عناصر الخطبة
- مكانة التوحيد ومنزلته
- فضائل التوحيد وثمراته
- أصناف الناس في تحقيق التوحيد
- تنبيهات مهمة عن التوحيد والشرك
- بعض مسائل التوحيد التي غفل عنها الناس
اقتباس من فضائل التوحيد: أنه إذا تم وكمل في القلب، وتحقق تحققاً كاملاً بالإخلاص التام، فإنه يصير القليل من عمله كثيراً، وتضاعف أعماله وأقواله بغير حصر ولا حساب، وترجح كلمة الإخلاص في ميزان العبد بحيث لا تقابلها السموات والأرض. ومن فضائله: أن الله تكفل لأهله بالفتح والنصر في الدنيا، ويمن عليهم بعد ذلك بالحياة الطيبة، والطمأنينة إليه، والطمأنينة بذكره، وشواهد هذه الفضائل في…
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، وصيته للأولين والآخرين.
ومن أعظم ما يتقى الله به: إقامة التوحيد، واجتناب الشرك.
فالتوحيد أعظم الطاعات وأجلها عند الله، وأهله هم أهل الله وخاصته، وأحسن الناس مقاماً عنده.
والشرك هو أقبح ذنب عصي الله به، وأخزى الذنوب وأسوأها مآلاً يوم القيامة، وأهله هم أبعد الناس من الله منزلة يوم القيامة.
والتوحيد هو عمود الإسلام ورايته، وهو لب الرسالات السماوية كلها، ولقد كان الناس منذ آدم -عليه السلام- أول الأنبياء على التوحيد عشرة قرون، حتى حدث الشرك في قوم نوح، فأرسله الله إليهم.
وهكذا توالت من بعده الرسل في إقامة صرح التوحيد في أممهم، فما من رسول إلا وينذر قومه، ويحذرهم الشرك بالله، ويدعوهم إلى التوحيد؛ لأنهم عليهم الصلاة والسلام علموا أنه لا يصلح عمل مهما كان كثيراً إلا بالتوحيد، ولن يصل أحدٌ إلى رضى الله ورضوانه إلا بالتوحيد.
ولقد بعث نبينا محمد خاتم الأنبياء والرسل، فكان أول ما دعا إليه التوحيد، وأول ما حذر منه الشرك بالله.
فالتوحيد -عباد الله-: أساس الدين وعموده الذي لا يقوم إلا به، ولما له من هذه المكانة العظيمة كانت ثمراته جليلة، ومما يدعو إلى معرفة مكانة التوحيد، وتعظيمه في القلوب، هو: التعرف على ثمراته وفضائله.
فمن فضائله وأعظمها: أنه السبب الوحيد لنيل رضا الله وثوابه وأن أسعد الناس بشفاعة محمد من قال: "لا إله إلا الله" خالصاً من قلبه.
ومن أعظم فضائله: أن جميع الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة متوقفة في قبولها وفي كمالها، وفي ترتب الثواب عليها على التوحيد، فكلما قوى التوحيد والإخلاص لله كملت هذه الأمور وسمت.
ومن فضائله أيضاً: أنه يمنع الخلود في النار إذا كان في القلب منه أدنى مثقال حبة خردل، وأنه إذا كمل في القلب يمنع دخول النار بالكلية.
ومن فضائله: أنه يحصل لصاحبه الهدى الكامل والأمن التام في الدنيا والآخرة.
ومنها أيضاً: أنه يسهل على العبد فعل الخير، وترك المنكرات، ويسليه عن المصيبات.
فالمخلص لله في إيمانه وتوحيده تخف عليه الطاعات، لما يرجو من ثواب ربه ورضوانه، ويهون عليه ترك ما تهواه نفسه من المعاصي، لما يخشى من سخطه وعقابه.
ومن أعظم فضائله: أنه يحرر العبد من رق المخلوقين، والتعلق بهم، وخوفهم ورجائهم، والعمل لأجلهم.
وهذا هو العز الحقيقي، والشرف العالي، ويكون مع ذلك متألها لله، لا يرجو سواه، ولا يخشى إلا إياه، ولا ينيب إلا إليه، وبذلك يتم فلاحه، ويتحقق نجاحه.
ومن فضائله التي لا يلحقه فيها شيء: أن التوحيد إذا تم وكمل في القلب، وتحقق تحققاً كاملاً بالإخلاص التام، فإنه يصير القليل من عمله كثيراً، وتضاعف أعماله وأقواله بغير حصر ولا حساب، وترجح كلمة الإخلاص في ميزان العبد بحيث لا تقابلها السموات والأرض.
ومن فضائله: أن الله تكفل لأهله بالفتح والنصر في الدنيا، ويمن عليهم بعد ذلك بالحياة الطيبة، والطمأنينة إليه، والطمأنينة بذكره، وشواهد هذه الفضائل في الكتاب والسنة كثيرة معروفة.
عباد الله: إن أمراً هذا شأنه، وهذه ثمراته وفضائله، وهذا عظيم خطره، لحري بالعبد المسلم أن يحرص على التمسك به، والسؤال عنه، وتعلمه وتعليمه، والدعوة إليه.
والناس في شأن التوحيد أصناف وطوائف، فطائفة قامت بالتوحيد، وأعلت شأنه، في نفوسها، وأقامت به جميع أعمالها، وخلصته من جميع الشوائب، وتعلمته ودعت إليه، فهؤلاء هم الطائفة المنصورة.
وطائفة أخرى من أهل التوحيد والإسلام، لكنها خلطت توحيدها بشوائب تخل به، وتنفي كماله، كما قال تعالى: ﴿خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا﴾[التوبة: 102].
وسبب هذا الخلط هو قلة الاهتمام به، تعلماً وتعليماً ودعوة.
وطائفة ثالثة: كثيرون ابتلوا بالجهل بالتوحيد، فضاعت عندهم حدوده ورسومه، وانصرفت قلوبهم إلى أصحاب القبور، يدعونهم من دون الله، ويستغيثون بهم، ويتضرعون أمام عتباتهم، بل ويطوفون بها، ويقربون إليها القرابين والنذور، فألهتهم زخارف القبور عن تدبر معاني آيات التوحيد.
ومن هذه الطائفة من ضيع التوحيد أمام أبواب السحرة والمشعوذين والكهان، يسألهم غيباً تفرد الله بعلمه، أو شفاءً ولا شافي إلا الله.
إلى غير ذلك من أنواع الشرك الذي وقعت فيه هذه الطائفة بسبب جهلها وبعدها عن الله.
ومن سمات هذه الطائفة: أنها تجهد في البدعة، وتكسل عن السنة إن لم تحاربها: ﴿عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً(4)﴾الغاشية: 3-4].
عباد الله: ومما ينبغي التنبيه له في هذا المقام عدة أمور؛ منها:
أولاً: إن الشرك لا يقع في الموحدين إلا تدرجاً، كما أوقع إبليس قوم نوح في الشرك، في الصحيح عن ابن عباس في قول الله -تعالى-: ﴿وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ [نوح: 23].
قال: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك، ونسي العلم عبدت".
ثانياً: مما ينبغي التنبيه له: أن الجهل بالتوحيد، وعدم تعلمه وتعليمه، يؤدي بصاحبه إلى الوقوع في الشرك صغيره وكبيره، ومما يصرف كثيراً من الناس عن تعلم التوحيد والاهتمام به عدم معرفة فضله وشأنه، وحصرهم للشرك في صور قد لا تكون موجودة في مجتمعهم؛ كعبادة الأوثان والأصنام، كما في الجاهلية الأولى، وظنهم أن الشرك انتهى ببعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنه لن يقع في هذه الأمة، وهذا خلاف ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ثالثاً: مما ينبغي التنبه له: أن التوحيد لا ينحصر في صور يظنها بعض الناس أنها هي التوحيد فقط، وما عداها ليست من التوحيد؛ كإفراد الله بالدعاء والاستغاثة والحلف به، والاستعاذة به.
ولا شك أن هذه من أهم التوحيد إلا أن هناك صوراً أخرى غفل عنها كثير من الناس، فنقص بسبب غفلتهم عنها توحيدهم، فمن هذه المسائل التي أخل بها كثير من الناس مسألة: الولاء والبراء، يقول الله -تعالى-: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾[المجادلة: 22].
ويقول تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ [الممتحنة: 4].
وانظر إلى حال الناس اليوم ترى عجباً كيف هي مقاييس المحبة والبغضاء، والعداوة والولاء عندهم؛ كما قال ابن عباس: "وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي عن أهله شيئاً".
ومن مسائل التوحيد أيضاً التي غفل عنها كثير من الناس إما لجهلهم بها، وإما لظنهم أنها ليست من التوحيد: مسألة الأمن من مكر الله، يقول الله -تعالى-: ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف: 99].
وعن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن الكبائر، فقال: "الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله".
يقول ابن سعدي -رحمه الله-: "وللأمن من مكر الله سببان مهلكان أحدهما: إعراض العبد عن الدين، وغفلته عن معرفة ربه، وماله من الحقوق، وتهاونه بذلك، فلا يزال معرضاً غافلاً مقصراً عن الواجبات، منهمكاً في المحرمات، حتى يضمحل خوف الله من قلبه، ولا يبقى في قلبه من الإيمان شيء".
السبب الثاني: أن يكون العبد عابداً جاهلاً معجباً بنفسه، مغروراً بعمله، فلا يزال به جهله، حتى يدل بعمله، ويزول الخوف عنه، ويرى أن له عند الله المقامات العالية، فيصير آمناً من مكر الله، متكلاً على نفسه الضعيفة المهينة.
ومن هنا يخذل ويحال بينه وبين التوفيق إذ هو الذي جنى على نفسه. [انتهى كلامه يرحمه الله].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
ومن مسائل التوحيد المهمة التي غفل عنها كثير من الناس: حسن الظن بالله، يقول الله -تعالى-: ﴿يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾[آل عمران: 154].
ويقول تعالى: ﴿الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ﴾ [الفتح: 6].
وفي الحديث القدسي المتفق عليه، قال الله -تعالى-: "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني".
وأخرج مسلم عن جابر: أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل موته بثلاثة أيام يقول: "لا يموتن أحدكم إلا وهو حسن الظن بالله -عز وجل-".
يقول ابن القيم -رحمه الله-: "وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق، ظن السوء، فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم عن ذلك إلا من عرف الله، وعرف أسماءه وصفاته، وعرف موجب حمده وحكمته، فمن قنط من رحمته، وأيس من روحه، فقد ظن به ظن السوء".
"فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع، وليتب إلى الله –تعالى-، وليستغفره كل وقت، من ظنه بربه ظن السوء"[انتهى كلامه].
فكم من إنسان حين يرى صولة الباطل وجولته، وضعف الحق، يظن دوام علو الباطل، واضمحلال الحق.
ولاشك أن هذا ظن السوء بالله حيث لا يليق ذلك بجلاله وكماله وصفاته، وحكمته وعزته تأبى ذلك، وتأبى أن يذل حزبه وجنده، وأن تكون النصرة المستقرة، والظفر الدائم لأعدائه المعاندين له، فمن ظن به ذلك فما عرفه، ولا عرف أسماءه وصفاته.
وكم من إنسان أيضاً حين يشتد عليه المرض والألم، أو الفقر والحاجة، أو غيرها من كرب الدنيا، يظن بالله ظن السوء أن لا يغير الله ما به من شدة، وأن لا يفرج ما به من كربة.
وهذا لا شك من قوادح التوحيد التي تخل به، وتنقصه.
وانظر لحالك كيف لو أسيء الظن بك كيف تغضب وتنكر ذلك، وأنت أهل لكل نقص، فكيف يحسن بك أن تسيء الظن بربك، وهو أهل لكل صفات الكمال والجلال.
ومسائل التوحيد التي ينبغي التنبيه والتنبه لها كثيرة، فحري بالعبد المسلم الذي يرجو الله، والدار الآخرة أن يعتني بهذا الأمر العظيم الذي من أجلها خلقنا، وعنه سنسأل في القبور، ويوم العرض والنشور.
ثم اعلموا -عباد الله-: أن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.
وصلوا وسلموا على الهادي البشير، كما أمركم بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].