أعمال القلوب
عن النواس بن سمعان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «البِرُّ حُسْنُ الخُلق، والإثم ما حَاكَ في نفسك وكرهت أن يَطَّلِعَ عليه الناس». وعن وابصة بن معبد -رضي الله عنه- قال: «أتيت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: جئتَ تسأل عن البِرِّ؟ قلت: نعم، وقال: اسْتَفْتِ قلبك، البِرُّ ما اطمأنت إليه النفسُ واطمأن إليه القلب، والإثم ما حَاكَ في النفس وتَرَدَّدَ في الصدر -وإن أفتاك الناس وأَفْتَوْكَ-».
شرح الحديث :
فسر الحديثُ البرَّ بأنه حسن الخلق، وهو شامل لفعل جميع ما من شأنه أن يوصف بالحسن من الأخلاق، سواء فيما بين العبد وربه، أو ما بين العبد وأخيه المسلم، أو ما بينه وبين عموم الناس مسلمهم وكافرهم. أو هو ما اطمأنت إليه النفس كما في الحديث الثاني، والنفس تطمئن إلى الحسن من الأعمال والأقوال، سواء في الأخلاق أو في غيرها. والإثم ما تردد في النفس، فهو كالشبهة تردَّدُ في النفس فمن الورع تركها والابتعاد عنها، حماية للنفس من الوقوع في الحرام. فالورع ترك ذلك كله، والاتكاء على ما اطمأن إليه القلب.
وأنَّ ما حاك في صدر الإنسان، فهو إثمٌ، وإنْ أفتاه غيرُه بأنَّه ليس بإثمٍ، وهذا إنَّما يكون إذا كان صاحبُه ممَّن شرح صدره بالإيمان، وكان المفتي يُفتي له بمجرَّد ظن أو ميلٍ إلى هوى من غير دليلٍ شرعيٍّ، فأمَّا ما كان مع المفتي به دليلٌ شرعيٌّ، فالواجب على المستفتي الرُّجوعُ إليه، وإنْ لم ينشرح له صدرُه.
معاني الكلمات :
البر | أي: معظم البر، والبر: العمل الصالح، وكان ابن عمر يقول: البر شيء هين، وجه طليق وكلام لين. |
حسن الخلق | وهو الإنصاف في المعاملة، والرفق في المجادلة، والعدل في الأحكام، والبذل والإحسان في اليسر، والإيثار في العسر، وغير ذلك، من الصفات الحميدة. |
والإثم | الذنب. |
حاك في صدرك | تردد في القلب، ولم يطمئن إليه. |
وكرهت | كراهة دينية. |
أن يطلع عليه الناس | وجوههم وأماثلهم الذين يستحى منهم. |
اطمأنت إليه النفس | سكنت إليه النفس الطيبة. |
استفت قلبك | اطلب الفتوى منه. |
أفتاك الناس | أعطاك الناس حكما يخالف ما في نفسك من التردد، حال كونك متورعا تبحث عن الحق. |
وأفتوك | بخلافه، لأنهم إنما يقولون على ظواهر الأمور دون بواطنها. |
فوائد من الحديث :
- النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطي جوامع الكلم، يتكلم بالكلام اليسير وهو يحمل معاني كثيرة لقوله: "البر حسن الخلق" كلمة جامعة مانعة .
- الترغيب في حسن الخلق .
- الحق والباطل لا يلتبس أمرهما على المؤمن البصير، بل يعرف الحق بالنور الذي في قلبه، وينفر عن الباطل فينكره .
- إن المؤمن الذي قلبه صافٍ سليم يحوك في نفسه الإثم وإن لم يعلم أنه إثم .
- معجزة عظيمة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، حيث أخبر وابصة بما في نفسه قبل أن يتكلم به، وأبرزه في حيز الاستفهام التقريري مبالغة في إيضاح اطلاعه عليه وإحاطته به، وهذا مما أطلعه الله عليه، وليس النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم شيئا من أمور الغيب إلا ما أطلعه الله عليه .
- الفتوى لا تزيل الشبهة إذا كان المستفتي ممن شرح الله صدره، وكان المفتي إنما أفتى بمجرد ظن، أو ميل إلى الهوى من غير دليل شرعي، فأما ما كان له مع المفتي به دليل شرعي فيجب على المستفتي قبوله وإن لم ينشرح صدره .
- جواز الرجوع إلى القلب والنفس ممن استقام دينه؛ فإن الله -عز وجل- يؤيد من علم منه صدق النية .
- الرجل المؤمن يكره أن يطلع الناس على آثامه لقوله: "وكرهت أن يطلع عليه الناس" .
- المدار في الشريعة على الأدلة، لا على ما أشتهر بين الناس، لأن الناس قد يشتهر عندهم شيء ويفتون به وليس بحق؛ فالمدار على الأدلة الشرعية .
- الفتوى لا تبيح الإقدام على ما يشك الإنسان في حله، لقوله: "وإن أفتاك الناس وأفتوك"، وأفتوك : تأكيد، ويشهد لهذا الحديث قوله: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، الصدق طمأنينة والكذب ريبة" .
المراجع :
- -التحفة الربانية في شرح الأربعين حديثًا النووية، مطبعة دار نشر الثقافة، الإسكندرية، الطبعة: الأولى، 1380 هـ.
- -شرح الأربعين النووية، للشيخ ابن عثيمين، دار الثريا للنشر.
- -فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين، دار ابن القيم، الدمام المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1424هـ/2003م.
- -الفوائد المستنبطة من الأربعين النووية، للشيخ عبد الرحمن البراك، دار التوحيد للنشر، الرياض.
- -الأربعون النووية وتتمتها رواية ودراية، للشيخ خالد الدبيخي، ط.
- مدار الوطن.
- -الجامع في شروح الأربعين النووية، للشيخ محمد يسري، ط.
- دار اليسر.
- -صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، نشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت.
- -مسند الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرون، نشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1421هـ - 2001م.
- -سنن الدارمي، تحقيق: حسين سليم أسد الداراني، نشر: دار المغني للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1412هـ - 2000م.