عناصر الخطبة
- مفهوم عبادة الرجاء وضبطها بالشرع
- بعض نصوص القرآن والسنة الحاثة والمرغبة في التوبة والمبينة لسعة مغفرة الله
- تقلب المؤمن بين الرجاء والخوف
اقتباس إن ربنا غفور رحيم، يعفو عن الذنب مهما عظم، ويجازي بالكثير من الأجور على العمل القليل، وسيعجب الناس من عظيم عفو الله يوم القيامة، ويتمنى قوم أنهم تابوا لما يرون من ستر الله على التائبين، ويتمنون أن عملوا الصالحات لما يرون من…
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فيا أيها الناس: فإن ربنا -جل في علاه- عليم كريم، يغدق على خلقه بجميع أجناسهم، ويستر العصاة، ويعدهم المغفرة، ويدعوهم للتوبة، هذا ما يدعو المسلم إلى زيادة الرجاء بالله، والرجاء عبادة عظيمة، عبادة قلبية، لكنها تحتاج لضبط.
فالرجاء هو أن يؤمل المسلم في عفو الله، وأن الله سيغفر ذنوبه، ويقبل حسناته، فلا بد من ضبط الرجاء بضوابطه؛ حتى لا يقع المسلم في عقيدة المرجئة، فيغرق في المعاصي والذنوب، مغلبا جانب الرجاء على الخوف، وهذا ما نسمعه كثيرا عندما ينصح المذنب يبادر بقوله: ربك غفور رحيم، أو قوله: ﴿إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [البقرة: 182].
عباد الله: لقد تكاثرت الآيات والأحاديث في الرجاء، وسبب كثرتها: أن المسلم لا يقع في القنوط من رحمة الله، فهي تدعو المسلم للتوبة وليس للوقوع في الذنوب.
وفي هذه الخطبة سنتعرض لبعض من نصوص الرجاء التي تدعو للتوبة؛ يقول سبحانه مخاطبا جميع العباد: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53]، تأمل معي: ﴿يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾، ويقول تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 156].
وأخرج البخاري ومسلم من حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل".
ولا يكفى أن يكون هذا باللسان فقط، بل لابد من اعتقاد القلب، كما نصت عليه الأدلة الأخرى.
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلمَ-: "يقول الله -عز وجل-: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أزيد، ومن جاء بالسيئة، فجزاء سيئة سيئة مثلها أو أغفر، ومن تقرب مني شبراً تقربت منها ذراعا، ومن تقرب منى ذراعاً، تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي، أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك به شيئاً، لقيته بمثلها مغفرة".
وأخرج البخاري ومسلم من حديث أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- ومعاذ رديفه على الرحل، قال: "يا معاذ" قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: "يا معاذ" قال: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: "يا معاذ" قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، ثلاثاً، قال: "ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار" قال: يا رسول الله أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا؟ قال: "إذا يتكلوا"، فأخبر بها معاذ عند موته تأثما".
ومعنى هذا الحديث وأمثاله: أن يقولها صدقا من قلبه ثم يموت بعدها قبل أن يحدث شيئا، فتكون هي آخر كلامه من الدنيا، أو يقولها ويستمر عليها حتى الممات.
وأخرج البخاري ومسلم من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- بسبي، فإذا امرأة من السبي تسعى، إذ وجدت صبياً في السبي أخذته، فألزقته ببطنها، فأرضعته، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟" قلنا: لا والله، قال: "لله أرحم بعباده من هذه الأم بولدها".
وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا، لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله -تعالى-، فيغفر لهم".
وأخرج البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- في قبة نحوا من أربعين، فقال: "أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟" قلنا: نعم، قال: أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قلنا: نعم، قال: "والذي نفسى محمد بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر".
وأخرج أحمد وغيره من حديث عمران بن حصين وأبي سعيد الخدري قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة" فكبروا وحمدوا الله، ثم قال: "إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة" فكبروا وحمدوا الله، ثم قال: "إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة، وإن أهل الجنة مائة وعشرون صفا، ثمانون منها أمتي، وما المسلمون في الكفار إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الدابة، بل كالشعرة السوداء في الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود" م قال:"ويدخل من أمتي سبعون ألفا الجنة بغير حساب" فقال عمر: سبعون ألفا؟ قال:"نعم، ومع كل واحد سبعون ألفا".
وأخرج مسلم من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "يجئ يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال يغفرها الله لهم".
وأخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- يقول: "يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه حتى يضع كنفه عليه، فيقرره بذنوبه، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: رب أعرف، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى صحيفة حسناته".
وأخرج البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلمَ- فأخبره؛ فأنزل الله -تعالى-: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ [هود: 114]، فقال الرجل: ألي هذا يا رسول الله؟ قال: "لجميع أمتى كلهم".
وأخرج البخاري ومسلم من حديث أنس -رضي الله عنه- قال: "جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلمَ- فقال: "يا رسول الله أصبت حداً فأقمه علي، وحضرت الصلاة فصلى مع رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-، فلما قضى الصلاة، قال: يا رسول الله إني أصبت حداً فأقم في كتاب الله؟ قال: "هل حضرت معنا الصلاة؟" قال: نعم، قال: "قد غفر لك".
والمعنى من هذه الأحاديث: أن الله -سبحانه- يقبل توبة عبده، ورجوعه إليه ويغفر ذنوبه ما دام مقرا تائبا، فهي تحث على المسارعة بالتوبة، وإلا سيحاسب عليها يوم القيامة وهو معرض للعقوبة، فيا خسران من سوف بالتوبة حتى فجأه الموت!
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شح أنفسنا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله…
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فيا أيها الناس: إن ربنا غفور رحيم، يعفو عن الذنب مهما عظم، ويجازي بالكثير من الأجور على العمل القليل، وسيعجب الناس من عظيم عفو الله يوم القيامة ويتمنى قوم أنهم تابوا لما يرون من ستر الله على التائبين، ويتمنون أن عملوا الصالحات لما يرون من عظم الأجور على الأعمال الصالحة، أخرج مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلمَ- قبل موته بثلاثة أيام، يقول: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله -عز وجل-".
وأخرج الترمذي في جامعه وحسنه من حديث أنس -رضي الله عنه- قال: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- يقول: "قال الله -تعالى-: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك به شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرة".
قال النووي -رحمه الله-: "اعلم أن المختار للعبد في حال صحته أن يكون خائفاً راجياً، ويكون خوفه ورجاؤه سواء، وفي حال المرض يمحض الرجاء" يعني يغلب الرجاء، وقواعد الشرع من نصوص الكتاب والسنة، وغير ذلك متظاهرة على ذلك، قال الله -تعالى-: ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف: 99]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [الأعراف: 167]، وقال تعالى: (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) [القارعة: 6 – 9]، والآيات في هذا المعنى كثيرة. فيجتمع الخوف والرجاء في آيتين مقترنتين أو آيات أو آية.
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد".
اللهم وفقنا للتوبة النصوح التي لا ذنب بعدها…