بطاقة المادة
المؤلف | عبد الله بن محمد الجرفالي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | مقروء |
اللغة | العربية |
عناصر الخطبة
اقتباسمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- تقتضي قبول ما جاء به، فيصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر، وينتهي عن كل ما حذَّر منه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا عن طريقه، بل وتقتضي حسن التأسي به في كل شيء، وتحقيق…
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي فرض محبّة نبيّه على عباده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، شهادة تليق بجلاله وعظمته وسلطانه، وأشهد أن نبيّنا محمّداً عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أمّا بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-.
أيّها المؤمنون: لقد فرض الله على عباده محبة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وسد جميع الطرق إلى جنّته إلا طريق محمّد -صلى الله عليه وسلم-.
محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- عقد من عقود الإيمان، ولزوم سنته واتّباع هديه علامة المحبة الصادقة لله -عز وجل- ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولقد قام أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلوازم هذه المحبة، فضحوا لأجله بآبائهم وأمهاتهم وأبنائهم وأموالهم بل بأنفسهم، وقد دلّتْ أدلة الكتاب والسنة على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم أكثر من محبة النفس والآباء والأبناء والناس أجمعين، قال الله -عز وجل-: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: 24].
قال القاضي عياض: "فكفى بهذا حظّاً وتنبيهاً ودلالة وحجة على إلزام محبته، ووجوب فرضها، وعظيم خطرها، واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم؛ إذْ قرَّع الله من كان ماله وأهله وولده أحبّ إليه من الله ورسوله وتوعّدهم بقوله: ﴿فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: 24]، ثم فسّقهم بتمام الآية وأعلمهم أنّهم ممن ضلّ ولم يهده الله".
وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبّ إليه من والده وولده والنّاس أجمعين" [رواه البخاري: 14، ومسلم: 178].
وفي البخاري عن عبد الله بن هشام قال: "كنّا مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسولَ الله لأنت أحبّ إليّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا والذي نفسي بيده حتى أكونَ أحبَّ إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنّه الآن والله لأنت أحبُّ إليّ من نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: الآن يا عمر" [رواه البخاري: 6257].
أيّها المؤمنون: لقد كثر المدَّعون لمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- وقلَّ العاملون، فمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- ليست كلاماً يُقال، ولكنها متابعة له وترَسُّم هديه في كل أمر من أمور الدِّين والدنيا، فمن قدَّم هواه ومراد نفسه أو شهوة فرجه أو بطنه على هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- فقد كذب في ادِّعاء المحبة، فمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- تقتضي قبول ما جاء به، فيصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر، وينتهي عن كل ما حذَّر منه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا عن طريقه، بل وتقتضي حسن التأسي به عليه الصلاة والسلام في كل شيء وتحقيق الاقتداء به في أخلاقه وآدابه ونوافله وتطوعاته، وأكله وشربه ولباسه، وجميع أموره، وإليك أهدي -يا رعاكَ الله- بعض النماذج من سيرة أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- ليعلم كلُّ واحد منَّا أنَّه لم يصل بعدُ إلى كمال محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- وإن قال وادَّعى.
1- صحابيَّة جليلة قتل في يوم واحد والدُها وأخوها وزوجها، ومع هذا كلّه نسيتْ تلك المصائب الثلاث، وتذكَّرَتْ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: "كيف فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قيل لها: هو على خير ما تحبين، فقالت: دعوني أنظر إليه، فلما رأته قالت: كل مصيبة دونك جلل يا رسول الله" [انظر: دلائل النبوة: 3 /302].
أيُّ وفاء هذا؟ وأيُّ حب هذا؟ إنه حب الصادقين ووفاء العارفين "كل مصيبة دونك جلل يا رسول الله" ما أجملَها من عبارات وما أصدقها من كلمات تخرج من فيِّ امرأة مؤمنة، امرأة آمنتْ فصدقتْ وعاهدتْ فأوفتْ، امرأة عرفتْ من هو محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال الله -عز وجل-: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ [الأحزاب: 6]، فكيف بآبائهم وإخوانهم وأزواجهم؟
2 – ولما عُذِّب خبيب بن عدي -رضي الله عنهم- من قبل قريش قالوا: أتحبُّ أنَّ محمداً مكانك، وأنَّك معافى في أهلك ومالك؟ فقال رضي الله عنهم -وانظر إلى هذا الرد الجميل-: ما أحبُّ أنَّني معافى في أهلي ومالي ويشاك محمد -صلى الله عليه وسلم- بشوكة " [انظر: دلائل النبوة: 3 /326، ومعرفة الصحابة: 8 /274].
فلا إله إلا الله ما أعظمها من محبة، وما أصدقها من تضحية، فأين المحبون لرسولهم -صلى الله عليه وسلم-؟ أم أنَّهم مدَّعون كما ادَّعى غيرهم من قبل فخابوا وخسروا، إنَّ صادق المحبة يترجم تلك المحبة إلى متابعة وعمل فهو مطيع لمن يحب ولو كلّفه ذلك بذل المال والوقت بل والنفس.
3- في الصحيحين من قصة كعب بن الأشرف، الشاعر اليهوديّ الذي آذى الله ورسوله، فلما اشتدتْ أذيَّته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين، قال صلى الله عليه وسلم: "من لكعب بن الأشرف؟ فإنّه قد آذى الله ورسوله"، فقام محمد بن مسلمة -رضي الله عنهم-، فقال: يا رسول الله أتحبُّ أن أقتله؟ قال: "نعم" [رواه البخاري: 2375، ومسلم: 1801].
نعم، قالها محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي اقتله كلمة واحدة لا غير أي أحب قتله.
أتدري -يا رعاك الله- ما الذي يترتَّب على ذلك؟
إنّه يترتّب على ذلك بذل النفس، والمخاطرة وركوب الصعاب، واقتحام الموت، ولكن لا بأس فكلّه سهل هيِّن لأجل الله أولاً ثم لأجل محبة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، مضى محمد بن مسلمة -رضي الله عنه-، وقد رتَّب وخطَّط لقتله حتى دخل عليه حصنه، فأرداه قتيلاً، روى ابن إسحاق -رحمه الله- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مشى مع محمد بن مسلمة وصاحبه إلى بقيع الغرقد ثمَّ وجَّههم، وقال: "انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم" [المستدرك على الصحيحين: 2 / 107، ومسند أحمد: 1 / 266].
وقال رحمه الله: "وإنَّما دفع الصحابة الكرام إلى هذه المواقف الإيمانيَّة شدَّة محبتهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومبادرتهم لتنفيذ أمره".
قلتُ -أيّها المؤمنون-: أيَّها المحبون لرسولكم محمد -صلى الله عليه وسلم-: قد طلب حبيبكم -صلى الله عليه وسلم- أقل من ذلك بكثير، لقد طلب منكم أن تخلصوا لله ربكم فأين المحبون؟ لقد طلب منكم أن تحافظوا على صلواتكم فأين المحبون؟ لقد طلب منكم أن تزكُّوا أموالكم وتصوموا شهركم وتحجوا بيت ربكم فأين المحبون؟ لقد طلب منكم أن تبروا آباءكم وأمهاتكم فأين المحبون؟ لقد طلب منكم أن تصلوا أرحامكم وتكثروا من ذكر ربكم فأين المحبون؟ لقد طلب منكم أن تصلوا عليه وتحفظوا ود أصحابه فأين المحبون؟ لقد طلب منكم أن تغضُّوا أبصاركم عن الحرام فأين المحبون؟ لقد طلب منكم ترك الغناء والخنا والفواحش والزنا فأين المحبون؟ لقد طلب منكم ترك الرياء والغيبة والنميمة والحسد والبغضاء وكل بلاء فأين المحبون؟
أيّها المؤمنون: كثير من يدَّعي المحبة، وقليل من يعمل صادقاً، فالمحب لمحمد -صلى الله عليه وسلم- هو الذي يتبعه ظاهراً وباطناً حتى يقلده في طريقة أكله وشربه وهيئة جِلسته، المحبة ليست كلاماً يقال ولا شعارات ورايات تُرفع، المحبة ليست احتفالات ولا نسق شعر وعبارات، المحبة ليست فرحاً باللسان، ولا ضرباً بالدفوف ولا الأهازيز والميلان، محبة المصطفى متابَعة، محبة المصطفى تطبيق، محبة المصطفى تنفيذ أوامره، محبة المصطفى اجتناب نواهيه، محبة المصطفى تقتضي المتابعة والتسليم في كل شيء؛ كما قال ربَّنا -عز وجل-: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الحشر: 7].
الصادق حباً لمحمد -صلى الله عليه وسلم- يتابعه حتى في الأمور المباحة، فابن عمر يقيل حيثُ قالَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- لماذا؟ لأنَّه يحبُّه ويبول حيث بال، وأنس يقول: "ما زلت أحب الدُبَّاء منذ رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحبه".
هكذا تكون المحبة وإلا فلا، رزقنا الله وإياكم حبه -صلى الله عليه وسلم-.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل للمحبة دليلاً، وقال الله وقوله الحق: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [آل عمران: 31]، ومن أصدق من الله قيلاً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رضيت بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمّد نبيّاً ورسولاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أمّا بعد:
فإن محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- في قلب كل مؤمن ومؤمنة، فلقد كان الصحابيات يُقَدِّمْنَ محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- على كل محبة، وكانت إحداهن تجعل نفسها فِداءً للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ففي يوم أحد جعلت أم عمارة نحرها دون نحر النبي -صلى الله عليه وسلم- تذبُّ عنه بسيفها، وترمي عنه بقوسها حتى أنهكتها الجراح فلله درَّها.
نداء لكل مؤمنة تحب محمداً -صلى الله عليه وسلم- نقول لها: هل سمعتي بقصة جليبيب -رضي الله عنهم- والجارية الأنصارية؟
كان جليبيبٌ -رضي الله عنهم- من الأنصار قصيراً ذميماً، ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يحبُّه حبّاً شديداً حتى إنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- في إحدى غزواته وبعد أن تفقّدوا الأصحابَ قال: "لكنّي أفقد جليبيباً" فوجدوه قد قتل سبعةً من الأعداء ثمَّ قُتل فأتاه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وقال:" قتل سبعة ثم قتلوه هذا منّي وأنا منه" [رواه مسلم: 6512، وأحمد: 19799] قالها مرتين أو ثلاثاً، ثم بسط النبي -صلى الله عليه وسلم- ذراعيه الشريفتين وحمل جليبيب حتى حفر قبره ولم يكن له سريرٌ إلا ذراعي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وقصته مع المرأة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب له تلك الجارية من أبيها لجليبيب، وكأنَّ أمَّ الفتاة رفضتْ جليبيباً؛ لأنّه ذميم الخلقة، فلما سمعتْ الجارية ردَّها ورد والدها خرجتْ قائلةً: "قد رضيتُ وسلمتُ لما رضي به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي تقرأ قول الله -عز وجل-: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: 36] فدعا لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: "الّلهم صب عليها الخير صباً ولا تجعل عيشها كدّاً" [رواه أحمد: 19799]، فكانتْ من أكثر الأنصار نفقة ومالاً.
أيّها المؤمنون: هل سمعنا وسمع نساؤنا بمثل هذه التضحية لأجل محبتها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ ولقد طلب النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من نساء المؤمنين أقلَّ من ذلك بكثير، طلب أن يقرْنَ في بيوتهنَّ ولا يتبرْجنَ، وأن يغضضْنَ من أبصارهنَّ وأن يُطعْنَ أزواجهنَّ مع المحافظة على فرائض الله التي افترضها عليهنَّ، فماذا فعلن؟
أيُّ محبة تدّعيها تلك المرأة التي خرجتْ فاتنةً مفتونةً متعطرةً مغرورةً؟ أتريد فتنة المؤمنين؟ أيُّ محبة تدّعيها تلك المرأة التي انتهكتْ حدود الله وتشبَّهتْ بأعداء الله؟ لا وألف لا، فإنها محبة زائفة وقول باطل.
سلك الله بنا وبكم طريق المحبين الصادقين.
المؤلف | عبد الله بن محمد الجرفالي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | مقروء |
اللغة | العربية |