عناصر الخطبة
- ذم عدم التأثر بالنصح والمواعظ
- العلاقة بين الإيمان والخشوع
- تفاوت الناس في درجات الإيمان
- نماذج من خشوع السلف رضي الله عنهم
- وسائل معينة على تحصيل الخشوع
اقتباس وهكذا يقتل الإنسان كبرياء النفس وانتفاخها وغرورها، ثم هو في أثناء ذلك يخاطب ربه ويناجيه، ويحمده ويشكره، ويدعوه ويستعينه، ويستهديه ويستغفره، ويسبحه ويوحده، يعي كل ذلك بقلبه ويتدبره، فمثل هذه الصلاة بهذه المشاعر يخرج الفرد منها بزاد من الأنس بالله، والطمأنينة إليه، والراحة في كنفه.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾ [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: اعلموا أن من الأمور الرذيلة أن يقول الإنسان: آمنت؛ ثم لا يعمل بمقتضيات هذا الإيمان، ولا ينفعل به، ويسمع الموعظة أو النصيحة ولا يتأثر أو يتغير بها، فقد أصبح من الأمور المألوفة والمعتادة أن نسمع المواعظ والأحكام والأخلاق والآداب والنصائح ثم لا نتغير تبعًا لها، وهذه كارثة، هذه –والله- مصيبة ما عرفها صدر هذه الأمة، نعم، أليست هذه مصيبة أن يفعل الرجل الخطأ مع علمه بأن ما يفعله خطأ أو حرام؟! ومع ذلك لا يتردد في الإقدام عليه، وقد يسمع النصيحة والموعظة وقلبه كالجماد، وكأن ما يقال له مُزاح أو تسلية.
إن الإيمان -أيها المسلمون- ليس مجرد كلمة تقال باللسان، أو معرفة في الذهن البارد الميت ثم ينتهي الأمر، وإنما الإيمان أعمال واقعية، وتأثرات قلبية عظيمة، وانفعالات نفسية عميقة، ومن يتدبر القرآن الكريم يدرك جيدًا كيف ربط الله -عز وجل- الإيمان بأعمال واقعية كثيرة، وتغيرات نفسية عظيمة، وخشوع ورهبة قلبية. والأمثلة على ذلك كثيرة؛ فمنها قوله تعالى:
(1) ﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور:47]، فهنا يعرفنا -عز وجل- أنه لا إيمان إذا لم تحدث طاعة الله والرسول -صلى الله عليه وسلم-.
(2) وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا﴾ [النساء:60]، فهنا يعرفنا أن الإيمان يعني التحاكم إلى شريعة الله، والكفر بالشرائع الأخرى.
(3) وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا(4)﴾ [الأنفال: 2ـ 4] فهنا يجعل الإيمان وَجَل القلب لذكر الله، والتوكل على الله، والصلاة، والإنفاق في سبيل الله.
(4) وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات:15]، فهنا جعل الإيمان الثبات واليقين والجهاد بالمال والنفس في سبيل الله.
(5) وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ [النساء: 59]، فجعل الإيمان في الرجوع عند التنازع إلى الكتاب والسنة.
(6) وقوله تعالى: ﴿فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 175]، وقوله: ﴿فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: 13]، فهنا جعل الإيمان في الخوف من الله وحده دون سواه.
(7) وقوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) [المؤمنون: 1ـ 5]… إلى آخر الآيات. فهكذا عرف الله المؤمنين، وهكذا يكون الإيمان، خشوع في الصلاة، وابتعاد عن اللغو، حفظ للفرج، رعاية الأمانة والعهود، وغير ذلك من أعمال القلب والجوارح.
(8) وقوله تعالى: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [المجادلة: 22]، فجعل الإيمان ولاءً وحبًّا لله ولأهل طاعته، وعداءً وبغضًا لأهل معصيته وأعداء دينه.
وهذه أمور لا يغفل عنها إلا مفتون مغرور، يظن الأمر عبثًا، ويحسب أن الإيمان كلمة يقولها، أو معرفة نظرية يتشدق بها، ثم يحيا عمره بعيدًا عن حقيقة الإيمان وأعمال الإيمان ومقتضياته، التي ذكرنا بعض أمثلة منها في الآيات السابقة.
وهنا نسأل أنفسنا: ما مدى تحققنا بهذا الإيمان الذي نريد أن نكون من أهله؟! ما مدى انفعال أنفسنا وقلوبنا به؟! وما مدى اصطباغ حياتنا بصبغته؟!
هل منحنا هذا الإيمان القوة القلبية، والشجاعة والجرأة والإقدام حتى أصبحنا لا نهاب ولا نخاف إلا الله؟! أم أن القلب تتعاوره مشاعر الخوف من المخلوقين أيًّا كانوا؟!
وهل منحنا هذا الإيمان الشعور بالعزة والعلو، وإن كنا نواجه من يملكون المال والجاه والقوة والسلاح والسلطان؟! وأين نحن من قوله تعالى: ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:139].
وهل منحنا هذا الإيمان طاعة الله ورسوله دون تردد، والرجوع إلى الكتاب والسنة عند التنازع؟!
وهل منحنا هذا الإيمان الشدة والغلظة على الكافرين والفاسقين والمعاندين، واللين والرحمة والوداد لإخواننا المؤمنين؟! وهل اطمأن في قلوبنا ضرورة صرف الولاء الكامل لله ورسوله وعبيده المؤمنين المجاهدين؟! وضرورة العداوة والبغضاء والبراءة من الكافرين، ومن يوالون الكافرين؟!
وهل منحنا الإيمان وَجَل القلب والنفس وخوفها من بارئها، ورجوعها إلى الحق إذا ما نصحت ووعظت وذُكِّرت بكلام مبدعها وموجدها؟! وهل منحنا هذا الإيمان خشوع النفس وإخباتها لخالقها المطلع على دخائلها ومكنوناتها؟! وهل يصنِّف المرء منا نفسه في عداد من قال الله فيهم: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الأنفال: 2]؟!
وهل منحنا هذا الإيمان التشوق إلى الجنة وإلى لقاء الله والرغبة في التضحية ببذل النفس وبيع الدنيا من أجل الله؟! وهل نحن من الذين قال الله فيهم: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 207]، أو قال فيهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ [التوبة: 111]؟! أم من الذين قال الله فيهم: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [الأعلى:16]، أو الذين قال الله فيهم: ﴿وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَر﴾ [التوبة: 81]، أو الذين قال الله فيهم: ﴿لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ [آل عمران: 156]؟! أين نصنِّف أنفسنا؟! وماذا منحنا الإيمان؟!
هل نحن من أهل قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ(2)﴾ [المؤمنون: 1، 2]؟! سؤال خطير: كيف يكون حال إيماننا إذا كنا نفعل طاعات لا نتلذذ بها؟! إذا كنا نصلي صلوات لا نتأثر بها؟! ونردد أذكارً أو أورادًا لا ننفعل ولا تتحرك قلوبنا لها؟! ونسمع نصائح ومواعظ وأحكامًا لا ننقاد ولا ننصاع لها؟! كيف يكون حال إيماننا إذا كان أحدنا حين يصلي لا ينتبه لنفسه ماذا يفعل إلا حين يسلم، فحينئذ يتذكر أنه كان في صلاة؟! فيا لخيبة الأمل!! ويا لضياع الثمرة!!
تساؤلات كثيرة وخطيرة ينبغي أن نطرحها على أنفسنا بجدية وصدق، ولا شك أن الإجابة ليست بـ﴿نعم﴾ أو ﴿لا﴾، بل هي تختلف ما بين فرد وآخر، وإنا لنجزم -بإذن الله- أن في المسلمين الصادقين من يُذكِّر حاله بحال سلف هذه الأمة، سواء في الورع والزهد والتعبد، أم في العلم والتعلم، أم في الاستعداد للجهاد والتضحية والفداء، كما أن فيهم من هو دون ذلك بكثير.
وإنا لنرجو أن يشملنا الله -عز وجل- في هؤلاء وأولئك بعميم رحمته، وأن يرفعنا بالقرآن العظيم إلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين.
ولا شك أن تفاوت الناس في درجات الإيمان والعمل الصالح أمر واقع لا جدال فيه، وليس مرده إلى التفاوت في العلم والمعرفة فحسب، هنالك ذلك السبب العظيم، وهو التفاوت في أحوال القلوب، ومدى استجابتها لحقائق الإيمان وتأثرها بها.
ولذلك كانت الجنة مائة درجة، وكان بين أهل هذه الدرجات من التفاوت ما وصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق، من المشرق أو المغرب؛ لتفاضل ما بينهم". قالوا: يا رسول الله: تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟! قال: "بلى -والذي نفسي بيده- رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين" [رواه البخاري في مواضع من صحيحه, ومسلم وغيرهما].
وكما أن الجنة درجات بعضها فوق بعض، فالنار دركات بعضها أسفل بعض -نعوذ بالله منها- وهذا ما يدعو كُلاًّ منا إلى الجد والتشمير للترقي الدائم في درجات الإيمان التي تهيئ لدرجات الجنة، وعدم الرضا بالحال التي هو عليها، فإن الساعة التي يقنع فيها الإنسان بما هو عليه، هي الساعة التي ينتهي فيها، حيث يلقي سلاحه، فلا يجاهد للرقي والصعود إلى ما هو أحسن من حاله، فإذا به يجد نفسه تلقائيًّا دون أن يشعر يأخذ في الهبوط والتردي، ويسوء حاله في كل يوم عن سابقه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فهو كإنسان ألقى سلاحه وجنته في وقت كان أعداؤه يتربصون به، فلما رأوه أعزل من كل سلاح احتوشوه واجترؤوا عليه، وما زالوا به حتى غادروه صريعًا يتخبط في دمه، فالمؤمن في حاجة إلى الإيمان والتزود منه ما دامت روحه في جسده، وهو أشد ما يكون حاجة إليه: ﴿إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ(29)﴾ [القيامة: 26-29]. نسأل الله -سبحانه وتعالى- حسن الخاتمة.
وإذا علمنا أن أعظم أسباب تفاوت الناس في الإيمان هو تفاوتهم في أحوال القلوب، وجب علينا أن نتفقد هذه الأحوال ونتعرفها، ونعرف كيف السبيل لإصلاح القلب، وبصلاحه يأتي كل صلاح كما قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب". [البخاري، كتاب الإيمان (39), مسلم، كتاب المساقاة (107)].
ونتناول فيما بقي لنا من وقت وصفة عظيمة للقلب، ألا وهي الخشوع، فهو أعظم أعمال القلب، وأهم أبواب الدين؛ وذلك أنه إذا انكسر هذا الباب تعرض الدين للفساد شيئًا فشيئًا، وإذا ظل هذا الباب قويًّا محكمًا ظل دين الرجل محفوظًا سالـمًا؛ ولذا قال حذيفة -رضي الله عنه-: "أول ما تفقدون من دينكم الخشوع"، وهو -أي الخشوع- سمة أو صفة ناتجة عن الشعور بالذل والانكسار والضعف والمسكنة بين يدي الواحد القهار؛ بحيث يصبح المرء لا يجرؤ على تعدي حدود الله، ويستشعر من يخالطه السكينة والصفاء والوداعة ولين الجانب والانكسار، حتى لا يملك نفسه أن يقول: فلان يخشى الله ويخافه. وهذا كله أثر من آثار حياة العقيدة في القلب وتوهجها وإشراقها.
وكان أوائل هذه الأمة يعدون الخشوع عِلمًا يطلب، ويجهد في سبيل تحصيله؛ لأن العلم والفقه عندهم لم يكن المعرفة المجردة، بل كان التأثر بهذا العلم وحياة القلب به ثم العمل والدعوة والجهاد، وكل ذلك عندهم كان داخلاً في صميم العلم، فلا يسمون الرجل عالمًا حتى يتحلى بكل ذلك، ولهم في ذلك آثار وأقوال مروية مشهورة:
يقول حذيفة -رضي الله عنه-: بحسب المرء من العمل أن يخشى الله، وبحسبه من الكذب أن يقول: أستغفر الله ثم يعود.
وعن مسروق قال: بحسب المرء من الجهل أن يعجب بعلمه، وبحسبه من العلم أن يخشى الله. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار بالله جهلاً.
ثم تأملوا قول الله -عز وجل- يصف المؤمنين، فيجعل الخشوع أول صفاتهم قبل صفات أخرى كثيرة، فيقول -عز وجل-: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ(2)﴾ [النور: 1، 2]، وتدبروا معنى الآية حيث لم يقل: الذين يصلون، وإنما قال: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾، فالصفة الأولى التي وصف بها المؤمنين هنا هي صفة الخشوع، ثم ربط بذلك الفلاح والفوز والنجاة، والخشوع ليس صفة عارضة في الصلاة، ولكنها حين تتحقق في رجل تكون صفة عامة دائمة له، وإنما ذكرها الله في الصلاة؛ لأنها أولى الأوقات بالخشوع وبأكبر قدر منه ويتأكد فيها؛ ولذا كان خشوعه -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في الصلاة عظيمًا.
كما وصف الله بعض عباده المؤمنين بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا(109)﴾ [الإسراء: 107 ـ 109].
عبد الله بن الشخير -رضي الله عنه- قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء.
وعن مجاهد قال: كان ابن الزبير إذا قام في الصلاة كأنه وتد.
وعن يزيد بن حيان قال: إن كان عنبس بن عقبة ليسجد حتى إن العصافير ليقعن على ظهره وينزلن، ما يحسبنه إلا جذم حائط.
وعن يحيى بن أبي وثاب أنه كان إذا صلى كأنه يخاطب رجلاً من إقباله على صلاته، وكان إذا قضى صلاته مكث ساعة تعرف فيه أثر الصلاة.
وكان أبو طلحة مقبلاً على صلاته، فإذا طائر يدخل في بستان، ثم لا يجد الطريق للخروج، ويميل إليه قلب أبي طلحة، فلما انصرف من صلاته تصدق بهذا البستان كفارة انشغال قلبه عن الصلاة. رحم الله صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأعاننا على الثبات على طريقهم، وأماتنا على نهجهم وما كانوا عليه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الطريق إلى تحقيق الخشوع يبدأ من الخشوع في الصلاة، وإذا لم يتحقق الخشوع في الصلاة فنحن أعجز عن أن نكون خاشعين في خارج الصلاة، وبداية الطريق والأيسر أن نحاول الخشوع في الصلاة؛ فإن الصلاة لحظات عبادة يقف فيها العبد متمثلاً ضعفه عن كل شيء، مستصغرًا نفسه، عالمًا بعجزها وجهلها وفقرها بين يدي الرب الذي يعرفه بصفات الكمال ونعوت الجلال، حين يقف العبد ساكنًا مطرقًا، واضعًا إحدى يديه على الأخرى على صدره، هيئة الضعيف الذليل، ثم حين يحني ظهره لله، ثم حين يضع أشرف ما فيه على الأرض، ويعفر أنفه وجبهته بالتراب.
وهكذا يقتل الإنسان كبرياء النفس وانتفاخها وغرورها، ثم هو في أثناء ذلك يخاطب ربه ويناجيه، ويحمده ويشكره، ويدعوه ويستعينه، ويستهديه ويستغفره، ويسبحه ويوحده، يعي كل ذلك بقلبه ويتدبره، فمثل هذه الصلاة بهذه المشاعر يخرج الفرد منها بزاد من الأنس بالله، والطمأنينة إليه، والراحة في كنفه سبحانه، بعيدًا عن متاعب الدنيا ومشاغلها، بل وحتى هموم الاشتغال بدعوة الناس إلى الله، وما يلقاه الإنسان في هذا السبيل، وبذلك تجدد الصلاة للمسلم من عزيمته، وتبعث ما فتر من همته؛ ولذلك خاطب الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ(8)﴾ [الشرح: 7، 8]، قال زيد بن أسلم والضحاك: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ﴾ أي من الجهاد ﴿فَانْصَبْ﴾ أي في العبادة، ولذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "وجعلت قرة عيني في الصلاة".
وقال رجل من خزاعة يومًا: ليتني صليت فاسترحت. فكأن الصحابة رضوان الله عليهم عابوا عليه ذلك، فقال له أحدهم: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أقم الصلاة يا بلال، أرحنا بها…". فالإنسان لا يصلي ليستريح من الصلاة، وإنما يصلي ليستريح بالصلاة ويستعين بها، ولذلك لم توضع الصلاة عن المسلمين حتى حال الخوف في معمعة القتال؛ وذلك لأن الحاجة هنالك أكثر لطمأنينة القلب وراحته، وللعون على نصب القتال ومخاوفه.
أيها المسلمون: ومن الوسائل التي تعين المرء على الخشوع والسبل التي يجب أن يسلكها لتحصيله:
أولاً: حفظ القلب من الإرادات والخطرات والشهوات والشبهات؛ وذلك بشغل النفس في التفكر في آيات الله المنزلة، وآياته المشهورة المبثوثة في كل مكان، ونعمه وآلائه التي لا تنقطع، وفي واجب الوقت ووظيفته وضرورة حفظه، وفي عيوب النفس وآفاتها، والاهتمام الكبير والانشغال بها قبل عيوب الغير، فإنه لا يمكن أن ترى الرجل الذي يعيب في الناس وينسى عيوب نفسه خاشعًا، وفي المقابل لا تجد رجلاً خاشعًا إلا وهو قد انشغل بنفسه وعيوبها، والأول يظن نفسه أفضل الناس، فتصيبه الفظاظة والكبر، والآخر يظن نفسه أقل الناس، فتدركه الرأفة والخشوع.
ثانيًا: الإكثار من الطاعات والقربات، كالصلاة وقراءة القرآن والذكر والدعاء، مع الإلحاح والتذلل والصدقة والصيام والحج والعمرة… وغيرها.
ثالثًا: محاولة تحصيل الخشوع في الصلاة، ومن الأسباب الميسرة لذلك أن يتدبر الإنسان ما يقوله فيها، وأن يؤديها في جماعة، وأن يبكر إليها، وأن يطيلها إن كان منفردًا، وأن يتعرف على سننها ويطبقها، خاصة السنن المهجورة، كتنويع أدعية الاستفتاح، وتنويع السور التي يقرؤها، وأن يطيل القراءة أحيانًا. فالذي يجمد على بعض قصار السور ولا يتعداها تتحول الصلاة معه مع الزمن إلى عادة.
كذلك الاهتمام بأمر السترة والدنو إليها حتى لا ينشغل بما يخطف بصره، وأن يهتم بحفظ الجوارح من العبث وبصره للأرض، كذلك تعقيب الصلاة بالذكر والاستغفار، وإن اعترضه شيطان في صلاته يلبس عليه ويشغله فليستعذ بالله منه.
فهذه بعض أمور مما يعين الإنسان على الخشوع في صلاته، إلى جانب الوسائل الأخرى لتحقيق الخشوع في حياة الإنسان، لعلنا نجد في تحصيله، فإن الخشوع منزلته عظيمة، حتى إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قرنه بالقتال في سبيل الله فقال: "لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم".
وقال -عز وجل-: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ(23)﴾ [الزمر: 22، 23]. فالخشية راسخة في قلوب المؤمنين الصادقين، فإذا سمعوا الذكر تحركت له القلوب، فاقشعرت الجلود وبكت العيون.
إن افتقاد الخشوع هو الداء الذي حذّر الله منه الأمة، ودعاهم لتدارك أنفسهم حتى لا تقسو قلوبهم؛ فقال -عز وجل-: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد: 16]، ثم أحيا الأمل في النفوس فقال: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الحديد: 17]، فكما يحيي الله الأرض الميتة بالماء فتهتز وتربو، فهو القادر سبحانه على إحياء مَوات القلوب، فهلموا إلى القرآن والذكر والتوبة والاستغفار، اللهم ارزقنا قلبًا خاشعًا، وإيمانًا صادقًا، وعملاً صالحًا، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، واجعل خير أعمارنا أواخرها، واجعل خير أيامنا يوم لقائك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.