عناصر الخطبة
- معنى الخشوع
- درجات الخشوع
- مكانة الخشوع
- فوائد الخشوع
- قصة في أثر الخشوع في الصلاة
اقتباس الخشوع علامة الإيمان وعنوان الصلاح، اتصف به أكرم الخلق في تلاوته للقرآن وسماعه له وفي صلاته، وهو صفة بارزة لسلف هذه الأمة من الصحابة فمن بعدهم. والخشوع: هو قيام القلب بين يدي الرب بالخضوع والذل…
الخطبة الأولى:
الحمد لله القائل ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾[الأنبياء:90]، وأشهد ألا إله إلا الله مدح الخاشعين وأثنى عليهم وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله إمام الخاشعين وقدوة الراكعين الساجدين صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، وتعاونوا على الخير، وأقبلوا على ربكم، وتوكلوا عليه، وصدق الله العظيم: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ(3)﴾[الطلاق:2-3].
أيها المؤمنون: الخشوع علامة الإيمان وعنوان الصلاح، اتصف به أكرم الخلق في تلاوته للقرآن وسماعه له وفي صلاته، وهو صفة بارزة لسلف هذه الأمة من الصحابة فمن بعدهم.
والخشوع: هو قيام القلب بين يدي الرب بالخضوع والذل.
وقد ورد الخشوع على معاني عديدة في القرآن الكريم؛ فقد ورد بمعنى الذل قال تعالى: ﴿وَخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ﴾[طه:108]، وجاء بمعنى السكون قال تعالى: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾[المؤمنون:2]، وجاء بمعنى الخوف قال تعالى: ﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾، وجاء بمعنى التواضع قال تعالى: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(46)﴾[البقرة:45-46].
عباد الله: والخشوع على درجات:
الأولى: التذلل والاستسلام والانقياد.
الثانية: ترقب آفات النفس والعمل.
الثالثة: تصفية القلب من مراءاة الخلق.
والخشوع -أيها الإخوة- هو أول ما يرفع من هذه الأمة جاء في الحديث: “وَهَلْ تَدْرِي أَيُّ الْعِلْمِ أَوَّلُ أَنْ يُرْفَعَ؟” قَالَ: قُلْتُ: لَا أَدْرِي. قَالَ: “الْخُشُوعُ، حَتَّى لَا تَكَادُ تَرَى خَاشِعًا“(رواه أحمد).
وعن عبد الله بن الشخير -رضي الله عنه- قال: “رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلي وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْرحى مِنَ الْبُكَاءِ“(رواه أبو داود وصححه الألباني).
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم- “اقْرَأْ عَلَيَّ” قُلْتُ: آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟! قَالَ: “فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي“، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى بَلَغْتُ ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾[النساء:41]، قَالَ: “أَمْسِكْ” فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ؛(رواه البخاري).
وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: “مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ تَخَشُّعًا رَفَعَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ تَطَاوَلَ تَعَظُّمًا وَضَعَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ“(رواه أحمد في كتاب الزهد).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما-: في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾، قال: “كانوا إذا قاموا في الصلاة أقبلوا على صلاتهم وخفظوا أبصارهم إلى موضع سجودهم وعلموا أن الله يقبل عليهم فلا يلتفتون يميناً ولا شمالاً“.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه كان إذا تلا هذه الآية: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾[الحديد:16]، قال: “بلى يا رب بلى يا رب”.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “العارف لا يرى له على أحد حقاً ولا يشهد له على غيره فضلاً ولذلك لا يعاتب ولا يطالب ولا يضارب“.
وقال ابن القيم -رحمه الله-: “ومما يورث الخشوع ترقب آفات النفس والعمل ورؤية فضل كل ذي فضل عليك فهذا يجعل القلب خاشعاً لا محالة لمطالعة عيوب نفسه وأعماله ونقائها من الكبر والعجب والرياء وضعف الصدق وقلة اليقين وتشتت النية وعليك أن تراعي حقوق الناس فتؤديها ولا ترى أن ما فعلوه فيك من حقك عليهم” انتهى بتصرف.
ولله درر علي بن الحسين فإنه إذا توضأ أصفرَّ وتغيرَّ فيقال: مالك؟ فيقول: “أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم“.
وعن الحسن البصري في قوله تعالى: ﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ قال: “الخوف الدائم في القلب“، وفي قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ قال رحمه الله: “خشوعهم في قلوبهم؛ فغضوا بذلك أبصارهم، وخفضوا لذلك الجناح“.
عباد الله: لقد عاتب الله خيار الأمة على الخشوع في أول الإسلام، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: “ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ إلا أربع سنين”.
وقال أبو عمران الجوني في قوله تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾[الحشر:21]: “والله لقد صرف إلينا ربنا في هذا القرآن ما لو صرفه إلى الجبال لمحاها ودحاها”.
وقال الحسن البصري: “يا ابن آدم إذا وسوس لك الشيطان بخطيئة أو حدثتك بها نفسك فاذكر عند ذلك ما حَّملك الله من كتابه مما لو حملته الجبال الرواسي لخشعت وتصدعت، فإنما ضرب لك الأمثال؛ لتتفكر بها وتعتبر، وأنت -يا ابن آدم- أحق أن تخشع لذكر الله، وما حَّملك من كتابه؛ لأن عليك الحساب ولك الجنة والنار“.
أيها المؤمنون: احرصوا على الخشوع، وجاهدوا أنفسكم عليه؛ فهو من صفات المؤمنين الصادقين، ومن علاماته البكاء من خشية الله قال تعالى: ﴿قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً(109)﴾[الإسراء:107-109].
وللخشوع -أيها الإخوة- فوائد كثيرة منها:
1- أنه يورث الخوف والرهبة من الله -عز وجل-.
2- أنه دليل على صلاح العبد واستقامته.
3- إعلان العبودية لله ونبذ ما سواه.
4- يكفر الذنوب ويرفع الدرجات.
5- ينجي من عذاب الله يوم العرض عليه.
6- علامة على صدق الإيمان.
7- يوصل إلى الفوز بالجنة.
8- الخشوع يرفع صاحبه يوم القيامة.
9- الخشوع يورث غض البصر وخفض الجناح ويطرد قسوة القلب.
10- الخشوع في الصلاة يوصل إلى الفلاح.
11- من خشع قلبه لم يكن للشيطان عليه سبيل.
فالحقوا -أيها المؤمنون- بركب الصالحين، وكونوا من الخاشعين، وتأملوا قول الله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾[الحديد:16].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للخلق أجمعين، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، وتأملوا معي هذه القصة العجيبة التي ذكرها ابن كثير وغيره عن عروة ابن الزبير -رضي الله عنه-: حيث خرج من المدينة متوجهاً إلى دمشق؛ ليجتمع بالوليد بن عبد الملك، فوقعت الآكلة في رجله في واد قرب المدينة، وكان مبدؤها هناك، فظن أنها لا يكون منها ما كان، فذهب في وجهه ذلك، فما وصل إلى دمشق إلا وهي قد أكلت نصف ساقه، فدخل على الوليد، فجمع له الأطباء العارفين بذلك، فاجتمعوا على أن يقطعها وإلا أكلت رجله كلها إلى وركه، وربما ترقت إلى الجسد، فأكلته فطابت نفسه بنشرها، وقالوا: ألا نسقيك مر قِّدا حتى يذهب عقلك منه فلا تحس بألم النشر، فقال: “لا والله ما كنت أظن أن أحداً يشرب شراباً أو يأكل شيئاً يذهب عقله، ولكن إن كنتم لا بد فاعلين فافعلوا ذلك وأنا في الصلاة؛ فإني لا أحس بذلك ولا أشعر به“، قال: فنشروا رجله من فوق الآكلة من المكان الحي؛ احتياطاً أنه لا يبقى منها شيء وهو قائم يصلي، فما تضوَّر ولا اختلج، فلما انصرف من الصلاة عزَّاه الوليد في رجله، فقال: “اللهم لك الحمد كان لي أطراف أربعة فأخذت واحداً؛ فلئن كنت قد أخذت فقد أبقيت، وإن كنت قد ابتليت فلطالما عافيت؛ فلك الحمد على ما أخذت وعلى ما عافيت“. وكان قد صحب معه بعض أولاده ومن جملتهم ابنه محمد، وكان أحبهم إليه، فدخل ابنه دار الدواب، فرفسته فرس فمات، فأتوه فعَّزوه فيه، فقال: “الحمد لله كانوا سبعة فأخذت منهم واحداً وأبقيت ستة؛ فلئن كنت قد ابتليت فلطالما عافيت، ولئن كنت قد أخذت فلطالما أعطيت“، فلما قضى حاجته من دمشق رجع إلى المدينة رضي الله عنه وأرضاه.
هذا وصلوا وسلموا على محمد بن عبد الله نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين.
اللهم وفق ولاة أمر المسلمين للحكم بكتابك والعمل بسنة نبيك ووفق ولاة أمرنا للخير، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة التي تعينهم إذا ذكروا وتذكرهم إذا نسوا اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم ارحم هذا الجمع من المؤمنين والمؤمنات، اللهم استر عوراتهم وآمن روعاتهم وارفع درجاتهم في الجنات.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدراراً.
اللهم أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.
اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق، اللهم أسق به البلاد والعباد واجعله زاداً للحاضر والباد.
﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾[البقرة:201].
عباد الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾[النحل:90].
وأقم الصلاة..