عناصر الخطبة
- ذكر الله أزكى ما يدور بالخاطر الإنساني
- الطرق الشرعية للذكر
- تأملات في ذكر الله تعالى
اقتباس والذكر ليس حالة عضوية، ولكنه حالة نفسية، ومعنى أنه ليس حالة عضوية أن الله يقول للإنسان: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾، ولم يقل له: واذكر ربك إذا سكتَّ. السكوت قد يكون حركة اللسان إذا توقف عن الكلام، أما حالات الغفلة والذهول والنسيان فهي حالات نفسية، والمقصود من الذكر أن يعالج…
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمدًا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإن أشرف ما يمر بالخاطر، وأنضر ما يتحرك به اللسان، وأزكى ما يؤثر في الأخلاق والمسالك هو ذكر الله -سبحانه وتعالى-؛ فإن هذا الذكر يسدد خطوات الإنسان على طريق الحياة الصحيحة، ويبصره بالرسالة التي خُلق من أجلها، ويجعله عبدًا يرتفع في مستواه إلى الملأ الأعلى.
والذكر ليس حالة عضوية، ولكنه حالة نفسية، ومعنى أنه ليس حالة عضوية أن الله يقول للإنسان: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾، ولم يقل له: واذكر ربك إذا سكتَّ. السكوت قد يكون حركة اللسان إذا توقف عن الكلام، أما حالات الغفلة والذهول والنسيان فهي حالات نفسية، والمقصود من الذكر أن يعالج هذه الأحوال، ويجعل الإنسان في حال من الصحو واليقظة والإحساس بوجود الله -سبحانه وتعالى- وبرقابته وبشهوده الذي لا يخبو سناه على كل ذرة في الكون.
وكما قالوا في علم الطبيعة: إنه لا مجال للفراغ، بمعنى أن الإناء إذا كان ممتلئًا بالماء فهو ممتلئ بالماء، وإذا خلا من الماء فهو ليس فارغًا، إنه مملوء بالهواء، لا فراغ في الطبيعة. كذلك أوعية القلوب، إن هذه الأوعية لا تعرف الفراغ، فإذا لم تملأها بذكر الله امتلأت بوساوس النفس وهواجس الشيطان، ومغريات الهوى، إذا لم تكن لديك الطاقة التي تحرك جوارحك في طريق الاستقامة فإن الجوارح ستتحرك ولكن على طريق آخر، فإنه لن يترك القلب فارغًا، بل سيتحرك بشيء ما، فإن لم يتحرك بذكر الله تحرك بغيره، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾. مَن لم يملأ الرحمن قلبه ملأ الشيطان قلبه، لا فراغ، إذًا لابد من أن نراقب أنفسنا حتى يبقى الذكر دائمًا ملء قلوبنا، ولذلك كلفنا بهذا الذكر: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾، تضرعًا: تذللاً، خيفة: رهبة، دون الجهر من القول: أي لا تزعق، فإن الزعيق يضيع العقل.
ولذلك عندما ذكر بعض الناس -وهم سائرون في الصحراء- بصوت عالٍ قال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أيها الناس: ارْبَعُوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إن الذي تدعونه سميع قريب".
بالغدو والآصال: الغدو: أول النهار، والآصال -جمع أصيل- آخر النهار، أي اذكر ربك باستمرار، وفي سورة أخرى: ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ(18)﴾.
وللذكر وسائل أو طرق شرعية، نبدأ فنتعرض لها ونحصي ما أقدرنا الله عليه.
من هذه الوسائل: القرآن الكريم؛ فإنه يذكر بالله وبعظمته وبقوته وبما ينبغي له، ويبنى الصلة به على الرغبة والرهبة والوعد والوعيد، وقد قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، وقال: ﴿هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.
فالقرآن كتاب تذكير إذا نسي الفكر، وكتاب إيقاظ إذا نام القلب، وكتاب تسديد على الطريق إذا اعوجت الخطى وزاغ الإنسان عن سواء السبيل.
من هذه الوسائل: الصلاة؛ فالصلاة أساس لتذكير الإنسان بربه، فهي أولاً أفعال تضمنت كل ما يحيا به العظيم، كان الناس قديمًا يحيون العظماء تارة باليد، وتارة بالوقوف، وتارة بالركوع، وتارة بالقعود المهذب، وتارة بالسجود.
مُنع هذا كله للناس، وجمع هذا كله لله، فبين يدي الله يقوم الإنسان قانتًا ويركع ويسجد ويجلس ويحيي ربه، وهو في قيامه يقرأ القرآن، وفى ركوعه وسجوده يسبح بحمد الله العظيم أو بحمد الله الأعلى.
ومثل هذه الصلوات تشبه أن تكون وجبات روحية دسمة ضخمة توجه الإنسان طول يومه إلى أن يبقى في حضرة ربه، وإلى أن يستمد منه وإلى أن يتقيه ويخشاه، وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
يعني أن ما تورثه الصلاة من ذكر الله وما تتركه من طابع نقي مشرق على ضمير الإنسان يجعل الإنسان أنأى وأبعد من الإلمام بالدنايا والهبوط إلى الحضيض؛ لأن الصلاة وذكر الله أكبر من ذلك.
من هذه الوسائل: المأثورات؛ وقد ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت له مأثورات كثيرة، قبل أن يأكل وبعد أن يأكل، قبل أن يلبس وبعد أن يلبس، قبل أن يذهب إلى الخلاء وبعد أن يذهب إلى الخلاء، قبل أن ينام وبعد أن ينام، كانت أحواله كلها ذكرًا، فهو يتقلب في أشعة متجددة لا تنتهي أقباسها، ولا تخمد أنفاسها من شعور موَّار بذكر الله لا ينتهي أبدًا، وهي حياة انفرد بها خاتم النبيين -عليه الصلاة والسلام-.
كان إذا نام قال: "باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به الصالحين".
وتارة -إذا نام- يقول: "اللهم إني أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت".
وكان إذا لبس ثوبًا جديدًا قال: "الحمد لله الذي كساني هذا الثوب ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة".
وكان إذا طعم قال: "الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين".
وكان إذا أصبح قال: "أصبحنا وأصبح الملك لله، والحمد لله لا شريك له، لا إله إلا هو وإليه النشور"، وإذا أمسى قال: "أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله، لا شريك له، لا إله إلا هو وإليه المصير".
وله في ذلك أذكار كتبت في كتب مطولة، ولا يعرف -كما قلت- نظير لهذا الذكر الموصول.
لكن يحتاج فهم الذكر إلى تأمل في كتاب الله وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لماذا؟! لأن الأمم المتدينة عندما ترق صلتها بدينها تأخذ الدين مظهرًا لا مخبرًا، أو لفظًا لا معنى، أو صورة لا حقيقة، ولذلك لم يكن هناك بد من العودة بالمسلمين إلى حقيقة الذكر حتى يعرفوا ما يطلب منهم شرعًا.
فمن الذكر -الذي هو ركن في الدين- أن يحب الإنسان ربه أكثر مما يحب ماله عندما يطالب بإخراج الركن الشرعي وهو الزكاة.
معنى ذكر الله هنا: أولاً: ذكر أمره، ثانيًا: ذكر وعده، فقد وعد بأن ما تخرجه من مال سيرتد إليك حتمًا؛ لأنه قال: ﴿وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾.
وحلف النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما نقص مال عبد من صدقة".
معنى هذا الذكر أنك يوم ترفض إخراج الركن فأنت أولاً: لا تعترف بحق الله، وأنت ثانيًا: تكذب وعده، ولذلك قال -جل شأنه-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(11)﴾.
هذا ذكر من وراء إقامة الركن الشرعي الذي تنهض عليه المجتمعات الإسلامية من قديم، وهل انتشر الإلحاد في الأرض إلا بسبب نسيان حق الله واشتعال نيران العداوة والبغضاء في نفوس الفقراء والمحتاجين؟! هذا ذكر لابد منه، وطبعًا يمتد هذا الذكر مع ضرورات العطاء، فعندما يكون هناك جهاد في سبيل الله فإن الجهاد يكون بالنفس والمال، والمال معادل للروح، فالبخل به يكون مع غفلة عن الله أو مع نسيان للحق، فالذكر هنا حقيقة لابد من استصحابها شرعًا. ولا يغني عن الإنسان أن يقول كلمة يذكر بها ربه وهو يمنع حق الله من أن ينطلق من ماله أو من خزائنه إلى بيوت المحتاجين والفقراء والمساكين.
هناك ذكر لله إبان الجهاد، وهو ذكر لابد منه لحماية الأمة وللدفاع عن عقيدتها ولإعلاء رايتها. ما ضاع المسلمون في مراحل هزائمهم المختلف -إلى يومنا هذا- إلا بعد أن غلبهم حب الدنيا وكراهية الموت، فإذا انهزم ذكر الله وأداء حقه والدفاع عن دينه والموت في سبيله أمام حب الدنيا وكراهية الموت فقد ضاع الدين، وما انهزمت أمتنا قديمًا أو حديثًا إلا إذا علا في ضمير الفرد حبه لنفسه عن حبه لربه، حبه لحياته عن حبه لآخرته، ذكره لما يشتهى ونسيانه لما كلف به وطولب.
كان سقوط غرناطة -آخر دولة لبنى الأحمر في الأندلس- سقوطًا يخزي المسلمين؛ لأن بعض الفدائيين من أهل النجدة والوفاء استماتوا في إثارة الحمية الدينية وجعل المسلمين يقاتلون فرناندو وإيزابيلا المسيحيين اللذين قاتلا الأمة الإسلامية، ولكن الملك الصغير الذي كان يملك الأمة الإسلامية أمضى معاهدة التسليم، وكان إمضاء المعاهدة، صكًّا نهائيًّا بضياع الإسلام من الأندلس.
ذكر الله هنا ما يمنع من هذا الضياع، يقول الله -جل شأنه-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
قد يكون الذكر ركنًا في الدين عندما يهمس الشيطان في قلبك: ارتكب هذه الحماقة، افعل هذا الشر، اسقط في هذه الشهوة، لكن نداء الإيمان يقول لك: اتق الله، إن الله قيوم على الناس، إن الله رقيب على العباد، احذر القائم على كل نفس بما كسبت.
هذا المعنى هو قوله -جل شأنه-: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾.
وهذا هو معنى الحديث الشريف: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله"، ومن هؤلاء السبعة: "ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله".
هناك ذكر -أيضًا يكون ركنًا في الدين- وهو ما يجعلك تثق في أن الله لن يخذلك وأنت تعمل له، لن يضيعك وأنت تتوكل عليه، لن يتركك وأنت تستجير به وتنتظر منه، وهذا معنى قوله -جل شأنه- ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾.
الذكر هنا سند حقيقي للتوكل على الله والاعتماد عليه والاستمداد منه والثقة فيه، إن الآخرين قد يعتمدون على بشر، والبشر يموتون أو يضعفون، لكنك تعتمد على الله، والله لا يموت: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا﴾.
وجدت -وأنا أدرس الذكر في القرآن الكريم- أن أساس الذكر هو معرفة الله بمعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العلى معرفة صحيحة، وقد لاحظت في آيات التشريع وفي آيات وصف الكون حشدًا من أسماء الله الحسنى ما ذكر إلا لحكمة؛ لأنه فعلاً نوع من التذكير نحتاج إلى فهمه.
مثلاً المهاجر في سبيل الله دفاعًا عن دينه أو طلبًا للنجاة بإيمانه أو سعيًا لتكوين دولة للإسلام في مكان آخر، ماذا يرجو هذا المهاجر؟! ينتظر من الله الخير، في نفسه اشتياق إلى حالة أحسن وأمل في أن الله يعطي العطاء الأوفى.
نجد هذا المعنى مرتبطًا باسم من أسماء الله الحسنى أو بصفة من صفاته العلى، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ(59)﴾.
الآيات وصفت رب العالمين بأنه خير الرازقين، وبأنه: عليم حليم، ثم مضت الآيات تقول: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾.
قد تهاجر -كما حدث للمسلمين- وتقاتل المشركين من موطنك الجديد، فكن عدلاً وأدِّ ما عليك، العفو من شيم الكرام، كن مع الآخرين على نحو ما ذكرت الآية من وصف لله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾.
ثم مضت الآيات تقول: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾، أجزاء من النهار تسودُّ بعد أن كانت بيضاء وتتحول إلى ليل في الشتاء، وأجزاء من الليل كانت سوداء تبيضُّ وتتحول إلى نهار في الصيف، هكذا رب الليل والنهار يصنع بالعالم: ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾.
ثم تمضي الآيات فتقول: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾.
ثم يعرفك بالله عن طريق النظر في الكون: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ(65)﴾.
وجدت أنه في سبع آيات متتابعة نحو خمسة عشر اسمًا من أسماء الله الحسنى، تذكِّر به وبعظمته وبجلاله وبنعمته وبفضله هنا عندما يوصف الكون والحياة، بينما نجد أن تعريف الناس بالله قد يوجد وهو يؤرخ للحياة، فمثلاً يقول الله : ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾.
كلمة: ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ﴾ شرط، ما جواب الشرط؟! جواب الشرط: يعاقبه الله، لكن الجواب هنا يحذف ويأتي اسم من أسماء الله أو صفة من صفات الله: ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾.
مثال آخر: المسلمون يعتزون بدينهم، والكافرون يضحكون من هذا الاعتزاز: ﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ﴾، فيكون الرد الإلهي: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾. أصل الجواب: ومن يتوكل على الله ينصره الله، يأخذ بيده، يعز جانبه، لكن طُوِيَ هذا الجواب، وذكر بعض أسمائه الحسنى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
ختام الآيات القرآنية بأسماء الله الحسنى ليس ختامًا عشوائيًّا، وإنما هو ختام مقصود به ربط الناس بربهم، وهذا تجده في كثير من الآيات، بل كل آيات القرآن على هذا النحو، فمثلاً في سورة البقرة تقرأ قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(228)﴾.
هنا صيغت الأحكام بطريقة تربط المسلمين بربهم، وتجعل رقابتهم لله مستمرة.
في اعتقادي لو أن أمتنا مشت مع كتابها في وصفه لرب العزة، وفي تشريعه للعباد، وفي حديثه عن الكون وآفاق العالمين، وفي تذكيره للناس كل النحو الذي عرضناه لأمكن عمل منطق علمي أشرف من المنطق الذي يسود العالم الآن.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ﴿الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ(26)﴾، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، واعلموا -أيها المسلمون- أن ديننا هذا دين قيم، وأنه لا يعرف نفاسته البُلْهُ والجهال، وإنما يحتاج إلى علماء راسخين ليدركوا حقائقه ويبصروا بها الناس، فإن عبادة شريفة كذكر الله وقعت بين أصابع ملوثة أو أفكار هازلة فجعلت من الذكر ما يسمى -في عرف بعض المغفلين- الرقص الديني.
كيف يكون في الإسلام رقص ديني؟! هذا الدين الذي حرَّر العقل الإنساني من الخرافة، وحرر القلب الإنساني من الهوى، وحرر السلوك الإنساني من العوج، هذا الدين الذي قال للإنسان: لا تضع قدمك إلا حيث تعرف: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾.
هذا الدين الذي قال هذا الكلام وجدنا الأمة التي تنتسب إليه تعمل على أساس أنها لن تحاسب لا على سمع ولا على بصر ولا على فؤاد، فهي تمشي تخبط خبط عشواء في كل شيء، وحولت ذكر الله إلى بعض أوراد ما أنزل الله بها من سلطان، أو إلى أحفال رقص يفقد الناس فيها عقولهم ووقارهم وكرامتهم.
طبعًا الإسلام لا يعرف هذا؛ لأن الآيات الأولى فيه تقول للإنسان: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5)﴾.
والعجيب أن الدين الذي يبدأ الآيات الأولى فيه بالقراءة والقلم يتحول أتباعه إلى جماهير من الأميين يزحمون العالم الثالث، لا ثقافة لهم، ولا ارتقاء، ولا نضارة في الفكر، ولا تنظيم لمقدمات، ولا معرفة لمنطق طبيعي. لماذا؟! لأنهم جهلوا دينهم.
قلت: إن السمك يموت إذا خرج من الماء؛ لأن حياته في الماء، أو كما أن الإنسان يموت أو يختنق إذا ضاع منه الهواء؛ لأنه لا يحيا بدون هواء، فكذلك الإسلام، ما يمكن أن ينتعش وأن يقوى إلا بأدواته التي سمعتم أجزاءً منها.
ذكر الله في الكون وفي الحياة وفي التاريخ وفي التشريع وفي كل شيء، كيف يختفي هذا الذكر ويتحول إلى شطح ونطح وقفز ووثب وعودة إلى الوثنيات التي يمثلها الهنود عبدة القردة وما إلى ذلك؟!
أحب أن أوجه النظر إلى أن النضج الفقهي أساس لفهم الإسلام ولعرضه، ممكن عندما ينضج العنب أن يحول إلى زبيب ويبقى له قدر من القيمة الغذائية بعد أن يجف، ممكن بعد أن ينضج البلح أن يتحول إلى تمر وتكون له قيمة غذائية جيدة وهو تمر، لكن ما الحال إذا جفف البلح وهو أخضر؟! لا يصلح. ما الحال إذا جفف العنب قبل أن ينضج؟! لا يؤكل. هناك عقول إسلامية جففت قبل أن تنضج، لا يمكن أن يصلح لشيء هذا النوع من الناس سواء كبر منصبه أو قل، لأن الإسلام علم لا ينتهي.
كان نبي الإسلام -عليه الصلاة والسلام- نموذجًا فريدًا عندما قال كما أمره ربه: ﴿رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾، وموسى -عليه السلام- وهو من أولي العزم قيل له: هناك من يعرف أكثر منك، فاجتهد الرجل وذهب وهو يقول: ﴿لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا﴾.
ما أزهد المسلمين في العلم!! ما أقل عناية المسلمين بالعلم!! ما أشيع الخرافات والأوهام بين المسلمين!!
الذكر الحقيقي ليس شقشقة لسان، وليس عمل الفم وهو يمضغ الكلام، إنما الذكر الحقيقي لله: قلب ينبض بمشاعر الرغبة والرهبة، ويمشي على الأرض وهو يرنو إلى السماء، يخشى ربه ويرجو منه الوقار، وينتظر عنده الخير، ويؤمل في الدار الآخرة يوم اللقاء.
"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر".
﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾.
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.
أقم الصلاة.