عناصر الخطبة
- الإسلام جاء بإنزال الناس منازلهم
- أعظم ذوي الحقوق في الإسلام كبار السن
- حاجة كبار السن إلى الرعاية
- حث الشريعة على رعايتهم
- أهم ما يجب علينا تجاه الْمسنِّين
اقتباس ومن أعظم مَن جاء الإسلامُ بالتأكيد على حقِّه، وتوافرتِ النصوصُ بوجوبِ إكرامه وبرِّه: ذُو الشيبة الْمُسلم. وكبيرُ السِّن الذي شاب شعره، ومضى دهرُه وعمْرُه، تشتدّ رغبته وحاجته إلى مَن يُشعره بالمحبة والاحترام، ومَن يُجِلُّه ويحفظُ شيبته بالبرِّ والإكرام. فقد عاش جُلَّ حياتِه في العمل وكسبِ العيش، وقضاءِ الحوائج، والكدِّ على الأهل والأولاد، فلمَّا كبرت سنُّه، وخانته أركانُه: جلس وحيداً فريداً بين…
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أنزل الكتاب بالحق، ولم يجعل له عوجًا، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةَ مَن أسلم وجهه لله فلم يَجِدْ حَرَجًا، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه، الصادقُ الْمَصْدُوقُ مَدْخلاً ومَخْرَجاً، اللهم صلّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومَن اتَّخذ دينه شريعةً ومنهجاً.
أما بعد:
فاتقوا الله -أيها المسلمون-، واعلموا أنَّ هذا الدين العظيم، جاء بإنزال الناس منازلهم، وإعطائِهم حقوقَهم، فالصغير يُرحَم، والكبير يُكرم، والْمُعسر يُنظَر، والغنيُّ الباذِلُ يُشكَر.
ومن أعظم مَن جاء الإسلامُ بالتأكيد على حقِّه، وتوافرتِ النصوصُ بوجوبِ إكرامه وبرِّه: ذُو الشيبة الْمُسلم.
وكبيرُ السِّن الذي شاب شعره، ومضى دهرُه وعمْرُه، تشتدّ رغبته وحاجته إلى مَن يُشعره بالمحبة والاحترام، ومَن يُجِلُّه ويحفظُ شيبته بالبرِّ والإكرام.
فقد عاش جُلَّ حياتِه في العمل وكسبِ العيش، وقضاءِ الحوائج، والكدِّ على الأهل والأولاد، فلمَّا كبرت سنُّه، وخانته أركانُه: جلس وحيداً فريداً بين الجدران.
والمرأة الكبيرةُ كذلك، قضتْ حياتها في خدمةِ زوجها، وتربيةِ أولادها، ومتابعةِ شؤون بيتها، ثم بعد هذه الحياة الزاخرة، تعيش أسيرة المنزل والبيت، إنْ أحسن إليها أحدٌ زارها زيارةً خاطفة، وجلسةً عابرة.
فما أشدَّ ما يُعانيه كثيرٌ منهم من المللِ، والْكآبةِ والفراغ.
ولأجل هذا حثَّ الإسلامُ على إكرامهم والعنايةِ بهم.
فهذا إمامنا وقدوتُنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يوم أنْ دخل مكة فاتحاً مُنتصراً، وإذا بأَبي بَكْرٍ -رضي الله عنه وأرضاه- آخذاً بيدي أبيه أَبِي قُحَافَةَ، ذلك الشيخ الكبير، يسوقه إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَلَا تَرَكْتَهُ حَتَّى نَكُونَ نَحْنُ الَّذِي نَأْتِيهِ"، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: هُوَ أَحَقُّ أَنْ يَأْتِيَكَ. رواه الإمام أحمد وصححه الألباني.
وقَسَمَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذات مرَّةٍ ثياباً على الناس، وَلَمْ يُعْطِ مَخْرَمَةَ شَيْئًا، وكان شيخاً كبيراً حادّ اللسان، غليظ الطبع، فَقَالَ مَخْرَمَةُ لولده: يَا بُنَيَّ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قال: فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، قَالَ: ادْخُلْ فَادْعُهُ لِي، قَالَ: فَدَعَوْتُهُ لَهُ فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَقَالَ له -وقد أمسك بيده أحدَ هذه الثياب-: "خَبَأْتُ هَذَا لَكَ"، قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ الشيخ: "رَضِيَ مَخْرَمَةُ". متفق عليه.
يَخْرُجُ إليه بنفسه ويُداريه، ويُعطيه ويُسلِّيه، كلُّ هذا لأجل شيبته وسنِّه.
وهذا عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- يخرج في سواد الليل كلَّ يوم، فرآه طلحةُ في يومٍ من الأيام، فلما جاء الصبح ذهب إلى ذلك البيت، فإذا هو بعجوزٍ عمياءَ مقعدة، فقال لها: ما بال هذا يأتيكِ؟! قالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يُصلحني، ويخرج عني الأذى. فقال طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة، أعثرات عمر تتبع!!
هذا وهو الفاروقُ الذي هزَّ عروشَ الأكاسرة، وزلزل كيَانَ القياصرة، ومع ذلك يتعاهد امرأةً كبيرةً يُخرج الأذى عنها، وأحدنا لا يتحمل كلمةً يَسْمَعُها من كبير السنّ، وربما هجره -والعياذ بالله- لأجلها، أهذا حقُّ ذي الشيبة المسلم.
بل بعضُهم هجر مكاناً أو موضعاً لأجل شيخٍ مسلم، وقد كان سلفُنا الصالح -رحمهم الله-، يقصدون الأماكن التي يُوجد بِهَا كبارُ السنَ، لأجل أنْ يتقرَّبوا إلى الله بخدمتهم، وإزالةِ الأذى عنهم، فشتّاَن بين الحالين.
واعلموا -معاشر المسلمين- أنَّ الرعايةَ والعنايةَ لم تقتصر على الْمُسِنِّ المسلم، بل امتدت يدُ الرعاية لتشمل غير المسلم أيضاً.
فها هو الفاروقُ -رضي الله عنه وأرضاه- رأى شيخاً ضريراً يهودياً، يمدُّ يده إلى الناس، ويطلب منهم المساعدة، فقال له عمر: ما ألجأك إلى ما أرى، قال اليهودي: فرضتم عليَّ الجزيةَ وأنا كبير السن، لا أستطيع العمل لأؤدِّيَ ما عليّ، فلجأتُ إلى مدِّ يديْ إلى الناس، فرقَّ له عمرُ وأخذ بيده، وذهب به إلى منزله فأعطاه مالاً، وأمر بإسقاط الجزية عنه وقال: والله ما أنْصفناه، أنْ أكَلْنَا شَبِيْبَتَهُ، ثم نخذله عند الهرم، وأسقط الجزية عن كل يهوديٍّ كبيرٍ في السن.
فلا إله إلا الله، هذا الشيخُ اليهوديُّ، يعرف الفاروقُ له حقَّ شيبته، ويُكرمه ويُدخله إلى بيته، فكيف بشيخٍ شاب شعره في الإسلام، وامتلأ قلبُه بنور الإيمان، فهذا أحقُّ أنْ يُكرمَ لا أنْ يُهان، وأنْ يُحْتَمَلَ ما يصدُرُ منه ويُعان.
فكبارُ السنّ -يا أمة الإسلام-: لهم قدرٌ ومكانةٌ في شرعنا، لهم حقُّ الإجلال والاحترام، والصفحِ والعفوِ عن الزلاَّت والهفوات.
وهذا والله من تعظيمِ الله وإجلاله، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ". رواه أبو داود وحسنه الألباني.
وإنَّ مَن أكرمَ ذا الشيبةِ المسلم، وتحمَّل ما يصدُر منه: فإنَّ الله تعالى سيُهيِّئ له عند كبره وشيخوخته: من يرعى حقَّ شيبته، ويقومَ بخدمته وإكرامه، فإنَّ الجزاءَ مِنْ جنسِ العمل.
ومن قصَّر في حقِّهم، ولم يُراعِ شيبتهم: فلْيسمعْ إلى قولِه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَن لَم يَرحمْ صَغِيرنَا، ويَعرف حَق كَبيرِنَا فَليسَ مِنَّا". رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني.
وهذا التهديد الشديد، فيمن لم يَعرف حَق الكَبيرِ، فكيف بمن أهدر حقَّه، وبخسه قدْره، وتأفَّف وتذمَّر من تصرُّفاته في شيبته، وهو أحوج ما يكون إلى العطف والتوقير، كيف لا، وقد شاب شعرُه، واحْدودب ظهره، وضعفت أركانه، ولم تحمله أقدامه، أمِثْلُ هذا يُهْدَر حقُّه، ولا يُصبَر على تصرُّفاته، ولا تُتحمَّل أخطاؤه.
فما أحرى مثل هذا، أن لا يُعان عند كِبَره، وأنْ يخذُله الله عند شيخوخته، فما تفعله مع كبار السنّ وأنت في شبابك، سيُفعلُ بك عند كبرك، إنْ خيراً فخير، وإنْ شرًّا فشر، هذه سنَّةُ في الأغلب الأعمّ.
اللهم ارْحم كبار السنّ يا رب العالمين، وأعنَّا على القيام بحقوقهم، وخدمتِهم وإزالةِ الأذى عنهم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي افْتَتَحَ بالحمد كتابه، وألْهَمَه عبادَه، وجعله مُسْتَزِيداً لهم من فضله، وصلى الله على محمدٍ نبيِّه وخاتَمِ رُسُلِه، وصفوته من خلقِه، وخِيْرَتِه من عباده.
أما بعد:
فيا أمة الإسلام: إليكم أهمَّ ما يجب علينا تجاه الْمسنِّين، وأفضلَ ما نُقدِّمه لهم:
أولاً: احترامهم وتقديرهم، ومبادرتُهم بالسلام والمصافحة، والسؤالُ عن حالهم، وتقبيلُ رأسهم.
ثانياً: التبسُّم والبشاشةُ في وجوههم، وأنْ نُشعرهم بفرحنا وسرورنا لرؤيتهم.
ثالثاً: مدحهُم والثناء عليهم، وذكرُ محاسنهم وماضيهم، وإبرازُ جهودهم وأعمالهم، فهم أشدُّ ما يكون رغبةً، في الحديث عن ماضيهم وتاريخهم.
رابعاً: عدمُ التَّدقيق عليهم في كلِّ شيء، وعدمُ مُحاسبتهم على كلِّ كلمة يقولونها، فما عاد لهم صبرٌ على الأخذ والردّ، وما عادوا يحتملون الانتقاد والعتاب.
خامساً: إكرامهم بالهدايا الْمُحبَّبةِ إليهم، حتى يشعروا بأن لهم مكانةً ومنزلةً عند الناس.
سادساً: مُمازحتهم ومُداعبتُهم؛ فهذا يفرحهم ويشرح صدورهم، فهم أحوج إلى هذا من غيرهم.
سابعاً: مُشاورتُهم واحترامُ رأيهم.
ثامناً: ملء فراغهم بالأمور النافعة، ومن ذلك ربطُهم بالمساجد، والمشاركةِ في الأنشطة والمخيمات والرحلات، وأداءِ العمرة.
تاسعاً: زيارتهم في بيُوتهم، ومُؤانستهم في محلِّ إقامتهم.
وهذه الحقوق واجبةٌ علينا تجاه كلِّ كبير، وتتأكَّد كلَّما قرُبَتْ صِلَتُنَا بهم، فكيف إذا كان الكبير هو أبوك وأمك، فالحق لهم أوجب، والذنب في التفريط أشدّ.
وتتأكد هذه الحقوقُ أيضاً: إذا كان له حقُّ الجوار، فله حقُّ الكِبَر والجوار.
وتتأكد هذه الحقوقُ أيضاً: إذا كان مؤمناً تقيًّا صالحاً، ممَّن يُلازم الطاعةَ وبيت الله تعالى.
وتزدادُ هذه الحقوقُ متانةً ووجوباً: إذا كان الكبير في بيتٍ من بيوت الله، تكلَّف العناء ليصل إلى المسجد، فالواجب مُراعاتهم لأجل بيُوت الله، وتحمُّل ما يبدُر منهم تعظيماً لشعائر الله.
فاتقوا الله -يا أمة الإسلام-، وقوموا بواجبكم تجاه من يكبُرُكم سنًّا، وأحسنوا إليهم، فإنَّ الله لا يُضيعُ أجر الْمُحسنين.