عناصر الخطبة
اقتباس ومِن صُور رِفقِه وجَميلِ خُلُقِه -صلى الله عليه وسلم-: لما بدأَ بالسعيِ في حجَّة الوداع ووصلَ إلى المروة، تنادَى الناسُ: أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجِدِ الحرامِ، فجاءُوا مِن كل حدَبٍ وصَوبٍ، حتى خرجَ العواتِقُ مِن البُيُوت كلُّهم يُريدُون النَّظرَ إلى وجهِهِ المُبارَك، فلما ازدَحَمُوا عليه، وكان -صلى الله عليه وسلم- كريمًا سَهلًا، لا يُضرَبُ الناسُ بين يدَيه، أمرَ براحِلَتِه فركِبَها حتى يرَوه كلُّهم؛ شفقَةً عليهم، ورأفةً ورحمةً بهم، فأتمَّ سَعيَه راكِبًا – بأبي هو وأمِّي -صلى الله عليه وسلم-.
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله، الحمدُ لله الذي هدانا للإسلام وفرضَ علينا حجَّ بيتِه الحرام، وجعلَه سببًا لدخول الجِنان، وتكفيرِ الذنوبِ والآثام، أحمدُه تعالى وأشكُرُه، وأستعينُه وأستغفِرُه، وأُثنِي عليه الخيرَ كلَّه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه، وعلى آلِه وأصحابِه والتابِعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعدُ .. معاشر المؤمنين: فأُوصِي نفسِي وإياكم بتقوَى الله – عزَّ وجل -؛ فإنها العُدَّةُ والزاد، والمُدَّخرُ ليوم المعاد، ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 197].
حُجَّاج بيت الله الحرام: هنِيئًا ما خصَّكُم الله به؛ حيث ورَدتُم بيتَه المُعظَّم، وقصدتُم رُكنَ الإسلام الأعظَم، آمِّين البيتَ العتيق، مُلبِّين مِن كل فَجٍّ عمِيق، فقَصدُ هذه البِقاع المُبارَكة بالحجِّ والعُمرة يرفَعُ الدرجات، ويغفِرُ الذنوبَ والسيئات.
ففي “الصحيحين” من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «العُمرةُ إلى العُمرةِ كفَّارةٌ لما بينَهما، والحجُّ المبرُروُ ليس له جزاءٌ إلا الجنة».
فها هي – يا عباد الله – مكَّة وجلالُها، والكعبةُ وجمالُها، وهنا زمزم، والحِجرُ، والحجرُ الأسود، ومقامُ إبراهيم، والصفا والمروة، والمشعَرُ الحرامُ، ومِنَى، وعرفة.
فكَم حجَّ هذا البيتَ مِن الأنبياء والمُرسَلين! وكَم تنقَّلُوا بين هذه المشاعِر مُهِلِّين ومُلَبِّين!
فهذا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في حجَّة الوداع، وهو يقطعُ هذه الفَيافِيَ الفِساح، وكأنما جِبالُها ووِهادُها، وآكامُها وأوديتُها تروِي له خبَرَها، وتُحدِّثُه بمَن مرَّ بها.
ففي “صحيح مسلم” عن ابن عباسٍ – رضي الله عنهما -، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرَّ بـ “وادِي الأزرق”، فقال: «أيُّ وادٍ هذا؟»، فقالوا: هذا “وادِي الأزرَق”، قال: «كأنِّي أنظُرُ إلى مُوسَى – عليه السلام – هابِطًا مِن الثنِيَّة، وله جُؤارٌ إلى الله بالتلبِيَة»، ثم أتَى على “ثنِيَّة هرشَا”، فقال: «أيُّ ثنِيَّةٍ هذه؟»، قالوا: “ثنِيَّةُ هرشَا”، قال: «كأنِّي أنظُرُ إلى يُونس – عليه السلام – على ناقَةٍ حمرَاء جَعْدة، عليه جُبَّةٌ مِن صُوفٍ، خِطامُ ناقَتِه خُلْبَة – أي: لِيف -، وهو يُلبِّي».
وفي “مسند الإمام أحمد”: لما مرَّ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بـ “وادِي عُسْفان” حين حجَّ، ذكَرَ -صلى الله عليه وسلم- بأنَّه مرَّ بهذا الوادِي هُودٌ وصالِحٌ – عليهما السلام – يُلبُّون يحُجُّون البيتَ العتيق”.
وفي حجَّة الوداع، والناسُ في صَعِيد عرفة يقولُ لهم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «قِفُوا على مشاعِرِكم؛ فإنَّكم على إرثٍ مِن إرثِ أبِيكُم إبراهيم – عليه السلام –» (أخرجه أبو داود في “سننه”).
فيُذكِّرُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أمَّتَه برَكبِ الأنبِياء الكِرام؛ لتَقتَفِيَ الأمةُ أثَرَهم، وتسِيرَ على نَهجِهم، وقد لفَتَ القُرآنُ الكريمُ لهذا بقولِه: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: 125]؛ اتِّباعًا لأبي الأنبِياء وإمام الحُنفاء، ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: 90].
وفي يَومِ الجُمعة مِن حجَّة الوداع، وعلى أرضِ عرفات الطاهِرة، نزلَ جبريلُ – عليه السلام – على رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- بقولِ الحقِّ – جلَّ جلالُه -: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3].
فكان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يقولُ للناسِ في يَومِ النَّحر: «لتأخُذُوا مناسِكَكم؛ فإني لا أدرِي لعلِّي لا أحُجُّ بعد حجَّتِي هذه» (رواه مسلم).
إنها شَعِيرةٌ عظيمةٌ – يا عباد الله -، عظيمةٌ بعِظَم هذا البيتِ العتيق، تتابَعَ في قافلتِها أنبياءُ الله ورُسُلُه، فسارَ في طريقِها إبراهيمُ، وصالِحٌ، وهُودٌ، ومُوسَى، ويُونسُ، ومُحمدٌ، وغيرُهم مِن أنبياء الله تعالى وأصفِيَائِه – صلواتُ ربِّي وسلامُه عليهم -.
فعن ابن عباسٍ – رضي الله عنهما – قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «صلَّى في مسجِدِ الخَيْف سبعُون نبيًّا» (أخرجه الطبراني في “معجمه”).
وسيتبَعُهم على ذلك عيسى ابنُ مريم – عليه السلام – في آخر الزمان.
ففي “صحيح مسلم” من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «والذي نفسِي بيدِه؛ ليُهِلَّن ابنُ مريَم بفَجِّ الرَّوحاء حاجًّا أو مُعتمِرًا، أو ليَثنِينَّهما».
فدينُ الأنبياء واحِد، وكلُّهم جاء بعبادة ربٍّ واحِد.
ففي “صحيح البخاري” عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «الأنبِياءُ إخوةٌ لعَلَّات، أمَّهاتُهم شتَّى، ودينُهم واحِد». أي: عقيدتُهم واحِدة، وشرائِعُهم مُختلِفة.
معاشِر المُؤمنين: إن توحيدَ الله – جلَّ جلاله، وتقدَّسَت أسماؤُه – أعظمُ مقاصِد الحجِّ وأجَلُّها؛ فما رُفِع هذا البيتُ العتيقُ إلا بالتوحيدِ ولأجلِ التوحيد، ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا﴾ [الحج: 26].
والتوحيدُ – يا عباد الله – هو أساسُ الدين؛ فعن جابِرٍ -رضي الله عنه- قال: سمِعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «مَن لقِيَ اللهَ لا يُشرِكُ به شيئًا دخلَ الجنَّة، ومَن لقِيَه يُشرِكُ به دخلَ النَّار» (رواه مسلم).
وفي مُحكَم التنزيل: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ [المائدة: 72].
وبالتوحيدِ تُغفَرُ الخطايا والسيئات؛ ففي “سنن الترمذي” أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «قال الله – تبارك وتعالى -: يا ابنَ آدم! إنَّك لو أتَيتَني بقُرابِ الأرضِ خطايا، ثم لقِيتَنِي لا تُشرِكُ بي شيئًا، لأتَيتُك بقُرابِها مغفِرَة».
أمة الإسلام: وكما أمرَ الله تعالى بإخلاصِ العبادة له وحدَه، فإنه أمرَ بالإحسان إلى عبادِه، وتعظيمِ حُرُماتهم، والقِيام بحُقوقِهم، والرَّحمةِ والرِّفقِ بهم.
ففي حجَّة الوداع وجَّهَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الفارُوقَ بقولِه: «يا عُمر! إنَّك رجُلٌ قوِيٌّ، لا تُزاحِم على الحجَر فتُؤذِيَ الضَّعيفَ، إن وجَدت خَلوةً فاستَلِمه، وإلا فاستَقبِله فهلِّل وكبِّر» (رواه الإمام أحمد).
توجيهٌ نبويٌّ كريمٌ لعُموم المُؤمنين بأن يتحلَّوا بالرِّفقِ والرَّحمةِ، واللِّين والرَّأفَة، خاصَّةً في مثلِ هذه المواسِمِ التي يكثُرُ فيها الناسُ، ويحصُلُ فيها الزِّحام، فلا يكُن أحدُهم سببًا في إلحاقِ الأذَى بإخوانِه.
ولنعلَم – معاشِر المُؤمنين – أن تحصيلَ الأجر في النُّسُك لا يبلُغُ الكمال إلا بالرِّفقِ واللِّين؛ لأن الله تعالى يُعطِي على الرِّفقِ ما لا يُعطِي على العُنفِ.
ففي “صحيح مسلم” عن عائشة زوجِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «يا عائشة! إن الله رفِيقٌ يُحبُّ الرِّفقَ، ويُعطِي على الرِّفقِ ما لا يُعطِي على العُنفِ، وما لا يُعطِي على ما سِواه».
قال الإمامُ النوويُّ – رحمه الله -: “ومعنى «يُعطِي على الرِّفقِ» أي: يُثيبُ عليه ما لا يُثيبُ على غيرِه”.
ولقد تمثَّل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أعظمَ معانِي التيسيرِ والرَّحمةِ في مقالِه وحالِه؛ ففي حجَّة الوداع مِن حديث جابرٍ – رضي الله عنه وأرضاه -، أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «نحَرتُ ههنا، ومِنَى كلُّها منحَر، فانحَرُوا في رِحالِكم، ووقفتُ ههنا وعرفةُ كلُّها موقِف، ووقفتُ ههنا وجَمعٌ كلُّها موقِف» (رواه مسلم).
وفي يوم العِيدِ الأكبَر ما سُئِلَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيءٍ قُدِّمَ ولا أُخِّر، إلا قال: «افعَل ولا حرَج».
فجاءَه رجُلٌ فقال: لم أشعُر، فحَلقتُ قبلَ أن أذبَح، قال: «اذبَح ولا حرَج»، فجاءَه آخرُ فقال: لم أشعُر، فنَحَرتُ قبل أن أرمِي، قال: «ارمِ ولا حرَج»، فما سُئِلَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-، عن شيءٍ قُدِّم ولا أُخِّر إلا قال: «افعَل ولا حرَج»؛ حديثٌ مُتَّفقٌ على صحَّتِه.
ومِن صُور رِفقِه وجَميلِ خُلُقِه -صلى الله عليه وسلم-: لما بدأَ بالسعيِ في حجَّة الوداع ووصلَ إلى المروة، تنادَى الناسُ: أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجِدِ الحرامِ، فجاءُوا مِن كل حدَبٍ وصَوبٍ، حتى خرجَ العواتِقُ مِن البُيُوت كلُّهم يُريدُون النَّظرَ إلى وجهِهِ المُبارَك، فلما ازدَحَمُوا عليه، وكان -صلى الله عليه وسلم- كريمًا سَهلًا، لا يُضرَبُ الناسُ بين يدَيه، أمرَ براحِلَتِه فركِبَها حتى يرَوه كلُّهم؛ شفقَةً عليهم، ورأفةً ورحمةً بهم، فأتمَّ سَعيَه راكِبًا – بأبي هو وأمِّي -صلى الله عليه وسلم-.
وأما تحقِيقُ الأُخُوَّة الدينيَّة والرابِطة الإيمانيَّة فهي تتجلَّى في الحجِّ بأبهَى صُورِها، وأجمَل حُلَلها؛ فالحَجِيجُ يطُوفُون ببيتِ الله، ويجتمِعُون على صَعِيد عرفة، ويبيتُون بمُزدلِفة؛ فمعبُودُهم واحِد، وأعمالُهم واحِدة، ولِباسُهم واحِد، وقِبلتُهم واحِدة.
وفي حجَّة الوداع لما انقضَت ساعاتُ نهارِ يوم عرفَة، ورسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في ذِكرٍ وخُشُوعٍ، ولهَجٍ بالدُّعاء وخُضُوع.
حتى إذا تناهَى النهار، وحانَت ساعةُ النَّفْرَة دعَا بأُسامة بن زيدٍ – رضي الله عنه وأرضاه – ليكون رِدفَه على النَّاقَة، فتنادَى الناسُ يدعُون أُسامةَ، وظنَّ بعضُ حُدثَاء العهدِ بالإسلام أن أُسامةَ – رضي الله عنه وأرضاه – رجُلًا مِن وُجَهاء العربِ، فما فجأَهم إلا وشابٌّ أسوَد أفطَسُ أجعَد يتوثَّبُ ناقَةَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-؛ ليكون مِن بينِ أهلِ الموقِفِ كلِّهم له شرَفُ الارتِدافِ مع النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-.
وكأنَّما كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بهذا الاختِيار يُعلِنُ تحطيمَ الفوارِقِ بين البشَر، ويدفِنُ تحت مواطِئِ راحِلَته نعراتِ الجاهِليَّة الأُولى؛ ليُعلِنَ بطريقةٍ عمليَّةٍ أنه لا فضلَ لعربيٍّ على أعجميٍّ، ولا أبيضَ على أسوَد إلا بالتقوَى، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13].
ومِن مقاصِدِ الحجِّ الكُبرَى: إقامةُ ذِكرِ الله – عزَّ وجل -، بل كلُّ طاعةٍ إنما شُرِعَت لإقامةِ ذِكرِ الله، فأعظمُ الناسِ أجرًا أكثَرُهم فيها لله ذِكرًا.
قال ابنُ القيِّم – رحمه الله -: “إن أفضلَ أهل كلِّ عملٍ أكثَرُهم فِيه ذِكرًا لله – عزَّ وجل -؛ فأفضلُ الصُّوَّام أكثَرُهم ذِكرًا لله – عزَّ وجل – في صِومِهم، وأفضلُ المُتصدِّقِين أكثَرُهم ذِكرًا لله – عزَّ وجل -، وأفضلُ الحُجَّاج أكثَرُهم ذِكرًا لله – عزَّ وجل –“.
فمِن حِين أن يُحرِمَ الحاجُّ فهو في ذِكرٍ لله –تعالى- إلى أن يطُوفَ طوافَ الوداع.
ففي “سنن أبي داود” مِن حديث عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنما جُعِل الطوافُ بالبيتِ وبين الصفا والمروة، ورميُ الجِمار لإقامةِ ذِكرِ الله».
وهكذا هو الحجُّ – يا عباد الله -، أيامٌ وليالٍ معدُودات يُبدَأُ فِيها بذِكرِ الله، وتُختَمُ بذِكرِ الله، فلا مجالَ فيها لغَير ذلك مِن الشِّعارات الطائِفِيَّة، والتحزُّبات السياسيَّة، إنما هو إخلاصٌ وتوحيدٌ، وإعلاءٌ لذِكرِ العزيز الحميد، ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ(202)﴾ [البقرة: 200- 202].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ اللهَ لي ولكم مِن كل ذنبٍ، فاستغفِروه؛ إنه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله، الحمدُ لله على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وامتِنانِه، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّه الداعِي إلى رِضوانِه، وعلى آلِهِ وأصحابِه وإخوانِه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ .. معاشر المُؤمنين: إن مِن أعظَم مقاصِدِ الشريعَة: اليُسرَ والتيسيرَ على عبادِ الله، خاصَّةً فيما يتعلَّقُ بعبادتِهم، وهذا مِن حِكَم بِعثة النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-.
قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: 157].
وبِناءً على هذا؛ فإن تيسيرَ الحجِّ على المُسلمين وخِدمةَ ضُيُوفِ ربِّ العالَمين يُعدُّ مِن أعظَم مقاصِدِ الشريعَة، وقد شرَّفَ الله تعالى بِه بلادَ الحرمَين المملكة العربية السعودية، باستِقبال ضُيُوفِه وعُمَّار بيتِه، فبذَلُوا الغالِيَ والنَّفيسَ في سبيلِ راحةِ حُجَّاج بيتِ الله الحرام، وزائِرِي مسجِدِ رسولِه -صلى الله عليه وسلم-.
ولقد أثنَى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على بنِي عُمومتِه حين رآهم يعمَلُون على سَقْيِ الحُجَّاج مِن بِئرِ زمزَم، فقال: «اعمَلُوا؛ فإنَّكُم على عملٍ صالِحٍ، ولولا أن تُغلَبُوا لنزَلتُ حتى أضَعَ الحَبلَ على هذه – يعني: عاتِقَه -» وأشارَ إلى عاتِقِه -صلى الله عليه وسلم- (رواه البخاري).
وإن رِعايةَ الحُجَّاج والمُعتمِرين والزائِرِين، والقِيامَ على أمنِهم، وحِمايةَ مصالِحِهم، وتيسيرَ سُبُل الخيرِ لهم، خاصَّةً في هذه الأيام المُبارَكة مِن الأعمال الصالِحة الجَلِيلَة التي اجتمَعَ فيها فضلُ الزمانِ والمكانِ.
وإذا كان الدالُّ على الخَير كفاعِلِه، فكيف بالمُعِينِ عليه، والمُسهِّل لأسبابِه؟!
فشكَرَ الله لوُلاةِ أمرِ هذه البلاد، ولكل العامِلِين في خِدمة حُجَّاج بيتِ الله الحرام، ولرِجالِ أمنِنا، وللمُرابِطِين على ثُغور بلادِنا، لكُم مِنَّا خالِصُ الدعاء أن يُبارِكَ اللهُ في جُهودِكم، ويحفَظَكم مِن بين أيدِيكم ومِن خلفِكم، ونرجُو اللهَ تعالى أن تشملَكم بُشرَى رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، بقولِه: «عينَان لا تمسُّهما النَّار: عينٌ بكَت مِن خشيَةِ الله، وعينٌ باتَت تحرُسُ في سبيلِ الله» (رواه الترمذي في “سننه”).
فطُوبَى لكل عينٍ سهِرَت لأجلِ راحةِ ضُيُوفِ الرحمن، وطُوبَى لكل عينٍ باتَت تحرُسُ الثُّغور لحفظِ الأمنِ وردِّ العُدوان، وهنيئًا لكُم هذه الخيرات والبركات، ومُبارَكٌ عليكم هذه الفضائل والحسنات.
ثم اعلَمُوا – معاشِرَ المُؤمنين – أن الله أمرَكم بأمرٍ كريمٍ، ابتَدَأَ فيه بنفسِه فقال – عزَّ مِن قائِلٍ -: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارِك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما بارَكتَ على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد.
وارضَ اللهم عن الخُلفاء الراشِدِين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائِرِ الصحابةِ والتابِعِين، ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوِك وكرمِك وجُودِك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشرِكين، واحمِ حَوزةَ الدين، واجعَل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا، رخاءً سخاءً، وسائرَ بلادِ المُسلمين.
اللهم يا حيُّ يا قيُّوم، برحمتِك نستغِيثُ، أصلِح لنا شأنَنا كلَّه، ولا تكِلنا إلى أنفُسِنا طرفَةَ عينٍ.
اللهم فرِّج همَّ المهمُومين مِن المُسلمين، ونفِّس كَربَ المكرُوبِين، واقضِ الدَّينَ عن المَدِينِين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين.
اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكانٍ برحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصُر إخوانَنا المُستضعَفين في فلسطين، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم أنقِذِ المسجِدَ الأقصَى مِن ظُلم الظالِمين، وعُدوان المُحتلِّين.
اللهم يا حيُّ يا قيُّوم وفِّق وليَّ أمرِنا خادمَ الحرمَين الشريفَين لما تُحبُّ وترضَى، وخُذ بناصِيَته للبِرِّ والتقوَى، اللهم وفِّقه ونائِبَه وأعوانَه لِما فِيه صلاحُ العبادِ والبلادِ، اللهم وفِّق جميعَ وُلاةِ أمور المسلمين لتحكيمِ كتابِك، واتِّباع سُنَّة نبيِّك -صلى الله عليه وسلم-، واجعَلهم رحمةً على عبادِك المُؤمنين.
اللهم ثقِّل بالحسنات موازِينَ كل مَن خدَمَ حُجَّاج بيتِك الحرام، وبارِك له في عملِه، وارضَ عنه يا ربَّ العالَمين.
اللهم اغفِر ذنوبَنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورَنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالَنا.
اللهم وفِّق حُجَّاجَ بيتِك الحرام، وتقبَّل مِنهم حجَّهم وسائِرَ أعمالِهم، اللهم رُدَّهم إلى أهلِيهم سالِمين غانِمين برحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصُر جنودَنا المُرابِطين على حُدودِ بلادِنا، اللهم انصُرهم على عدوِّك وعدوِّهم يا قويُّ يا عزيزُ، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انشُر الأمنَ والرخاءَ في بلادِنا وبلادِ المُسلمين، واكفِنا شرَّ الأشرار، وكَيدَ الفُجَّار، وشرَّ طوارِقِ الليل والنهار برحمتِك يا أرحم الراحمين.
سُبحان ربِّك ربِّ العزَّة عما يصِفُون، وسلامٌ على المُرسَلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.