عناصر الخطبة
- وصف مشهد الصراط
- توقيف المارين على الصراط عند القنطرة للقصاص
- فتح أبواب الجنة بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم
- صفة دخول أهل الجنة الحنة
- دخول خروج العصاة من النار
- شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فيمن دخل النار أن يخرج منها
- شفاعة الصالحين
- المقصود بحديث: \"لم يعملوا خيرا قط\"
اقتباس تفكر الآن فيما يحل بك من الفزع بفؤادك إذا رأيت الصراط ودقته، ثم وقع بصرك على سواد جهنم من تحته، ثم قرع سمعك شهيق النار وتغيظها، وقد كلفت أن تمشي على الصراط مع ضعف حالك، واضطراب قلبك، وتزلزل قدمك، وثقل ظهرك بالأوزار، المانعة لك من المشي على بساط الأرض فضلاً عن حدة الصراط، فكيف بك إذا وضعت عليه إحدى رجليك، فأحسست بحدته، واضطررت إلى أن ترفع قدمك الثاني، والخلائق بين يديك يزلون، ويعثرون، وتتناولهم زبانية النار بالخطاطيف والكلاليب، وأنت….
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾ [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
كتب القرطبي – رحمه الله تعالى – في كتابه التذكرة واصفا مشهد الصراط بقوله: "تفكر الآن فيما يحل بك من الفزع بفؤادك إذا رأيت الصراط ودقته، ثم وقع بصرك على سواد جهنم من تحته، ثم قرع سمعك شهيق النار وتغيظها، وقد كلفت أن تمشي على الصراط مع ضعف حالك، واضطراب قلبك، وتزلزل قدمك، وثقل ظهرك بالأوزار، المانعة لك من المشي على بساط الأرض فضلاً عن حدة الصراط، فكيف بك إذا وضعت عليه إحدى رجليك، فأحسست بحدته، واضطررت إلى أن ترفع قدمك الثاني، والخلائق بين يديك يزلون، ويعثرون، وتتناولهم زبانية النار بالخطاطيف والكلاليب، وأنت تنظر إليهم كيف ينكسون إلى جهة النار رؤوسهم، وتعلوا أرجلهم، فياله من منظر ما أفظعه، ومرتقى ما أصعبه، ومجاور ما أضيقه، فاللهم سلم سلم".
أيها الأخوة المسلمون: بعد مجازوه الصراط ونجاة المؤمنين من جهنم -نسأل الله النجاة منها- يبقى في النار من المسلمين العصاة من وقعوا فيها أثناء مرورها وعبورهم على الصراط حتى يطهروا من ذنوبهم.
أما الناجون فلا يحسبون أنهم داخلين الجنة هكذا، لا، فالعدل لابد أن يتحقق كاملا بلا ذرة من نقصان والنفوس لابد أن تتطهر، ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد – رضي الله عنه – عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: " إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار، فيتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا نقوا وهذبوا أذن لهم بدخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم بمسكنه في الجنة أدل بمنزله كان في الدنيا ".
ومما ذكره الحافظ بن حجر في الفرق بين حقوق الله – تعالى – وحقوق العباد ما مفاده أن من المعاصي ما يكون بين المرء وربه – سبحانه وتعالى – دون مظالم العباد، ومنهم من تكون معصيته بينه وبين العباد، فهؤلاء لا يدخلون الجنة حتى يقع بينهم التقاص.
والقنطرة في اللغة "الجسر" وكل شيء ينصب على واد أو عين يسمى قنطرة، أما هيئة هذه القنطرة وشكلها فهو من أمور الغيب، لكن الهيئة ليست ذات أهمية بقدر ما يجري فوق تلك القنطرة من اقتصاص بين المؤمنين قبل دخولهم الجنة، فإن فيهم مصير المؤمن من حيث درجته ومنزلته من الجنة فالتقاص هنا إما بالتغافر أو بالحسنات فمقابل حقوقه إما حقوق عليهم قاضية وإما حسنات، وكل حسنة يخسرها المؤمن في التقاص تخفض من درجته في الجنة بالضرورة.
قال ابن بطال في شرحه: " فكأن كل واحد منهم له على أخيه مظلمة وعليه له مظلمة، ولم يكن في شيء منها ما يستحق عليه النار فيتقاصون بالحسنات والسيئات، فمن كانت مظلمته أكثر من مظلمة أخيه أخذ من حسناته فيدخلون الجنة، ويقتطعون فيها المنازل على قدر ما بقى لكل واحد منهم من الحسنات، فلهذا يتقاصون بالحسنات بعد خلاصهم من النار".
وهذا هو القصاص الثاني بخلاف القصاص الأول الذي كان في العرصات وفي موقف الحساب والميزان قبل المرور على الصراط ذلك قصاص أول.
قال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله تعالى-: " وهذا القصاص غير القصاص الأول الذي في عرصات القيامة؛ لأن هذا قصاص أخص، لأجل أن يذهب الغل والحقد والبغضاء التي في قلوب الناس، فيكون هذا بمنزلة التنقية والتطهير وذلك لأن ما في القلوب لا يزول بمجرد القصاص ".
إذاً فالقصاص الأول لا يلزم منه صفاء ما في الصدور فقد يقتص الأخ من أخاه أو من غريمه لكن يبقى في النفس شيء، أما هذا القصاص ففيه تهذيب للنفوس حتى إذا نقوا وهذبوا وتخلصوا من حقوق الناس أذن لهم بدخول الجنة فلا يدخلونها إلا بقلوب صافية إخوانا على سرر متقابلين.
قال ابن تيمية – رحمه الله تعالى -: "والله بحكمته جعل الدخول عليه في الصلاة موقوفا على الطهارة فلا يدخل المصلي عليه حتى يتطهر، وكذلك جعل الدخول إلى جنته موقوف على الطيب والطهارة فلا يدخلها إلا طيب طاهر، فلابد من التطهير الكامل، وهو معنى قول ملائكة الجنة في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ [الزمر: 73]".
لكن فتح أبواب الجنة لا يكون إلا بشفاعة النبي – صلى الله عليه وسلم -، ففي صحيح مسلم من حديث أنس قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: " آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك".
وفي رواية أنه قال صلى الله عليه وسلم: "أنا أكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة وأنا أول من يقرع باب الجنة".
ثم يبدأ الناس بالدخول أفواجا أفواجا، زمرا زمرا، باكتظاظ؛ فكما صح في مسلم من حديث عتبة بن غزوان لما قال: "ولقد ذكر لنا ما بين مصرعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة".
أي الذي له بابان ينضمان جميعا ومدخلهما في الوسط، قال: "وليأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزحام".
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم بمسكنه في الجنة أدل بمنزله كان في الدنيا".
لا حاجة لهم إلى دليل فالكل يعرف منزله في الجنة -نسأل الله من فضله-.
لكن ماذا عن المسلمين الذين وقعوا في النار؟
معاشر الأخوة: حتى لو كان بقاء عصاة المؤمنين في جهنم بقاءً مؤقتا؛ فإن هذا ليس بالأمر الهين كما هو في مفهوم الكثيرين، يقول بعض المفرقين: لابد أن ندخل فيها لفترة ثم نحترق فيها أياما ثم نحرج منها!.
لا، هذا ليس كلام المؤمنين، وليس هذا تفكير الفائزين، بل إن هذا الاستخفاف منزلق مخيف ومصيبة، فإن غمسة واحدة في النار تنسي أكبر المتنعمين في الدنيا كل نعيم رآه أو ذاقه أو تمتع به طوال سنين حياته، غمسة واحدة في النار تمحو كل ذلك النعيم من ذاكرته مطلقا، غمسة واحدة فقط فكيف بالبقاء؟!
هل رأيت خيرا قط، هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما مر بي نعيم قط، تلك هي شدة النار وذلك هو عذابها -نسأل الله السلامة منها-.
وأهل النار بالرغم من عذابهم يتكلمون وكلامهم عذاب، بل جعل الله لهم مجالا للحوار، وحوارهم أيضا جزء من العذاب، فعندما يرى المخلدون في النار بعض المسلمين وهم يعذبون فيها معهم يشمتون بهم.
ذكر الإمام ابن حجر حديث أبي موسى عند أبي عاصم والبزار رفعه، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "إذا اجتمع أهلُ النارِ في النارِ ومعهم مَن شاء اللهُ من أهلِ القِبلةِ يقولُ الكفارُ: أَلَمْ تكونوا مسلمينَ؟ قالوا: بلى، قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النار؟ قالوا: كانت لنا ذنوب فأُخِذْنا بها، فيَسْمَعُ ما قالوا فأَمَر بمَن كان من أهلِ القِبلةِ فأُخْرِجُوا فلما رأى ذلك أهلُ النارِ قالوا يا ليتنا كنا مسلمين فنخرج كما خرجوا" قال وقرأ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ﴿الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ (1) رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ(2)﴾ [الحجر: 1-2].
أيها الأخوة المسلمون: الشفاعات في هذه المرحلة من مراحل اليوم الآخر متعددة؛ فمنها فيمن استحق النار أن لا يدخلها، وهذه الشفاعة للنبي – صلى الله عليه وسلم – ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم.
وكذلك يشفع صلى الله عليه وسلم فيمن دخلها أن يخرج منها، قال ابن حجر: وقع في حديث عبدالله بن عمرو عند الطبراني بسند حسن رفعه قال صلى الله عليه وسلم: " يدخل من أهل القبلة النار مَن لا يُحصِي عددَهم إلا الله؛ بما عصوا الله واجتَرَؤُوا على معصيته وخالفوا طاعته، فيؤذن لي في الشفاعة – أي أن أشفع لهم في الخروج من النار- فأُثنِي على الله ساجدًا كما أُثنِي عليه قائمًا، فيُقال لي: ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفع".
وصح في سنن ابن ماجه من حديث جابر قوله صلى الله عليه وسلم: "إن شفاعتي يوم القيامة لأهل الكبائر من أمتي".
وفي سنن ابن ماجه بإسناد صحيح عن أنس -رضي الله عنه- قال صلى الله عليه وسلم: "فأستأذن على ربي فيأذن لي فإذا رأيته وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: ارفع يا محمد، وقل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأحمده بتحميد يعلمنيه، ثم أشفع فيحد لي حدا، فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة".
قال ابن حجر في شرحه: "فيحد لي حدا" أي يبين لي في كل طور من أطوار الشفاعة حدا أقف عنده، فلا أتعداه، مثل أن يقول شفعتك فيمن أخل بالجماعة، ثم فيمن أخل بالصلاة، ثم فيمن شرب الخمر، ثم فيمن زنا، وعلى هذا الأسلوب كذا حكاه الطيبي، والذي يدل عليه سياق الأخبار أن المراد به تفضيل مراتب المخرجين في الأعمال الصالحة حسب أعمالهم.
قال: "ثم أعود الثانية فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال لي: ارفع محمد، قل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه، ثم أشفع فيحد لي حدا فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، فيدخلهم الجنة ثم أعود الثالثة، فإذا رأيت ربي وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال ارفع محمد قل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، ثم أعود الرابعة فأقول: يا رب ما بقي إلا من حبسه القرآن" أي من وجب عليه الخلود لموته على الشرك بعد بلوغ الحجة كما هو الحكم في القرآن: "إلا من حبسه القرآن".
وقال الحافظ بن حجر: وقع في حديث أبي بكر الصديق: "ثم يقال: ادْعُ الأنبياء فيشفعون، ثم ادْعُ الأنبياء فيشفعون، ثم يقال ادْعُ الصديقون فيشفعون، ثم يقال: ادْعُ الشهداء فيشفعون".
أسأل الله لي ولكم الفوز بالجنة والنجاة من النار، واستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا طيبا مباركا، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد:
ففي ذلك المشهد يحين وقت الوفاء، فالصديق الحق -أيها الإخوة- هو من انتفعت في الدنيا بصحبته ونصحه ومجالسته، ثم في الآخرة بحرصه على نجاتك وإنقاذك بفضل الله، ثم بشفاعته لك في ذلك الموطن العصيب، فعليكم بالصالحين الذين يطيب السمع حين يتكلمون.
ففي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد قال صلى الله عليه وسلم: "حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا، ويصلون ويحجون، فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار، فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا، ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها خيرا، فيقول الله – عز وجل -: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما".
حمما: سود الأجسام كالفحم.
وقوله: "لم يعملوا خيرا قط" يجب أن نقف عنده -أيها الإخوة- هو من المتشابه الذي ينبغي رده للمحكم؛ قال الإمام ابن خزيمة: "لم يعملون خيرا قط: من الجنس التي تقوله العرب بنفي الاسم عن الشيء لنقصه عن الكمال والتمام، فمعنى هذه اللفظة على هذا الأصل، لم يعملوا خيرا قط على التمام والكمال لا على ما أوجب عليهم وأمروا به".
وقال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله -: "إنهم ما عملوا أعمال صالحة لكن الإيمان قد وقر في قلوبهم، فإما أن يكون هؤلاء قد ماتوا قبل التمكن من العمل، أي آمنوا ثم ماتوا قبل أن يتمكنوا من العمل، وحينئذ يصدق عليهم أنهم لم يعملوا خيراً قط".
قال: "وإما أن يكون هذا عاماً ولكنه يستثنى منه ما دلت النصوص الشرعية على أنه لابد أن يعمل به كالصلاة فمن لم يصل فهو كافر لا تنفعه الشفاعة ولا يخرج من النار".
وقال الشيخ صالح الفوزان: "المتشابه يرد إلى المحكم فنحمل حديث صاحب البطاقة وصاحب الذي لم يعمل خيرا قط ويخرج من النار على أنه لم يتمكن من العمل ونطق: بـ "لا إله إلا الله" عن قلب وإيمان، ثم قتل أو مات في الحال ولم يتمكن من العمل أو كان لم يبلغه شيء من هذا الدين لبعده عن بلاد المسلمين، ولكن قال: "لا إله إلا الله" مخلصا ولم يعمل لأنه لم يعرف العمل".
قال صلى الله عليه وسلم: "فيلقيهم -أي أولئك الذين خرجوا من النار – في نهر في أفواه الجنة يقال له: نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض".
وحميل السيل: هو ما يحمله السيل ويجيء به من طين وغيره، فإذا ألقيت فيه حبة واستقرت في وسط مجرى السيل، فإنها تنبت في يوم وليلة بسرعة، فشبه بها سرعة عودة أبدانهم وأجسامهم إليهم بعد إحراق النار لها.
فقالوا: يا رسول الله، كأنك كنت ترعى في البادية، قال: "فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم يعرفهم أهل الجنة، هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه، ثم يقول: ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم، فيقولون: ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين، فيقول: لكم عندي أفضل من هذا، فيقولون: يا ربنا أي شيء أفضل من هذا، فيقول: رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبدا".
أسأل الله أن يرضى عنا جميعا.
ووقع في سنن ابن ماجة من حديث أبي سعيد – رضي الله عنه – قال صلى الله عليه وسلم في وصف المشهد: " أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا، فأنهم لا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ، وَلَكِنْ نَاسٌ أَصَابَتْهُمْ نَارٌ بِذُنُوبِهِمْ أَوْ بِخَطَايَاهُمْ، فَأَمَاتَتْهُمْ إِمَاتَةً حَتَّى إِذَا كَانُوا فَحْمًا، أُذِنَ لَهُمْ فِي الشَّفَاعَةِ، فَجِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ -أي جماعات جماعات- فَبُثُّوا عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، فَقِيلَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، أَفِيضُوا عَلَيْهِمْ -أي صبوا عليهم من ماء الأنهار- فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ، تَكُونُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ".
وفي حديث أبي هريرة في حديث صحيح البخاري بلفظ يدل على أن قوله: "بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه" لا يعني أنهم كانوا لا يصلون، قال صلى الله عليه وسلم: "حتَّى إذا فَرغَ اللهُ من القضاء بين عباده وأراد أن يُخْرِجَ مِن النَّار مَن أرادَ أن يُخْرِج، مِمَّنْ كان يَشْهَدُ أن لا إلهَ إلاَّ الله، أمَرَ الملائكَةَ أن يُخْرِجُوهم، فَيَعْرِفُونَهم بعَلامَة آثَار السُّجُود" هؤلاء كانوا يصلون "وحرَّمَ اللهُ على النَّار أن تأكُلَ مِن ابن آدمَ أثَرَ السُّجُود، فيُخْرجُونَهُم قد امتحشُوا -أي احترقوا- فَيُصَبّ عليهم ماءٌ يُقالُ له: ماء الحياة، فيَنْبُتُون نَبَاتَ الحبَّة في حميل السَّيْل".
فهؤلاء الذين أخرجوا بعدما أدخلوا النار يسمون "الجهنميين"؛ فعن عمران بن حصين عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "ليخرجن قوم من النار بشفاعتي يسمون الجهنميين".
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.