حضور الميت ونعيه والبكاء عليه

عناصر الخطبة

1. أهمية حضور الميت عند الاحتضار
2. تلقين الميت كلمة التوحيد   
3. آداب الجلوس عند المحتضر   
4. أقسام البكاء على الميت وأحكامها   
5. حكم نعي الميت وأحوال النعي   
6. من الآداب الشرعية بعد نزول الموت بالإنسان.

اقتباس

من الأمور التي ينبغي التفطن لها أنه إذا نزل بالعبد الموت شُرِعَ للصالحين أن يحضروه؛ ليذكّروه ويلّقنوه، وليتعظ كل إنسان بما يراه، فإن هول المطلع شديد، وإن للموت لسكرات، ومن أجل هذه الشدة التي تنزل بالعبد حث النبي -صلى الله عليه وسلم- من وُجد حول الميت ساعة الاحتضار من إخوانه وزوجه وولده أن يلقنوه “لا إله إلا الله…

الخطبة الأولى:

الحمد لله يتولى الصالحين، ويثيب الذاكرين، ويزيد الشاكرين، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، فما خاب من ذكره، وما انقطع من شكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ سيد الذاكرين، وقدوة الشاكرين، صلى الله عليه وسلم وبارك على آله وصحبه الأتقياء البررة.

أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، اتقوه في السر والعلن، اتقوه واعبدوه، واسجدوا له وافعلوا الخير لعلكم تفلحون.

عباد الله: من الأمور التي ينبغي التفطن لها أنه إذا نزل بالعبد الموت شُرِعَ للصالحين أن يحضروه؛ ليذكّروه ويلّقنوه، وليتعظ كل إنسان بما يراه، فإن هول المطلع شديد، وإن للموت لسكرات، ومن أجل هذه الشدة التي تنزل بالعبد حث النبي -صلى الله عليه وسلم- من وُجد حول الميت ساعة الاحتضار من إخوانه وزوجه وولده أن يلقنوه “لا إله إلا الله” ليخرج من الدنيا على خير ويختم له بحسن الخاتمة، فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “لقنوا موتاكم لا إله إلا الله” [مسلم:916]، وأخبر -صلى الله عليه وسلم- بفضل من مات على التوحيد، فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ” [أبو داود (3116) وصححه الألباني].

وكان الصحابة يتواصون بذلك، فعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: “احضروا موتاكم ولقنوهم: لا إله إلا الله، وذكروهم فإنهم يرون ما لا ترون“. وقال عثمان بن عفان: “إذا احتضر الميت فلقنوه لا إله إلا الله، فإنه ما من عبد يُختم له بها موته، إلا كانت زاده إلى الجنة”. فاحضروا أمواتكم ولقنوهم لا إله إلا الله، وبشّروهم بالجنة، فإن الحليم من الرجال والنساء يتحير عند ذلك المصرع، وإن الشيطان أقرب ما يكون من ابن آدم عند ذلك المصرع. نسأل الله السلامة والعافية.

عباد الله: والحضور عند المحتضر حال نزول الموت به، وما يستتبع ذلك من تلقينه والاتعاظ به، والبكاء عليه، سُنة ثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا الحضور آداب وسنن أخرى، ينبغي أن يتعلمها العبد حتى يكون نافعًا لإخوانه في الحياة وعند الممات، فعَن أم سَلمَة قَالَت: قَالَ رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إِذا حضرتم الْمَرِيض أَو الْمَيِّت فَقولُوا خيرًا، فَإِن الْمَلَائِكَة يُؤمنُونَ على مَا تَقولُونَ“، قَالَت: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلمَة أتيت رَسُول الله – صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فَقلت: يَا رَسُول الله إِن أَبَا سَلمَة قد مَاتَ، قَالَ: قولي: “اللَّهُمَّ اغْفِر لي وَله، واعقبني مِنْهُ عُقبى حَسَنَة، قَالَت: فَفعلت؛ فأعقبني الله من هُوَ خير لي مِنْهُ، مُحَمَّدًا – صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-” [مسلم (919)].

وعنها قَالَت: دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أبي سلمة، وقد شق بصره، فأغمضه، ثم قال: “إن الروح إذا قبض تبعه البصر”، فضج ناس من أهله، فقال: “لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون”، ثم قال: “اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره، ونوّر له فيه“، وفي رواية: “واخلفه في تركته”، وقال: “اللهم أوسع له في قبره” [مسلم (920)].

فمن السنة لمن حضر عند المحتضر أن يدعو له، ولا يعترض على أقدار الله ولا يتسخطها، وقد تدمع العين، ويحزن القلب ولكن لا يقول العبد ما يسخط الرب -سبحانه-، فعَن أم سَلمَة قَالَت: لما مَاتَ أَبُو سَلمَة، قلت: غَرِيب وَفِي أَرض غربَة، لأبكينه بكاء يُتَحدث بِهِ عَنهُ، فَكنت قد تهيأت للبكاء عَلَيْهِ، إِذْ أَقبلت امْرَأَة من الصَّعِيد تُرِيدُ أَن تسعدني، فَاسْتَقْبلهَا رَسُول الله -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فَقَالَ:” أَتُرِيدِينَ أَن يدْخل الشَّيْطَان بَيْتا أخرجه الله مِنْهُ؟” مرَّتَيْنِ، قَالَت: فكففت عَن الْبكاء، فَلم أبكِ” [مسلم(922)].

وحذَّر -صلى الله عليه وسلم- من كثرة البكاء المصحوب بالجزع والتسخط والشكوى، وأخبر أن هذا التسخط والتشكي قد يكون سببًا في تعذيب الميت إن كان ذلك الأمر من عادة أهله ولم ينههم عن ذلك، أو يحطهم نصحا، فضلاً عن أن يكون قد أوصى بذلك، فعَن عبد الله بن عمر بن الْخطاب -رَضِي الله عَنْهُمَا- قَالَ: لما طعن عمر أُغمي عَلَيْهِ، فصيح عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاق قَالَ: أما علمْتُم أَن رَسُول الله  -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم– قَالَ: “إِن الْمَيِّت ليعذب ببكاء الْحَيّ” [مسلم (927)]. وَعَن عبد الله بن عمر أَيْضًا فِي هَذَا الحَدِيث، قَالَ: قَالَ رَسُول الله -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم–: “إِن الْمَيِّت ليعذب ببكاء أَهله عَلَيْهِ” [البخاري (1286) ومسلم (928)].

أيها الإخوة: والبكاء على الميت أنواع وأقسام، ولكل حالة لبوسها، فَإِن الْبكاء عِنْد الْعَرَب، يكون الْبكاء الْمَعْرُوف، وَتَكون النِّيَاحَة، وَقد يكون مَعهَا الصياح وَضرب الخدود، وشق الْجُيُوب، وَلَا يُعلم خلافٌ أَن ذَلِك حرَام، وَقد ورد الْوَعيد على هَذَا كُله.

وَعَن عُرْوَة بن الزبير قَالَ: ذُكِر لعَائِشَة أَن ابْن عمر يرفع إِلَى النَّبِي -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- “إِن الْمَيِّت يعذب فِي قَبره ببكاء أَهله“، فَقَالَت، إِنَّمَا قَالَ رَسُول الله: “إِنَّه ليعذب بخطيئته أَو بِذَنبِهِ، وَإِن أَهله ليبكون عَلَيْهِ الْآن” [البخاري(3978)]. وَعَن عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن أَنَّهَا سَمِعت عَائِشَة -رَضِي الله عَنْهَا- وَقد ذُكِر لَهَا أَن عبد الله بن عمر يَقُول: إِن الْمَيِّت ليعذب ببكاء الْحَيّ، فَقَالَت عَائِشَة: يغْفر الله لأبي عبد الرَّحْمَن، أما أَنه لم يكذب، وَلكنه نسي أَو أَخطَأ، إِنَّمَا مرَّ رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- بيهودية يُبكَى عَلَيْهَا، فَقَالَ: “إِنَّهُم ليبكون عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لتعذب فِي قبرها” [مسلم (932)]. وَعَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة قَالَ: سَمِعت رَسُول الله – صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- يَقُول: “من نيح عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يعذب بِمَا نيح عَلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة” [مسلم (933)].

وَعَائِشَة -رَضِي الله عَنْهَا- إِنَّمَا حدثت بِمَا سَمِعت، وَأنْكرت مَا لم تسمع. وَقَالَ بعض الْعلمَاء أَو أَكْثَرهم: إِنَّمَا يُعَذب الْمَيِّت ببكاء الْحَيّ عَلَيْهِ، إِذا كَانَ الْبكاء من سُنة الْمَيِّت واختياره، أَو يكون قد وَصِيّ بِهِ، وَقد روى مَا يدل على أَن الْمَيِّت يُصِيبهُ عَذَاب مَا ببكاء الْحَيّ، وَإِن لم يكن من سنته، وَلَا من اخْتِيَاره، وَلَا مِمَّا أوصى بِهِ.

ورد من حَدِيث النُّعْمَان بن بشير قَالَ: “أُغمي على عبد الله بن رَوَاحَة، فَجعلت أُخْته عمرة تبْكي، وَتقول واجبلاه واكذا، واكذا، تعدد عَلَيْهِ، فَقَالَ حِين أَفَاق: مَا قلت شَيْئا إِلَّا قيل لي أَنْت كَذَلِك، فَلَمَّا مَاتَ لم تبك عَلَيْهِ” [البخاري (4268)]، وَهَذَا أَيْضا لم يكن من سنة عبد الله بن رَوَاحَة، وَلَا من اخْتِيَاره، وَلَا مِمَّا أوصى بِهِ، لِأَن منصبه فِي الدّين أجل وَأَرْفَع من أَن كَانَ يَأْمر بِهَذَا، أَو يُوصي بِهِ، وَفِي هَذَا الْبَاب حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ ،عَن النَّبِي – صلى الله عَلَيْهِ وَسلم– قَالَ: “الميت يعذب ببكاء الحي، إذا قالوا: واعضداه! واكاسياه! واناصراه! واجبلاه! ونحو هذا يتعتع، ويقال: أنت كذلك؟! أنت كذلك؟!” [ابن ماجه (1594) وحسنه الألباني]، وفي هذا تحذير للمسلم أن يترك أهله دون وصية بعدم ارتكاب أفعال مشينة بعد موته.

وقد تبرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- من بعض الأفعال التي يقوم بها بعض الناس عند الميت، فعن أبي بردة بن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ قَالَ: وجع أَبُو مُوسَى وجعا، فَغشيَ عَلَيْهِ وَرَأسه فِي حجر امْرَأَة من أَهله، فصاحت امْرَأَة من أَهله، فَلم يسْتَطع أَن يرد عَلَيْهَا شَيْئا، فَلَمَّا أَفَاق قَالَ: “أَنا بَرِيء مِمَّن بَرِيء مِنْهُ رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم-، فَإِن رَسُول الله بَرِيء من الصالقة، والحالقة، والشاقة“. [مسلم (104)]. وَفِي لفظ آخر عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد وَأبي بردة قَالَا: أُغمي على أبي مُوسَى، فَأَقْبَلت امْرَأَته أم عبد الله تصيح برنة، ثمَّ أَفَاق فَقَالَ: ألم تعلمي؟ وَكَانَ يحدثها أَن رَسُول الله – صلى الله عَلَيْهِ وَسلم– قَالَ: “أنا بريء مِمَّن حلق وسلق وخرق” [مسلم (104)]، والصالقة: هِيَ الَّتِي ترفع صَوتهَا بالعويل عِنْد الْمُصِيبَة، والحالقة: الَّتِي تحلق شعرهَا عِنْد الْمُصِيبَة، والشاقة: الَّتِي تشق ثوبها،كل ذَلِك عِنْد الْمُصِيبَة.

وفي نهي شديد ووعيد أكيد عن أفعال الجاهلية، مما تفيد التسخط وعدم الرضا بأقدار الله -جل في علاه-، قَالَ رَسُول الله -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-: “لَيْسَ منا من ضرب الخدود، وشق الْجُيُوب، ودعا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة” [مسلم (103)]، وأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن هذه من أفعال الجاهلية، فعَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- قَالَ: “اثْنَتَانِ فِي النَّاس هما بهم كفر: الطعْن فِي الأنّسَاب، والنياحة على الْمَيِّت” [مسلم (67)].

وَعَن أبي مَالك الْأَشْعَرِيّ أَن النَّبِي -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- قَالَ:” أربع في أمتي من أمر الجاهلية، لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة. وقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب” [مسلم (934)].

عباد الله: وَأما الْبكاء من غير نياحة، فقد ورد فِيهِ الْإِبَاحَة، وَهُوَ بكاء الرَّحْمَة والرأفة الَّتِي لَا يكَاد يَخْلُو مِنْهَا الْبشر، وَلَا يُوجد قلب إِلَّا وَبِه مِنْهَا أثر، ففي حدِيث النَّبِي-صلى الله عليه وسلم- إِبَاحَة الْبكاء من غير نياحة وَلَا صياح، فعَن أُسَامَة بن زيد قَالَ: كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم-  فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه، وتخبره أن صبيا لها، أو ابنا لها، في الموت، فقال للرسول: “ارجع إليها، فأخبرها: إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها، فلتصبر ولتحتسب” فعاد الرسول فقال: “إنها قد أقسمت لتأتينها“، قال: فقام النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقام معه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وانطلقت معهم، فرفع إليه الصبي، ونفسه تقعقع كأنها في شنة، ففاضت عيناه، فقال له سعد: ما هذا ؟ يا رسول الله! قال: “هذه رحمة، جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء” [مسلم (923)].

فإذا كان هذا قد حدث مع ابن ابنته -رضي الله عنها-، فقد حدث مع ابن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فعَن أنس بن مَالك قَالَ: قَالَ رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم-ولد لي الليلة غلام، فسميته باسم أبي إبراهيم، ثم دفعته إلى أم سيف، امرأة قين يقال له أبو سيف، فانطلق يأتيه واتبعته، فانتهينا إلى أبي سيف وهو ينفخ بكيره، قد امتلأ البيت دخانًا، فأسرعت المشي بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلت: يا أبا سيف! أمسك، جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأمسك، فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم- بالصبي، فضمه إليه، وقال: ما شاء الله أن يقول، فقال أنس: لقد رأيته وهو يكيد بنفسه بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فدمعت عينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: “تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، والله يا إبراهي ! إنا بك لمحزونون” [مسلم (2315)].

وَعَن عبد الله بن عمر -رَضِي الله عَنْهُمَا- قَالَ: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعوده مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، فلما دخل عليه وجده في غشية، فقال:” أقد قضى؟” -يعني هل مات؟- قالوا: لا، يا رسول الله! فبكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما رأى القوم بكاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكوا، فقال” :ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا -وأشار إلى لسانه-، أو يرحم” [مسلم (924)]، فمعيار البكاء في اللسان إذا كفّ عن النطق بالحرام أو الاعتراض على الأقدار.

وَعَن جَابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: لما قتل أبي، جعلت أكشف الثوب عن وجهه، أبكي وينهوني عنه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لا ينهاني، فجعلت عمتي فاطمة تبكي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “تبكين أو لا تبكين، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه” [البخاري (1244)].

وعن علقمة أنه كان جالسًا مع ابن عمر بالسوق، ومعه سلمة بن الأزرق إلى جنبه، فمر بجنازة يتبعها بكاء، فقال عبد الله بن عمر: لو ترك أهل هذا الميت البكاء لكان خيرًا لميتهم، فقال سلمة بن الأزرق: تقول ذلك يا أبا عبد الرحمن، قال: نعم أقوله، إني سمعت أبا هريرة، ومات ميت من أهل مروان، فاجتمع النساء يبكين عليه، فقال مروان: قم يا عبد الملك، فانههن أن يبكين، فقال أبو هريرة: دعهن، فإنه مات ميت من آل النبي -صلى الله عليه وسلم- فاجتمع النساء يبكين عليه، فقام عمر بن الخطاب ينهاهن ويطردهن، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعهن يا ابن الخطاب، فإن العين دامعة، والفؤاد مصاب، وإن العهد حديث، فقال ابن عمر: أنت سمعت هذا من أبي هريرة ؟ قال يأثره عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ؟ قال: نعم، قال فالله ورسوله أعلم” [مسند أحمد 8/ 147 وصححه أحمد شاكر].

عباد الله: وَأما نعي الْمَيِّت والإعلام بِمَوْتِه إِذا قصد بذلك اجْتِمَاع النَّاس للصَّلَاة عَلَيْهِ، لما يَنَالهُ من دُعَائِهِمْ لَهُ، واستغفارهم ورغبتهم إِلَى الله تَعَالَى فِيهِ، وسؤالهم، وَلما ينالون أَيْضًا من ثَوَاب الصَّلَاة عَلَيْهِ، فَمِنْهُ َ مفْرُوض، ومندوب إِلَيْهِ، وَمِنْه غير جَائِز، وَقد نعى النَّبِي -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- النَّجَاشِيّ للنَّاس فِي الْيَوْم الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَقَالَ: “اسْتَغْفرُوا لأخيكم، وَخرج بِالنَّاسِ إِلَى الْمصلى، فَصف بهم وَصلى عَلَيْهِ، وَكبر أَربع تَكْبِيرَات” [مُسلم (951)]، وَكَانَ موت النَّجَاشِيّ بِبَلَد بعيدٍ عَن مَدِينَة النَّبِي -صلى الله عليه وسلم-.

ونعى النبي -صلى الله عليه وسلم- قادة غزوة مؤتة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فعن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، وَإِنَّ عَيْنَيْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتَذْرِفَانِ-، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ“. [البخاري (3757)].

وأوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه أن يخبروه عمن مات منهم، ويعلموه به، فقَالَ -عَلَيْهِ السَّلَام-: “لا يموت فيكم ميت، مادمت بين أظهركم، إلا آذنتموني به، فإن صلاتي له رحمة” [سنن النسائي (2022) وصححه الألباني]، فَأمر بِأَن يُعلم بِكُل ميت من الْمُسلمين ليُصَلِّي عَلَيْهِ؛ لما فِي صلَاته -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- من الْبركَة وَالرَّحْمَة، ولإقامة سنته أَيْضًا فِي الصَّلَاة على موتى الْمُسلمين، وَفِي صَلَاة الْمُسلمين بَعضهم على بعض، وَدُعَاء بَعضهم لبَعض. وأوصى صلى الله عليه وسلم أمته إذا قاموا في صلاة الجنازة على من مات منهم أن يخلصوا له في الدعاء، فقَالَ -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-: “إِذا صليتم على الْمَيِّت، فأخلصوا لَهُ الدُّعَاء” [أبو داود (3199) وصححه الألباني].

وَأما إِذا كَانَ نعي الْمَيِّت والإعلام بِمَوْتِهِ، ليجمع النَّاس عَلَيْهِ على معنى التَّعْظِيم لَهُ، والمصيبة بفقده، والتفاخر بِمَا يجْتَمع لَهُ من النَّاس، ويحضره من الْأَشْرَاف، فَهَذَا لَا يجوز، وعَلى هَذَا يأتي نهي النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- عَن النعي، فقد ذكر روى حُذَيْفَةُ بن الْيَمَان، قَالَ: “إِذا مت فَلَا تؤذنوا بِي أحدًا، إِنِّي أَخَاف أَن يكون نعيا، فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- ينْهَى عَن النعي“. [الترمذي (986) وصححه الألباني].

واعلموا -أيها الإخوة- أن التوسط في هذا الأمر والأفضل فيه أن يُدعى للصَّلَاة على الْمَيِّت من تقوم بِهِ سُنة الصَّلَاة عَلَيْهِ، ويتم إخبار أهله ومن حضره ومن كان قريبًا من الصالحين، ممن يحسنون الدعاء ويخلصون فيه، رجاء أن يُشَفَّعُوا فيه.

نسأل الله حسن الخاتمة وأن يجعل أسعد أيامنا يوم نلقاه، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد: عباد الله: فأوصيكم بتقوى الله وطاعته وأحذركم من معصيته ومخالفته.

عباد الله: ومن الآداب الشرعية بعد نزول الموت بالإنسان: أن يذكر الناس محاسن الموتى، وينشرون له ذكرًا حسنًا، وقد ورد النهي عن سبّ الموتى، فعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا” [البخاري 1393]. وفي الحديث: “أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: نهى عن سب الأموات” [الحاكم (1419) وصححه ووافقه الألباني]، وفي هذا زجر عن فعل ما كان يسؤوهم في حياتهم، وفيه أيضاً زجر عن عقوق الآباء والأمهات بعد موتهما بما يسؤوهما من فعل الحي، ففي الحديث: “أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يهدي لصدائق خديجة صلةً منه لها وبرًّا” [البخاري (3818)]، وإذا كان الفعل صلة وبرًّا، كان ضده عقوبة وقطيعاً وعقوقاً، نسأل الله السلامة والعافية.

ومما يروى في ذلك عن عروة قال: وقع رجل في علي -رضي الله عنه- عند عمر بن الخطاب  -رضي الله عنه- فقال عمر-رضي الله عنه-: “ما لك قبَّحك الله: لقد آذيت رسول الله  صلى الله عليه وسلم- في قبره“. ففي هذا زجر عن سوء القول في الأموات، نعوذ بالله من أذى المؤمنين والمؤمنات بغير حق.

وأرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- لأهمية الثناء على المؤمن بما فيه، فعن أنس بن مَالك قَالَ: مُرَّ بجنازة، فأُثنِيَ عليها خيرًا، فقال نبي الله -صلى الله عليه وسلم :”وجبت، وجبت، وجبت”، ومُر بجنازة فأُثني عليها شرًّا، فقال نبي الله -صلى الله عليه وسلم-: “وجبت، وجبت، وجبت” ، فسئل عن ذلك فقال -صلى الله عليه وسلم-: “من أثنيتم عليه خيرًا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرًّا وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض” [مسلم (949)].

عباد الله: ومن السنة في الحضور عند الميت: ستره وستر ما قد يظهر من حاله، قال -صلى الله عليه وسلم-: “من غسَّل ميتًا فكتم عليه غفر الله له أربعين مرة، ومن كفَّن ميتًا كساه الله من سندس وإستبرق في الجنة، ومن حفر لميت قبرًا فأجنَّه فيه أجرى الله له من الأجر كأجر مسكن أسكنه إلى يوم القيامة” [صححه الألباني في صحيح الترغيب (3492)].

ومن فضائل الأعمال وأبواب الأجور: الصلاة على الميت وتشييعه إلى قبره، فعن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “من صلى على جنازة ولم يتبعها فله قيراط، فإن تبعها فله قيراطان“. قيل: وما القيراطان؟ قال: “أصغرهما مثل أُحُد” [مسلم (945)].

عباد الله: إِنَّ من كثرت شُهُوده، وَانْطَلَقت أَلْسِنَة الْمُسلمين فِيهِ بِالْخَيرِ وَالثنَاء الصَّالح، كَانَت لَهُ الْجنَّة، بفضل الله -تبارك وتعالى- وكرمه، والعكس بالعكس، وذلك أنه إِذا أحب الله عبدًا ألقى على أَلْسِنَة الْمُسلمين الثَّنَاء عَلَيْهِ، وَفِي قُلُوبهم الْمحبَّة لَهُ، قَالَ الله -تبَارك وَتَعَالَى-: ﴿إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات سَيجْعَلُ لَهُم الرَّحْمَن ودا﴾ [مريم: 96]، وَقَالَ -عَلَيْهِ السَّلَام-: “إِذا أحب الله عبدا، دَعَا جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَالَ: إِن الله يحب فلَانا فَأَحبُّوهُ، قَالَ: فَيُحِبهُ أهل السَّمَاء، ثمَّ يوضع لَهُ الْقبُول فِي الأَرْض، وَذكر فِي البغض مثل ذَلِك” [مُسلم (2637)].

أيها الإخوة: وكان السلف الصالح من الصحابة والتابعين يقولون لمخالفيهم: “بيننا وبينكم يوم الجنائز“، وذلك لأن في حضور جنازة الصالحين شهادة عملية، على محبة رب البرية -سبحانه-، وَقد رأى المسلمون رجالاً من العُلَمَاء والصالحين، كثُر الثَّنَاء عَلَيْهِم، وصُرفت الْقُلُوب إِلَيْهِم فِي حياتهم وَبعد مماتهم، وَمِنْهُم من كثر المشيعون والحاملون لجنازته، والمشتغلون بِهِ، وَرُبمَا كثر الله الْخلق بِمَا شَاءَ، من الْجِنّ وَالْإِنْس وَغَيرهم مِمَّا يَشَاء، يكونُونَ فِي صور النَّاس.

وقد وقع في جنائز أئمة الإسلام كالإمام أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية، وغيرهما من صالحي هذه الأمة ما يشير إلى أن الله رب العالمين قد رفع ذكرهم، وأعلى شأنهم، ومن طالع سِيَر السلف الصالح وقف على عجائب في هذا الأمر.

وفي مقابل ذلك -أيها الإخوة- فإنه يجب أَلا يُحتقَر أحد من الْمُسلمين، وَإِن كَانَ ظَاهره الفسوق، فَلَعَلَّ لَهُ بطانة من خير، وخبيئة من عمل صَالح، وَلِأَنَّهُ أَيْضًا قد صَار إِلَى أرْحم الرَّاحِمِينَ.

وَكَذَلِكَ إِن كَانَ الْمَيِّت مَنْبُوذًا، أَو مطروحًا لَا يُعرف، أَو لَا يحضرهُ أحد، فَلَا تحتقره، وَلَا تنظر إِلَى الظَّاهِر من حَاله، يرْوى عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- أَنه قَالَ: “رب أَشْعَث مَدْفُوع بالأبواب لَو أقسم على الله لَأَبَره” [مسلم (2622)].

نسأل الله العلي الكريم أن يحسن لنا الختام أجمعين، وأن يغفر لنا ووالدينا، ويجعلنا من ورثة جنة النعيم. فاتقوا الله -عباد الله- وأكثروا من ذكر هادم اللذات، وأكثروا من التوبة لرب الأرض والسموات، واعتصموا بربكم، فنعم المولى ونعم النصير.

اللهم املأ قلوبنا ثقة بك، وتوكلاً عليك، ومحبة لك، اللهم إنا نسألك إيمانًا صادقًا، ولساناً ذاكرًا، وقلبًا خاشعًا. اللهم أحسن لنا الختام، وارزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال.