تعالى له، كما يتجلى فيه حرصه على نصحه لقومه بالثبات على الحق؛ لأن الله تعالى الذي هو ربه وربهم، كفيل برعايته ورعايتهم وبانجائه وبإنجائهم من فرعون وملئه، كما يتجلى فيه أن الاستكبار عن اتباع الحق، والتكذيب بالبعث، على رأس الأسباب التي تعين على قسوة القلب، وفساد النفس. قال صاحب الكشاف: وقوله: ﴿وَرَبِّكُمْ﴾: “فيه بعث لهم على أن يقتدوا به، فيعوذوا بالله عياذه، ويعتصموا بالتوكل عليه اعتصامه، فاغرق الله تعالى فرعون وأورثه أرضهم وديارهم وأموالهم“.
وقالت امرأة عمران: ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [آل عمران: 36], لقد أدركت والدة مريم أن أول ما يعترض العبودية هو الشيطان, إنه هو الذي يجعل الإنسان يتمرد على العبودي,. إن الإنسان يريد أن يصير عابدا، فيجيء الشيطان ليزين له المعصية, فأرادت امرأة عمران أن تحمي ابنتها من نزغ الشيطان؛ لأنها عرفت بتجربتها أن المعاصي كلها تأتي من نزغ الشيطان.
أيها الإخوة: فمن تدبر ما سبق وما يأتي من النصوص علم أن المستعيذ ليس شخصًا معينًا، بل كل مخلوق مفتقر إلى الاستعاذة؛ وهذا نوح -عليه السلام- لما ذل واعترف بعجزه قال: ﴿رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾ [هود: 47]، فلما امتنع به والجأ إليه واعتصم به واستجر بالله العظيم؛ لكي يحميك من شر الشيطان وكيده ووسوسته, أعطاه السلام والبركات فقال: ﴿قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [هود: 48].
عباد الله: والاستعاذة هي لون من ألوان الدعاء، والدعاء هو الطلب سواء كان لجلب الخير أو لدفع الشر، ولما كان الدعاء لا يجوز لغير الله كانت الاستعاذة كذلك، فلا يصح الالتجاء إلا إلى الله -سبحانه-.
ولقد أمرنا الله -تبارك وتعالى- بمداراة شياطين الإنس، والصبر على أذاهم، وعدم مقابلة الإساءة بالمثل، وأما شيطان الجنّ فإنه عدوٌ متربص، خَلْقٌ لا نراه، ولا ينفعُ معهُ إحسان ولا مداراة، ولا يَكُفه عن الإنسان إلاَ خالقه ومولاه الله -تبارك وتعالى-، قال الله تعالى : ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(36)﴾ [فصلت 34 – 36].
إن الإنسان ليس له إلا الله؛ لأنه خالقه ومالكه، وربه وإلهه، ومن للمملوك إلا المالك، ومن للعبد إلا إلهه ومولاه، وما للإنسان من ملجأ سواه؛ لأن كل ما سواه ضعيف، والله هو القوي، وكل ما سواه ذليل، والله هو العزيز، ولا حول ولا قوة لمن سواه إلا به وحده, قال تعالى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ [الذاريات: 50].
وطبيعة الإنسان لا تصلح إلا بالالتجاء إلى الله تعالى، فهو خلق أصلاً لعبادته، فلا يستقيم حاله، ولا تصلح حياته، إلا مع الاستعانة به والتوجه إليه بكل أنواع العبادة، واللجوء لا يكون إلا إلى الله تعالى وحده، وإلا كان الخسران والهلاك، ولذلك يستعيذ المؤمن بالله فاستعذ بالله.
أيها الإخوة: لا يجوز أبدًا الاستعاذة بغير الله تعالى؛ لأن الاستعاذة بغير الله شرك ولجوء لغير الله وهذا يدل على الولاء لغير الله والتوكل على من سواه؛ كالاستعانة بالسحرة والعرافين ومن يذهبون إلى الأضرحة وهم يعتقدون في أصحابها النفع.
عباد الله: الاستعاذة بالله تكون في مواضع كثيرة ومن أمور عديدة، كالاستعاذة من النار ومن المسيخ الدجال والمغرم والفتن في الحياة وبعد الممات، فعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ“، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنْ الْمَغْرَمِ؟. فَقَالَ: “إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ“. وَعَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَعِيذُ فِي صَلَاتِهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ” [البخاري (832) ومسلم (589)].
وكان -صلى الله عليه وسلم- يعلم أصحابه الاستعاذة بالله من الآلام الجسدية، وطلب العافية من الله -سبحانه-، فعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- “ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ، وَقُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ ثَلَاثًا, وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ أَعُوذُ بِاللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ” [مسلم (2202)].
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم أصحابه الاستعاذة بالله واللجوء إليه عند الفزع من النوم وأن يستعيذوا بالله من شر الأشرار، وكيد الفجار، ومن تسلط الشياطين، فعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “إِذَا فَزِعَ أَحَدُكُمْ فِي النَّوْمِ فَلْيَقُلْ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَأَنْ يَحْضُرُونِ فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ” [الترمذي (3528) وحسنه الألباني].
وكان -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ بالله من أدواء النفوس ويعلم أصحابه الاستعاذة بالله منها كالجبن والبخل وسيئ الصفات، وكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَالْهَرَمِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لاَ يُسْتَجَابُ لَهَا” [مسلم (2772)].
ومما كَانَ يتعوذ منه رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يستعيذ بالله من تغيير أحوال الإنسان وزوال نعم الله عن العبد، ويعلم أصحابه أن يقولوا ذلك، فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: كان من دعاء النبي -عليه الصلاة والسلام-: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعِ سَخَطِكَ” [مسلم (2739)].
وكثيرة هي مجالات الاستعاذة بالله -سبحانه- ولكن رأس الأمر في الاستعاذة من رأس البلايا، وساوس النفس والشيطان إبليس، وأتباعه من شياطين الإنس والجن الذين قلدوه في معصيتهم لربهم وإهمالهم لما أمر الله به من العبادة.
وقد كان الشيطان ولا يزال يشن حربًا لا هوادة فيها ضد المسلم في عقيدته وعلمه وعمله، ولم يسلم من ذلك حتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أول الأمر، ففي الحديث “سَأَلَ رَجُلٌ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ خَنْبَشٍ: كَيْفَ صَنَعَ -رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ كَادَتْهُ الشَّيَاطِينُ؟ قَالَ: جَاءَتْ الشَّيَاطِينُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ الْأَوْدِيَةِ، وَتَحَدَّرَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْجِبَالِ، وَفِيهِمْ شَيْطَانٌ مَعَهُ شُعْلَةٌ مِنْ نَارٍ يُرِيدُ أَنْ يُحْرِقَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: فَرُعِبَ -قَالَ جَعْفَرٌ أَحْسَبُهُ- قَالَ جَعَلَ يَتَأَخَّرُ قَالَ: وَجَاءَ جِبْرِيلُ -عليه السلام-، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! قُلْ. قَالَ: مَا أَقُولُ؟، قَالَ: قُلْ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا، وَمِنْ شَرِّ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ فَطَفِئَتْ نَارُ الشَّيَاطِينِ وَهَزَمَهُمْ اللَّهُ -عَزَّ وَجَل-” [مسند أحمد (15498) وصححه الألباني في الصحيحة (2995)].
فلما استعاذ النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال ما علمه جبريل، عصمه الله من الشيطان وحماه من شره وفتنه، حتى أسلم شيطانه وسلم النبي -صلى الله عليه وسلم- من أذاه، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ“. قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: “وَإِيَّايَ إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ، فَلاَ يَأْمُرُنِي إِلاَّ بِخَيْرٍ” [مسلم (2814)].
نسأل الله أن ينجينا وإياكم من نزغات الشيطان ووساوسه، وأن يحمينا من الشرور، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيدنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- رسول الله والداعي إلى رضوانه وعلى آله وصحبه وجميع إخوانه.
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، والاحتماء به واللجوء إليه للتخلص من وساوس الشيطان، واعلموا الشيطان يرتعد فَرَقًا ورعشة من الاستعاذة بالله, وعندما يتكرر ارتعاد الشيطان؛ فإنه يعرف أن هذا الإنسان العابد لن يحيد عن طاعة الله إلى المعاصي.
ولذلك يقال عن الشيطان إنه إذا سمع ذكر الله فإنه يخنس أي يتراجع، ووصفه القرآن الكريم بأنه “الخناس”، إن الشيطان إنما ينفرد بالإنسان حين يكون الإنسان بعيدًا عن الله. عن سليمان بن صرد قال: اسْتَبَّ رَجُلانِ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ، فَجَعَلَ أحَدُهُمَا تَحْمَرُّ عَيْنَاهُ وَتَنْتَفِخُ أوْدَاجُهُ، فقال: رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: “إِنِّي لأعْرِفُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ: أعُوذُ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ” [أخرجه البخاري (6048)، ومسلم (2610)].
عباد الله: وما تعوذ المتعوذ بأفضل مما جاء في كتاب الله -سبحانه-، وخاصة المعوذتان، فقد أمر الله تعالى نبينا -صلى الله عليه وآله- أن يعوذ ويستجير ويعتصم، بقوله: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ [الفلق: 1]، أي من شر كل ذي شر من المخلوقات؛ لأنه لا عاصم من شرها إلا خالقها -عز وجل- إذ هو المالك لها، والمتصرف في أمرها، والقابض على ناصيتها، والقادر على تبديل أحوالها، وتغيير شؤونها. و﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ [الناس: 1]، فوقي بشر النفاثات في العقد, وكفى شر الوسواس الخناس.
عن ابن عامر الجهني قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “يا ابن عامر! ألا أخبرك بأفضل ما تعوذ به المتعوذون؟”. قلت: بلى يا رسول الله. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس“. [النسائي في الكبرى (7847) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2593)]. وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “أُنْزِلَ -أَوْ أُنْزِلَتْ- عَلَيَّ آيَاتٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ” [مسلم (814)].
فلنسلك سبل الاستعاذة الشرعية؛ لننجو ونعمل صالحًا، فمن ابتعد عن طاعة الله وأصبح سببًا لإضلال الناس فهو شيطان متبع لهواه، قال سيبويه: “العرب تقول تشيطن فلان إذا فَعَلَ فعْل الشيطان“، ولهذا يسمى شيطانًا كل من تمرد من جني وإنسي وحيوان، وبعض الناس يجعل من الشيطان شماعة يعلق عليها كل أخطائه وفي الحقيقة هو شيطان أيضًا.
قال ابن القيم في زاد المعاد: ولما كان الشيطان على نوعين: نوع يرى عيانًا وهو شيطان الإنس, ونوع لا يرى وهو شيطان الجن, أمر -سبحانه- نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يكتفي من شر شيطان الإنس بالإعراض عنه والعفو، ومن شيطان الجن بالاستعاذة منه, وجمع بين النوعين في سورة الأعراف, قال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(200)﴾ [الأعراف: 199، 200].
وأمره بدفع عدوه من شياطين الإنس بالتي هي أحسن, فيقابل إساءة من أساء إليه بالإحسان, وجهله بالحلم, وظلمه بالعفو, وقطيعته بالصلة، ويقابل جهل الجاهلين بالإعراض وأن يأمر بالمعروف بلا بالغلظة وعنف, وبذلك يكتفي شرهم.
وشيطان الجن يستعيذ بالله منه؛ لأنه لا ينفع معه الحلم ولا يعطى شيء حتى يتقى شره وإنما الاستعاذة, ويمكن أن يستعيذ من شيطان الإنس كما حصل من موسى -عليه السلام- ﴿وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ﴾ [الدخان: 20].
وباتخاذ الخطوات التي أرشد الله إليها بالإعراض عنه والعفو والدفع بالتي هي أحسن والاستعاذة تسلم من شر شياطين الإنس والجن.
فما أجدرنا أن نعظم ربنا ونوقره، ونخافه ونتقيه، ونحرص على الاستعاذة بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
أسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، وأن يحسن لنا الختام، وألا يتوفانا إلا وهو راضٍ عنا، الله ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيمًا.
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | مقروء |
اللغة | العربية |
العنوان | اللغة |
---|---|
من الشرك الاستعاذة بغير الله | العربية |
الاستعاذة في الكتاب والسنة | العربية |
الاستعاذة بالله ‘فضلها – مواضعها‘ | العربية |