عناصر الخطبة
- مغفرة الله لذنوب عباده وسعته رحمته
- فضل الدعاء مع الرجاء
- فضل الاستغفار وماهيته وبعض صيغه
- أهمية التوحيد وفضله
- فضل الإيمان وأثره
- شدة حاجة الإنسان إلى الله
- كيفية التوبة والاستغفار من الذنوب
اقتباس أيها الناس: اتقوا الله -تعالى- ووثِّقوا صلتكم به بطاعته، وفعل ما أمركم به، وترك ما نهاكم عنه، والإكثار من دعائه، فإنه لا غنى بكم عنه طرفة عين، وهو يأمركم بدعائه، واستغفاره، مع غناه عنكم، وأنتم تعرضون عنه مع فقركم، وحاجتكم إليه. وهذا من عجائب نفسية هذا…
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين على فضله وإحسانه، كتب على نفسه الرحمة أنه مَن عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح أن يغفر له ويرحمه مهما بلغت ذنوبه، وعظمت عيوبه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، يفرح بتوبة عبده وهو غنيٌّ عنه، وعبده يعرض عنه وهو فقير إليه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، كان يتوب إلى ربه ويستغفره في اليوم أكثر من سبعين مرة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيّها الناس: اتقوا ربكم وتوبوا إليه من ذنوبكم، ولا تقنطوا من رحمته مهما بلغت ذنوبكم، فإنه يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب منها، كما روى أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "قال الله -تعالى-: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أُبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة" [رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح"].
وقد تضمن هذا الحديث أموراً ثلاثة تحصل بها المغفرة:
الأمر الأول: الدعاء مع الرجاء، وهو في قوله: "إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أُبالي".
ففيه أنه لا بدّ من الجمع بين الدعاء ورجاء الإجابة، فلو دعا بدون رجاء لم يستجب له؛ لأن ذلك قنوط من رحمة الله، والقنوط من رحمة الله ضلال، كما قال تعالى: ﴿وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ﴾ [الحجر: 56].
وإن رجاء بدون دعاء، لم ينفعه الرجاء؛ لأنه لم يفعل السبب الذي يحصل به المطلوب، والله قد ربط الأمور بأسباب لا بدّ من فعلها، ومَن تركها كان عاجزاً مهملاً، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني".
وفي قوله تبارك وتعالى: "غفرت لك ما كان منك ولا أُبالي".
بيان سعة مغفرة الله، وأنه مهما كثرت ذنوب العبد فإن الله يغفرها له ولا يتعاظم كثرتها؛ لأنه سبحانه: "لا يتعاظمه شيء" ما دام العبد قد أتى بسبب المغفرة.
أما مَن يكثر من الذنوب، ويترك التوبة، اعتماداً على سعة مغفرة الله وعفوه، فإنه خاسر؛ لأنه أمِنَ مكر الله، والله -تعالى- يقول: ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف: 99].
ومكر الله -سبحانه- هو استدراجه للعاصي، ثم أخذه بالعقوبة على غرّة وغفلة، قال الحسن البصري -رحمه الله-: "المؤمن يعمل بالطاعات، وهو مشفق وجِلٌ خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي، وهو آمن".
الأمر الثاني: مما تضمنه الحديث: بيان أن الاستغفار، وهو طلب المغفرة، لا يبقي من الذنوب شيئاً، بل يمحوها ولو كبر حجمها، وبلغ ارتفاعها العنان، وهو السحاب، فإن الله يغفرها.
وقد أمر الله بالاستغفار في مواضع من كتابه، ومدح أهله، ووعدهم بمغفرة ذنوبهم، وتكفير خطاياهم.
ولا بدّ مع الاستغفار من عدم الإصرار على الذنب، بمعنى أن المستغفر يترك الذنوب المستغفر منها، فإن لم يتركها لم ينفعه الاستغفار؛ لأنه حينئذ يكون استغفاراً باللسان فقط، والله –تعالى- يقول: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 135].
وللاستغفار ساعات يرجى قبوله فيها أكثر من غيرها، كأدبار الصلوات، ووقت الأسحار، قال تعالى: ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ﴾ [آل عمران 17].
وقال تعالى: ﴿وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الذاريات: 18].
وأفضل أنواع الاستغفار: أن يبدأ العبد بالثناء على الله، ثم يثني بالاعتراف بذنبه، ثم يسأل الله المغفرة، كما ثبت في الصحيح عن شداد بن أوس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهمَّ أنت ربي لا إله إلاّ أنت، خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت".
وينبغي الإكثار من الاستغفار، اقتداءً بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة".
وينبغي أن يقرن الاستغفار بالتوبة، فيقول: أستغفر الله وأتوب إليه، كما في الحديث، وكما في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ﴾ [هود: 90].
وذلك ليجمع بين الاستغفار باللسان، والإقلاع عن الذنب بالقلب والجوارح؛ وهذا معناه عدم الإصرار على الذنب.
الأمر الثالث: مما تضمنه هذا الحديث: أن التوحيد هو الشرط الأعظم، بل هو الأساس لمغفرة الذنوب، فمَن فقده فقَدَ المغفرة، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾ [النساء: 48].
وقال تعالى: ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾ [المائدة: 72].
وفي هذا الحديث يقول الله -تعالى-: "يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرة".
و"قُراب الأرض" بضم القاف، ملؤها، أو ما يقارب ملأها.
دلَّ الحديث على أن الموحِّد تُرجى له المغفرة ولو كثرت ذنوبه، فإن ما معه من التوحيد ما يكفّر الله به الذنوب مهما عظمت ومهما كثرت، وهذا مقيد بمشيئة الله -عزّ وجلّ-، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ أي: ما دون الشرك: ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾.
ففيه فضل التوحيد وبيان ما يكفّر من الذنوب، وأن مَن لقي الله به ومات عليه، فإنه ترجى له المغفرة.
وفيه التحذير من الشرك؛ لأنه لا يغفر لصاحبه ولو أتعب نفسه بالعمل ولسانه بالاستغفار، ولو أنفق جميع ما في الدنيا، فلن يقبل منه ،ولن يغفر له ما دام على الشرك، ولكن ما هو الشرك الذي هذا خطره؟
كثير من المنتسبين إلى الإسلام يظنون أن الشرك يقتصر على عبادة الأصنام التي كان أهل الجاهلية يعبدونها مثل اللات والعزّى ومناة، وأما عبادة القبور والاستغاثة بالأموات ودعاؤهم من دون الله، وطلب المَدَد من الحسين والبدوي والشاذلي والعيدروس، فهذا ليس بشرك.
وكأن الشرك أمر اصطلاحي يتغير من عُرف إلى عُرف، وما دروا أن أول شرك حدث في العالم هو هذا الذي يقولون: إنه ليس بشرك، وإنما هو توسل بالصالحين، فقد كان الشرك الذي في قوم نوح هو الغلو في الصالحين، والتوسل بالأموات، ولما دعاهم نوح -عليه السلام- إلى تركه: ﴿وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ [نوح: 23].
وقد روى البخاري عن ابن عباس: "أن هذه أسماء رجال صالحين في قوم ماتوا، فعبدوهم من دون الله".
نسأل الله أن يرزقنا البصيرة في دينه، ومعرفة الحق، والعمل به.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم …
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له مخلصين له الدين، وأشهد أن محمداً خاتم النبيين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، ووثِّقوا صلتكم به بطاعته، وفعل ما أمركم به، وترك ما نهاكم عنه، والإكثار من دعائه، فإنه لا غنى بكم عنه طرفة عين، وهو يأمركم بدعائه، واستغفاره، مع غناه عنكم، وأنتم تعرضون عنه مع فقركم، وحاجتكم إليه.
وهذا من عجائب نفسية هذا الإنسان، قال تعالى: ﴿إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ﴾ [الشورى: 48].
أي: لا يعرف إلا الساعة الراهنة، فإن أصابته نعمته أشر وبطر، وإن أصابته محنة يئس وقنط.
هذه طبيعة الإنسان إلا مَن منّ الله عليه بالإيمان، فإن المؤمن، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن أصابته سرّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن".
وكذلك هذا الإنسان هو دائماً في حاجة إلى ربه، لكنه لا يدعوه تكبراً، كما قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: 60].
وقال تعالى: ﴿ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [الأعراف: 55].
وكذلك هذا الإنسان لا يستغفر ربه، وهو محمل بالذنوب، ومعرّض لعقوباتها، لكنه لا يستغفر إمّا لأنه آمن من مكر الله، أو لأنه قانط من رحمة الله، كما قال تعالى عن المنافقين: ﴿أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ [التوبة: 126].
فاتقوا الله -عباد الله- وأكثروا من دعائه واستغفاره، وأخلصوا له العبادة: ﴿يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [الأحزاب: 71].
واعلموا أن خير الحديث كتاب الله … إلخ.