الاستغفار

عناصر الخطبة

  1. سعة مغفرة الله
  2. أهمية الاستغفار وفضله
  3. ثمرات الاستغفار
  4. مواضع الاستغفار وصيغه
  5. المداومة على الاستغفار
اقتباس

أيها الناس: إن المستغفر يجني ثمرة استغفاره في الدنيا قبل الآخرة، فمن ثمرته في الدنيا: أنه يمنع من وقوع العذاب على صاحبه، ويجلب رحمة الله للمستغفر، وسبب لنزول المطر والرزق، وكثرة الأموال والأولاد، وأن الله يغفر ذنوب المستغفر، ويدخله الجنة، ولنعم…

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله …

أما بعد:

فيا أيها المؤمنون: إن من فضل الله علينا وعلى الناس أن كتب على نفسه أن رحمته تغلب غضبَه، فهو الغفورُ الغفارُ غافرُ الذنب.

عباد الله: إن من صفات المؤمنين: أنهم يستفغرون الله لذنوبهم، ويعلمون أن الله يغفر الذنوب جميعا، وأنه لا يغفر الذنوب إلا هو: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 135].

وقال في صفة المتقين أهلِ الجنة: ﴿وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(16)﴾ [آل عمران: 15 – 16].

ولقد كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يكثر من الاستغفار، بل كان يأمر أصحابه بذلك، ويخبرهم بفعله، ليقتدوا به، أخرج مسلم من حديث الأغر المزني، قال صلى الله عليه وسلم: "إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة".

معاشر المسلمين: إن من رحمة الله: أنه لا يرد مستغفرا، بل يفرح بتوبته واستغفاره، كما قال تعالى: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [النساء: 110].

وقال: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ [طـه: 82].

وقال: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الحجر: 49].

ولقد شنع الله -تعالى- على من ظلم نفسه، وأعرض عن الاستغفار، فقال ﴿أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [المائدة: 74].

أيها المؤمنون: إن الاستغفار من أفضل العبادات التي يرجى نفعها للعبد في الدنيا والآخرة، ولهذا حكى الله عن أنبيائه وأصفيائه أنهم كانوا يستغفرون الله كثيرا، ويسعون في طلب المغفرة، فهذا آدم أبو البشر يقول: ﴿قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: 23].

وهذا نوح يقول: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [نوح: 28].

وهذا إبراهيم أبو الأنبياء يقول: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ [إبراهيم: 41].

وهذا موسى يقول: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأعراف: 151].

وهذا سليمان يقول: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ﴾ [ص: 35].

أيها الناس: إن المستغفر يجني ثمرة استغفاره في الدنيا قبل الآخرة، فمن ثمرته في الدنيا: أنه يمنع من وقوع العذاب على صاحبه: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الأنفال: 33].

ومن ثمراته: أنه يجلب رحمة الله للمستغفر: ﴿لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [النمل: 46].

ومن ثمرته: أن سبب لنزول المطر، فهو من مجاديح السماء: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا) [نوح: 10 – 11].

ومن ثمراته: أنه سبب للرزق، وكثرة الأموال والأولاد: ﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا﴾ [نوح: 12].

فمن حرم الذرية أو كان عليه دين أو لم يجد وظيفة أو غارت المياه في أرضه، فعليه بالاستغفار.

ومن ثمراته في الآخرة: أن الله يغفر ذنوب المستغفر، ويدخله الجنة، ولنعم الثمرةُ، هي: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ(136)﴾ [آل عمران: 135- 136].

معاشر المؤمنين: مهما يقع العبد في الذنب، فإن الله يغفر للعبد، ومهما يتكرر، فالله يغفر، فلا تملوا من الاستغفار؛ أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، قال صلى الله عليه وسلم: "فيما يحكي عن ربه -عز وجل-، قال: أذنب عبد ذنبا؟ فقال: اللهم اغفر لي ذنبي؟ فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا، فعلم أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي؟ فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبا، فعلم أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا، فعلم أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب أعمل ما شئت، فقد غفرت لك، قال عبد الأعلى: لا أدري، أقال في الثالثة أو الرابعة أعمل ما شئت".

والمقصود: اعمل ما شئت، فإني أغفر لك طالما أنك تستغفر كلما أذنبت.

قال ابن رجب -رحمه الله- في كتابه جامع العلوم والحكم: "روى الطبراني عن عبد الله بن عمرو قال: "من ذكر خطيئة عملها، فوجل قلبه منها، واستغفر الله، لم يحسبها بشيء، حتى يمحها".

وروي ابن أبي الدنيا بإسناده عن علي قال: "خياركم كل مفتن تواب، قيل: فإذا عاد؟ قال: يستغفر الله ويتوب، قيل: فإن عاد؟ قال: يستغفر الله ويتوب، قيل: فإن عاد؟ قال: يستغفر الله ويتوب، قيل: حتى متى؟ قال: حتى يكون الشيطان هو المحسور".

وخرج ابن ماجة من حديث ابن مسعود مرفوعا: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له".

وقيل للحسن: ألا يستحيى أحدنا من ربه يستغفر من ذنوبه، ثم يعود ثم يستغفر ثم يعود، فقال: ود الشيطان لو ظفر منكم بهذا، فلا تملوا من الاستغفار.

وروي عنه أنه قال: ما أرى هذا إلا من أخلاق المؤمنين، يعني أن المؤمن كلما أذنب تاب.

وقد روي المؤمن مفتن تواب.

وروي من حديث جابر بإسناد ضعيف مرفوعا: "المؤمن واه راقع فسعيد من هلك على رقعة".

وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: "من أحسن منكم فليحمد الله، ومن أساء فليستغفر الله، وليتب، فإنه لا بد من أقوام من أن يعملوا أعمالا وظفها الله في رقابهم، وكتبها عليهم".

وفي رواية أخرى: أنه قال: "أيها الناس من ألم بذنب فليستغفر الله وليتب، فإن عاد فليستغفر الله وليتب، فإن عاد فليستغفر وليتب، فإنما هي خطايا مطوقة في أعناق الرجال، وإن الهلاك في الإصرار عليها".

ومعنى: هذا أن العبد لا بد أن يفعل ما قدر عليه من الذنوب، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كتب على ابن آدم حظه من الزنا، فهو مدرك ذلك لا محالة، ولكن الله جعل للعبد مخرجا مما وقع فيه من الذنوب ومحاه بالتوبة والاستغفار، فإن فعل فقد تخلص من شر الذنوب، وإن أصر على الذنب هلك".

اللهم اعصمنا من الذنوب والآثام فيما بقي من الأعمار، وارزقنا التوبة والاستغفار.

الخطبة الثانية:

الحمد لله غفار الذنب، وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، صلى الله…

أما بعد:

فيا أيها الناس: لا شيء أشد على الشيطان من الاستغفار، فقد روي في بعض الآثار: أن الشيطان، يقول: "أهلكت ابن آم بالذنوب وأهلكوني بالاستغفار، ولا إله إلا الله، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الإهواء، فهم يذنبون ولا يتوبون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا".

عباد الله: إن لزوم الاستغفار يسقط عن العبد تبعت الذنب، ومن ترك الاستغفار تكاثرت ذنوبه، وأتي من كل جهة، ولربما طبع على قلبه وهولا يشعر.

ولنعلم أن للاستغفار طرق وأوقات فاضلة، فمن ذلك ما أخرج أحمد وأهل السنن من حديث عن أبي بكر قال صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يذنب ذنبا فيتوضأ فيحسن الطهور، ثم يقوم فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله بذلك الذنب إلا غفر الله له".

ومنه أن يدعو بالأدعية الجامعة، أخرج البخاري من حديث شداد بن أوس، قال صلى الله عليه وسلم: "سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" من قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة".

قال المناوي: قال الطيبي: لما كان هذا الدعاء جامعاً لمعاني التوبة كلها استعير له اسم السيد وهو في الأصل للرئيس الذي يقصد في الحوائج، ويرجع إليه في المهمات.

وقال ابن أبي حمزة: جمع في الحديث من بديع المعاني، وحسن الألفاظ، ما يحق له أن يسمى: سيد الاستغفار.

ففيه الإقرار للّه وحده بالألوهية، والعبودية، والاعتراف بأنه الخالق والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه، والرجاء بما وعده به، والاستغفار من شر ما جنى على نفسه، وإضافة النعم إلى موجدها، وإضافة الذنب إلى نفسه، ورغبته في المغفرة، واعترافه بأنه لا يقدر على ذلك إلا هو.

وكل ذلك إشارة إلى الجمع بين الحقيقة والشريعة؛ لأن تكاليف الشريعة لا تحصل إلا إذا كان عون من اللّه قال: "ويظهر أن اللفظ المذكور إنما يكون سيد الاستغفار إذا جمع صحة النية والتوجه والأدب".

ومن أنواع الاستغفار الذي ينبغي للعبد أن يداوم عليه كفارة المجلس، وهي ما أخرج الحاكم من حديث عائشة  كان صلى الله عليه وسلم لا يقوم من مجلس إلا قال: "سبحانك اللهم ربي وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك" وقال: "لا يقولهن أحد حيث يقوم من مجلسه إلا غفر له ما كان منه في ذلك المجلس". ‌

قال عياض: وكان السلف يواظبون عليه، ويسمى ذلك: كفارة المجلس.

معاشر المسلمين: إن المداومة على الاستغفار تفتح للعبد أبواب الخير كلها، أخرج أبو داود في سننه بإسناد فيه ضعف، ومعناه صحيح: "من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب".

عباد الله: ومن لوازم الاستغفار: الإقلاع عن الذنب، وعدم العودة إليه، قال الفضيل بن عياض: "استغفار بلا إقلاع توبة الكذابين".

وقالت رابعة العدوية: "استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير".

تعني أننا نستغفر ونحن مصرون على الذنوب، وإذا استغفرنا كان في استغفارنا تقصير عظيم.

استغفر الله ذنبا لست محصيه *** رب العباد إليه القول والعمل

ومن فوائد الاستغفار: أنه يزيل الوحشة التي بين العبد وربه، فإن أهل الذنوب يقذف الله في قلوبهم وحشة من الخلق، بل إنهم ليستوحشون من أنفسهم.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها دقها…

اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك…

اللهم أعز الإسلام….

اللهم أنج المستضعفين…

ربنا اغفر لنا ولإخواننا…