عناصر الخطبة
- فضائل يوم عرفة
- أعمال يوم عرفة
- حال السلف بعرفةَ
- بعض أحكام الأضحية
اقتباس يوم عرفة هو يوم إكمال الدين، وإتمام النعمة؛ في الصحيح عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن رجلاً من اليهود قال: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا -معشرَ اليهود- نزلت لاتخذنا هذا اليوم عيداً، قال: أي آية؟ قال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ﴾، قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قائم بعرفة يوم جمعة ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومَن يُضْلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾ [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أظلكم يومٌ عظيم هو – يوم عرفة، أسأل الله أن يبلغنا إياه، إنه يوم جعله الله تعالى أكبر ركن في الحج، حتى قال -عليه الصلاة والسلام-: "الحج عرفة"، يوم عظيم تجاب فيه الدعوات، وتقال العثرات، ويباهي الله فيه ملائكته بأهل عرفات.
وهو يوم عظم الله أمره، ورفع على الأيام قدره، وهو لا شك يوم مغفرة الذنوب والعتق من النيران، سمي اليوم بيوم عرفة نسبة إلى الموضع الذي يجتمع فيه الحجاج في التاسع من ذي الحجة، فلعنا أن نذكِّر بفضائله وما ميزه الله به على غيره من الأيام، وكيف كان هدْي النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه، أسأل الله أن يعتق رقابنا من النار في هذا اليوم العظيم.
معاشر المسلمين: يوم عرفة هو يوم إكمال الدين، وإتمام النعمة، في الصحيح عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن رجلاً من اليهود قال: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا -معشرَ اليهود- نزلت لاتخذنا هذا اليوم عيداً، قال: أي آية؟ قال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ﴾ [المائدة:3]، قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو قائم بعرفة يوم جمعة. فهو -إذن- يوم إكمال الدين، وإتمام النعمة.
ويوم عرفة هو اليوم المشهود الذي أقسم به الله تعالى في القرآن: ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ [البروج:3]، ففي السنن، عن أبي هريرة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم المشهود يوم عرفة، والشاهد يوم الجمعة، وما طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل منه، فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجاب الله له، ولا يستعيذ من شيء إلا أعاذه الله منه".
وصيام يوم عرفة يكفر سنتين، ففي صحيح مسلم من حديث أبي قتادة أنه لما سئل -صلى الله عليه وسلم- عن صيام يوم عرفة قال: " يكفر السنة الماضية والسنة القابلة"، وثبت في صحيح الترغيب أن رجلا سأل عبد الله بن عمر عن صوم يوم عرفة فقال: كنا ونحن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نعدله بصوم سنتين.
وصوم يوم عرفة إنما يستحب لغير الحاج، أما الحاج فلا يسن له صيامه؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ترك صومه في حجه، وروي عنه أنه نهي عن صوم يوم عرفة بعرفه.
ويوم عرفة هو اليوم الذي أخذ الله فيه الميثاق على ذرية آدم، عن ابن عباس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِنَعْمَانَ، يَعْنِي عَرَفَةَ، فَأَخَرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا، فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالذَّرِّ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قِبَلا، وَقَالَ: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ(173)﴾" أخرجه أحمد وهو صحيح. إذاً، فلنتذكر أنه في يوم عرفة أخذ الله تعالى علينا الميثاق ونحن كالذر في ظهر أبينا آدم ألا نشرك به شيئا.
معاشر الأخوة: إن مما يستحب في يوم عرفة الإكثار من التكبير: "الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد"، والتكبير يجهر به في كل أيام العشر تكبيرا مطلقا غير مقيد بالصلوات، يكبّر في البيت والشارع والسوق، ويُسمع أهله وأولاده حتى يفعلوا مثله.
فإذا دخل فجر يوم عرفة أضيف إليه التكبير المقيد بالصلوات، ويستمر إلى عصر آخر أيام التشريق، وهو الثالث عشر من ذي الحجة، فعن شقيق بن سلمة قال: كان علي -رضي الله عنه- يكبر بعد صلاة الفجر غداة عرفة، ثم لا يقطع حتى يصلي الإمام من آخر أيام التشريق، ثم يكبر بعد العصر. أخرجه البيهقي.
معاشر الإخوة: مما يحتاج إليه المسلم بشدة في عبادته استشعار الطاعة، ومنه استشعار برَكَة المكان والزمان، ليس في عرفة فحسب، بل في كل موسم خير؛ لأن استشعار الطاعة واستشعار المكان والزمان وبركة ذلك المكان أو ذلك الزمان يحرك الإيمان في القلب، ويعمق أثر العبادة، وبدون الاستشعار تبقى العبادة جافة بلا روح.
إذاً، لماذا لا نحاول استحضار بركة يوم عرفة؟ لماذا؟ وإن الاستحضار والاستشعار لَيفعل في القلب -أيها الإخوة- ما لم يكن من قبل مستشعرا، فيتضاعف الأجر فيه، ونحتسب، ونتواضع لله، ونتهم نفوسنا، ونعترف بتقصيرنا، ونرجو رحمة الله.
إن السلف الصالح لم يكونوا في هذا اليوم إلا خائفين وجلين، يغلب عليهم الحياء من الله وخشيته، مع قوة يقينهم بأنه يوم مغفرة وعتق من النار، كانوا مع حسن ظنهم بربهم كانوا مؤنبين موبخين لأنفسهم، وهو نوع من الاستشعار المقصود، فمنهم من غلَبه الخوف، وكسَره التواضع.
وقف مطرف بن عبد الله وبكر المزني بعرفة، فقال أحدهما: اللهم لا ترد أهل الموقف من أجلي!. وقال بكر: ما أشرفه من موقف وأرجاه! لولا أنّي فيهم.
ومنهم من غلبه الرجاء حتى ملأ قلبه في ذلك اليوم المبارك، قال عبد الله بن المبارك: جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاثٍ على ركبتيه، وعيناه تذرفان، فالتفت إلي، فقلت له: مَن أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر له. استشعار عجيب للرجاء!.
وإني لَأَدعو اللهَ أطلبُ عفْوَهُ *** وأَعلمُ أنَّ اللهَ يعفو ويغفِرُ لَئِنْ أعْظَمَ الناسُ الذنوبَ فإنها *** وإن عظُمَتْ في رحمة الله تصْغُرُ
ومنهم من استحيا من الله حق الحياء، وقف الفضيل بعرفات فلم يُسمَع من دعائه شيء، إلا أنه واضع يده اليمنى على خده وواضع رأسه يبكي بكاء خفياً، فلم يزل كذلك حتى أفاض الإمام، فرفع رأسه إلى السماء فقال: واسوأتاه -والله- منك وإنْ عفوتَ!، ثلاث مرات، يستحيي من ربه، بالرغم من حسن عبادته، ورقة قلبه!.
لقد كان لكلِّ شأن في الاستشعار، واستحضار القلب في ذلك اليوم العظيم، منهم من يرجو، ومنهم من يخاف، ومنهم من جمع بين ذلك وذاك.
أسأل الله تعالى أن يزيدنا إيمانا، وان يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول سبحانه: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾ [الحج:34].
في صحيح مسلم من حديث أنس -رضي الله عنه-: ضحى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكبشين أملحين أقرنين، قال: ورأيته يذبحهم بيده، ورأيته يضع قدمه على صفاحهما، قال: وسمَّى وكبَّر.
وفي مسند الإمام بسند صحيح عن ابن عمر قال: أقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة عشر سنين يضحي.
أيها المسلمون: هذه بعض أحكام الأضحية، ذهب جمهور العلماء على أن الأضحية سنة مؤكدة، وذهب آخرون إلى أنها واجبة، وهو اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية في ذلك، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية في كون الأضحية واجبة إنما للغني وليس لمتوسط الحال.
وذبْح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها؛ لأن ذلك عمل النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين معه، ولأن الذبح من شعائر الله تعالى، فلو عدل الناس عنه إلى الصدقة لتعطلت تلك الشعيرة.
قال ابن القيم -رحمه الله-: الذَّبْحُ في موضعه أفضل من الصدقة بثمنه، ولهذا لو تصدق عن دم المتعة والقِران بأضعاف أضعاف القيمة -يعني الحاج- لم يقم مقامه، وكذلك الأضحية. ويجوز اشتراك سبعة في بدنة أو بقرة، بخلاف الضأن والماعز فإنه لا اشتراك فيهما إلا في الثواب.
والأصل في الأضحية أنها مشروعة في حق الأحياء، كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يضحون عن أنفسهم وأهليهم، يضحي الرجل عن نفسه وعن أهل بيته وينوي بها الأحياء والأموات، وأصل هذا تضحية النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه وعن أهل بيته وفيهم من مات من قبل.
وللإنسان أن يضحي عن الأموات بمقتضي وصاياهم تنفيذا لها، ولكن؛ ماذا عن التبرع بثواب الأضحية للأموات مستقلين عن الأحياء؟ يتبرع من نفسه بأن يضحي عن الأموات فقط.
أما الجواز فإنه يجوز أن يضحي عنهم مستقلين، لكن ليس هذا من السنة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعل ذلك مع وجود الحاجة، فإنه لم يضح عن عمه حمزة وهو من أعز أقاربه عنده، ولا عن أولاده الذين ماتوا في حياته، يعني لم يضح عنهم مستقلين، وهم ثلاث بنات متزوجات وثلاثة أبناء صغار، ولا عن زوجته خديجة، وهي من أحب نساءه إليه.
ولم يرد عن أصحابه في عهده أن أحدا منهم ضحى عن أحد من أمواته مستقلين. إذاً، فالسنة أن ينويها عن نفسه وعن والديه إن شاء وأهل بيته.
ويجب أن تكون الأضحية مستوفية للشروط، وهي بلوغها السن المطلوبة، بأن تكون ثنية إن كانت من الإبل أو البقر أو الماعز، وجزعاً إذا كانت من الضأن، وهي التي بلغت ستة أشهر في الضأن، وسنة في الماعز، وسنتين في البقر، وخمس سنين في الإبل.
وأن تكون سالمة من العيوب، لقوله -صلى الله عليه وسلم- من حديث البراء: "أربع لا يجزين في الأضاحي: العوراء البيِّن عوَرها، و المريضة البين مرضها، و العرجاء البين ظلعها، والكسيرة –أي: الهزيلة- التي لا تنقي -أي: التي لا مخ لها لضعفها وهزلها-".
قال عبيد -وهو الراوي-: فإني أكره أن يكون نقصٌ في القَرن والأذن، قال البراء: فما كرهت منه فدعه ولا تحرمه على أحد.
إذاً فمشقوقة الأذن تجزئ، ومقطوعة القرن تجزئ، ولكنها مكروهة؛ وكلما كانت الأضحية كاملة خالية من العيوب كانت أقرب إلى الله وأعظم أجرا.
أسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم ومن سائر الموحدين، وأن يحفظ الحجاج ويردهم سالمين تائبين مقبولين.