عناصر الخطبة
- الفكر يجول في خلق الله لا في ذاته
- ثمرات الحديث عن عظمة الله
- تأملات في معنى الكبرياء والعظمة
- أثر الإيمان بعظمة الله في السلوك الإنساني
اقتباس إن من فضل الله علينا أننا الأمة الوحيدة الباقية على الأرض التي تحسن التعظيم لله – تعالى – وبيان شيء من قدره الرفيع، فسائر أمم الأرض اليوم ضلت عن هذا بكفر وطغيان أو ضلال وشرك وتمرد وعصيان؛ إذ لا يعرف قدر عظمة الله – تعالى – إلا الله -جل في علاه-، ومن أذن له بالحديث عن عظمته من رسله وأنبيائه، ونحن الأمة الوحيدة الباقية ممن لنا في ذلك سند صحيح وعلم فسيح، فالحمد لله على ذلك.
الخطبة الأولى:
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعمًا عُما، وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنمًا، وأشدهم بهم رأفة ورحمة حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وذكاه روحًا وجسمًا، وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
معاشر الصالحين: لا نزال في المسك الأذفر، والألوة والعنبر، لا نزال في رياض "الله أكبر"، بعد أن وقفنا في الخطبة السابقة مع بعض أسرارها وأنوارها وتجلياتها، وما يجب على المترنم بها من السير على ضوئها ونورها، تبركًا بها وارتقاءً بتجلياتها إلى عوالم النور والطهر، حيث تنخلع النفوس عن عالم الأدران، عالم النقص والضعف والخوف والحيرة، لتتصل بعالم الكمال المطلق الذي تشكل كلمة "الله أكبر" أبرز تجلياته: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾ [الإسراء:111].
ننطلق اليوم من قوله تعالى: ﴿وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الجاثية:37]، ننطلق من هذه الآية لنعطي لأنفسنا الحق أن نجول ونسبح في ملكوت الله وفي بعض مظاهر كبرياء الله مما نبصر ومما لا نبصر، وكل ذلك مما حدثتنا به الآيات والأحاديث الطاهرات الثابتة عن رسول الله سيد البريات -صلى الله وسلم عليه وعلى آله-.
ومعلوم أن الفكر يجول في خلق الله وليس في ذات الله -جل في علاه-، ولكن يستفاد من الفكر في الخلق لا محالة معرفة الخالق وعظمته وجلاله وقدرته، وكلما استكثرت من معرفة عجيب صنع الله تعالى كانت معرفتك بجلاله وعظمته أتم.
أيها الأحباب: إن من فضل الله علينا أننا الأمة الوحيدة الباقية على الأرض التي تحسن التعظيم لله تعالى وبيان شيء من قدره الرفيع، فسائر أمم الأرض اليوم ضلت عن هذا بكفر وطغيان أو ضلال وشرك وتمرد وعصيان؛ إذ لا يعرف قدر عظمة الله تعالى إلا الله -جل في علاه-، ومن أذن له بالحديث عن عظمته من رسله وأنبيائه، ونحن الأمة الوحيدة الباقية ممن لنا في ذلك سند صحيح وعلم فسيح، فالحمد لله على ذلك.
ثم إن الحديث في بعض مظاهر عظمة الله -سبحانه جل في علاه- يورث أمورًا؛ منها أنها إذا عظّمت النفوسُ اللهَ -جل جلاله- تتضاءل بجوار ذلك التعظيم كل شيء، فلم تعد ترى شيئًا ذا بال إلا من حيث ارتباطه بالله تعالى وصلته به، ويورث ذلك اعتزازًا بالعبودية والانتساب إلى أعظم جنب، فتحب في الله وتبغض في الله وتنظر إلى غير المسلمين نظرة العزة لا نظرة الإعجاب، فلا تنحني إلا لله، ولا تخضع إلا لله.
والتعظيم لله – تعالى – يورث النظر الصحيح في الخلائق، وأنهم مربوبون ضعاف لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم شيئًا، وهذا كله يبعد المسلم عن الذل والنفاق والتذلل، ويجعله قويًا عزيزًا لا يحرص إلا على رضا مولاه ولا يلتفت لمن عاداه.
ثم إن معرفة المنازل من أعظم ثمرات التفكر في عظمة الله، فحين تقلّب فكرك بين المسطور والمنظور، ما بين المسطور في بطون الأوراق والمنظور في الآفاق تعرف قدر نفسك، وأنك أضعف من الضعف، وأن قوتك الوحيدة تنبع من تعلّقك بهذا القوي، وخضوعك له، فتنحني وتمرغ جبهتك على تراب الخضوع، متجلجبًا بالذل، متبرئًا من حولك وقوتك وطولك، متعلقًا بحول الله وقوته وطوله.
ومن ثمرات النظر كذلك في هذه المظاهر: التنفيس عن الأحزان والهموم، والخروج من الغموم، إذا نظرت في شيء من عظمة الله علمت أنك عبد لرب عظيم ليس لعظمته حد، ورب منعم ليس لنعمه حد.
رب قادر على أن يخرجك من همك وألمك وحزنك ومرضك في أقل من لمح البصر: ﴿وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ﴾، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس:82].
ثم تهون عليك تبعًا لذلك مصائب المسلمين، وتعلم يقينًا أن الطغاة المستكبرين المتجبرين الظلمة القتلة إنما هم أناس جاهلون تافهون على أبصارهم غشاوة الغفلة، وعلى قلوبهم غطاء الكبر الذي لا يناسبهم لأنهم ليسوا ببالغيه: ﴿إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ﴾.
إلا لو أدرك هؤلاء الظلمة الحقائق لبكوا بدل الدموع الدم، ولازمهم بدل الفرح الهم، وهو لا شك لازمهم، فما من ظالم متكبر إلا والهم أقرب إليه من حبل الوريد إذا أظهر الاستعلاء والانتفاخ والانتفاش.
ومن أعظم ثمرات هذا النظر الحب والخوف، وهما جناح العبادة الحقة، فتحب هذا الكريم سبحانه عندما تتأمل مظاهر كرمه ورحمته وإحسانه وعطائه، وتخاف هذا الجبار عندما تتأمل مظاهر جبروته وقوته، سبحانه لا إله إلا هو.
يقول سبحانه: ﴿وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، قال صاحب المحيط في اللغة: "الكبرياء يعني العظمة، وهي عبارة عن كمال الذات وكمال الوجود، ولا يوصف بها إلا الله، والكبرياء من الكبر وهو العظمة، يقال: كبر يكبر، أي عظم يعظم". اهـ. رحمه الله.
أيها الأحباب: يقول مولانا -جل في علاه-: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر:67]، إنه مشهد من مشاهد العظمة والكبرياء التي يقف عندها العقل والتفكير ليحل محلهما الإجلال والإكبار، مشهد لو تأملته حق التأمل لعجزت رجلاك عن حملك.
عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد: إنا نجد أن الله -عز وجل- يجعل السماوات على إصبع، والأرضِينَ على إصبع، والشجر على إصبع، والخلائق على إصبع ثم يقول: أنا الملك؟! فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نَوَاجِذُه تصديقًا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوله تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾". رواه البخاري.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾، رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول هكذا بيده، يحركها يقبل بها ويدبر، يمجد الرب نفسه: أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم، فرجف برسول الله -صلى الله عليه وسلم- المنبر حتى قلنا: لَيَخِرَّنَّ به". رواه الإمام أحمد ومسلم وغيرهما.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يقبض الله -تبارك وتعالى- الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض".
وفي الصحيحين كذلك عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "يطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟! أين المتكبرون؟! ثم يطوي الأرضين السبع ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟! أين المتكبرون؟!".
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم". الله أكبر!!
هذه العوالم كلها وهذه الأكوان مما نبصر ومما لا نبصر ومما نعلم ومما لا نعلم، هذه المجرات وهذه النجوم والأفلاك على ما بينها من البعد الذي يقدر بملايين السنين الضوئية وغير ذلك مما لم يدركه العلم البشري القاصر، هذه السماوات كلهن وبين كل سماء والتي تليها مسيرة خمسمائة عام، كل ذلك يطويه الجبار بيمينه، فلا إله إلا الله والله أكبر والعظمة والكبرياء لله الواحد القهار.
فماذا تقول يا من تتكبر وتتجبر؟! ماذا تقول يا من تتجرأ على الله؟! ماذا تقول يا من تظن نفسك شيئًا وما أنت إلا ذرة متناثرة في ملكوت لا انتهاء له؟! فلا إله إلا الله والله أكبر.
جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سراً وجهراً، آمين، آمين، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله العظيم الشأن، الباهر السلطان، مبدع الأكوان على إحكام وإتقان، سبحانه هو الواحد الديان، والصلاة والسلام على سيد المعظمين لله، من أخبرنا عن عظيم قدرته، وأنبأنا عن جلال صنعته، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأنصاره وتبع ملته.
معاشر الصالحين: يقول ربنا سبحانه عن مشهد من مشاهد كبريائه وعظمته وإحاطته: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [الأنعام:59].
قال الإمام الطبري -رحمه الله- عند تفسيره لهذه الآية: قال أبو جعفر: "يقول تعالى ذكره: لا تسقط ورقة في الصحاري ولا البراري ولا في الأمصار والقرى إلا الله يعلمها". ﴿وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾، يقول: "ولا شيء أيضًا مما هو موجود أو مما سيوجد وسيوجد بعد إلا وهو مثبت في اللوح المحفوظ، مكتوب ذلك فيه، ومرسوم عدده ومبلغه، والوقت الذي يوجد فيه والحال التي يفنى فيها".
الله أكبر، إحاطة كاملة تامة، وعلم مطلق لا تخفى عليه سبحانه حبة في ظلمات الأرض، فكيف يخفى عليه عمله، فراقب ربك وأعد العدة للقائه.
من مظاهر علمه سبحانه وإحاطته وهو يتماهى مع الآية السابقة: (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ…) إلى آخر الآية.
فأنت -أيها العبد- لا تكاد ترى النملة إذا مرّت بجانك، بل تكون على جسدك ولا تشعر ولا تحس بها، والله -جل جلاله- فوق العرش في عليائه وكبريائه يسمع صوت النملة وقولها وينقل إلينا ما قالت، يسمع قول نملة فكيف يخفى عليه قولك وفكرك!! فقل خيرًا وأدمن ذكرًا واجعل عبادتك فكرًا وطاعتك شكرًا.
من مظاهر عظمته سبحانه وكبريائه ما جاء متعلقًا بقوله سبحانه في سورة "ق": ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ﴾ [ق:30]، ذكر الإمام ابن كثير -رحمه الله- عن تفسيره لهذه الآية حديثًا عظيمًا يشعرك بعظمة الله وسطوته وكبريائه وجبروته، وذكره كذلك جمع من المفسرين عند هذه الآية؛ عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزالُ جَهنَّمُ يُلقى فيها وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ!! حتَّى يضعَ ربُّ العزَّةِ فيها قدمَه، فينزوي بعضُها إلى بعضٍ، وتقولُ: قَطْ قَطْ، بعزَّتِك وَكرمِك، ولا يزالُ في الجنَّةِ فضلٌ حتَّى ينشِئَ اللَّهُ لَها خلْقًا فيسكنَهم فضلَ الجنَّةِ". رواه مسلم.
ويذكر الإمام الطبري -رحمه الله- عند هذه الآية حديثًا أورده الحافظ أبو يعلى في مسنده، عن أبيّ بن كعب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يُعَرِّفُنِي اللَّهُ نَفْسَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَسْجُدُ سَجْدَةً يَرْضَى بِهَا عَنِّي، ثُمَّ أَمْدَحُهُ مِدْحَةً يَرْضَى بِهَا عَنِّي، ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي بِالْكَلَامِ، ثُمَّ تَمُرُّ أُمَّتِي عَلَى الصِّرَاطِ، وَهُوَ مَضْرُوبٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ، فَيَمُرُّونَ أَسْرَعَ مِنَ الطَّرْفِ -أي من البصر- وَالسَّهْمِ، ثُمَّ أَسْرَعَ مِنْ أَجْوَدِ الْخَيْلِ حَتَّى يَخْرُجَ الرَّجُلُ مِنْهَا حَبْوًا، وَهِيَ الْأَعْمَالُ، وَجَهَنَّمُ تَسْأَلُ الْمَزِيدَ حَتَّى يَضَعَ الْجَبَّارُ قَدَمَهُ فِيهَا، فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَتَقُولُ: قَطْ، قَطْ، وَأَنَا عَلَى الْحَوْضِ"، قِيلَ: وَمَا الْحَوْضُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ شَرَابَهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَبْرَدُ مِنَ الثَّلْجِ، وَأَطْيَبُ رِيحًا مِنَ الْمِسْكِ، وَآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النُّجُومِ، لَا يَشْرَبُ مِنْهُ إِنْسَانٌ فَيَظْمَأَ أَبَدًا، وَلَا يُصْرَفُ فَيُرْوَى أَبَدًا".
وهنا لا مجال للتصور ولا للتشبيه ولا للتمثيل ولا للتعطيل، فربنا سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وإنما نثبت لربنا ما أثبته لنفسه من غير تمثيل ولا تعطيل ولا تكييف ولا تشبيه.
ثم ننتقل إلى مشهد آخر من مشاهد العظمة والكبرياء، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ما السماوات السبع في الكرسي -أي مقارنة مع الكرسي- إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة". رواه ابن أبي شيبة في كتاب العرش، وصححه الألباني -رحمه الله-.
هذه السماوات السبع -على عظمتها واتساعها وبُعد ما بينها مما لا يعلمه إلا الله- ما هي مقارنة بالكرسي إلا كحلقة، شيء صغير كخاتم ألقيته في صحراء، ألقي في أرض شاسعة: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾، وهذا الكرسي على هذه العظمة التي لا تحيط بها العقول ما هو في العرش إلا كحلقة ألقيت بأرض فلاة، فالله أكبر ولا إله إلا الله والله أكبر.
ما أشد غفلتنا عن الحقائق!! وما أكثر شرودنا عن هذه الدقائق!!
يا أيها العبد: اعرف قدرك ولا تتجلد على ربك العظيم، ولا تقل: أنا، فأين الأنا منك؟! فما أهلك السفيه إلا الأنا، فتضرع واخضع واركع، والكبر انزع، والغفلة ادفع، وبما قسم لك اقنع، وتحرَّ ما ينفع، وإذا أخطأت فانطرح وتضرع.
ومن مظاهر عظمته سبحانه: عظمة خَلْقِ حَمَلَةِ العرش وتمجيدهم وتسبيحهم له -سبحانه جل في علاه-، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ [غافر:7]، وقال سبحانه في آية أخرى: ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾ [الحاقة:17].
عن جابر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلائِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ؛ إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ". رواه أبو داود وصححه الألباني.
وأخرج الإمام الذهبي -رحمه الله- في كتابه العلو عن حسان بن عطية قال: "حملة العرش ثمانية، يتجاوبون بصوت حسن رخيم، فيقول أربعة منهم: سبحانك وبحمدك على حلمك بعد علمك، ويقول أربعة: سبحانك وبحمدك على عفوك بعد قدرتك". وإسناده قوي.
فسبحان الله ما أعظم الله!! فربنا –سبحانه- خالق العرش وخالق حملة العرش وخالق كل شيء، وهو مستغنٍ عن العرش ومستغنٍ عن حَمَلة العرش ومستغنٍ عن كل شيء، بل الكل محتاج إليه قائم به، وإنما خلق ذلك لحكمة يعلمها هو -سبحانه وتعالى-.
ومن خطبة لسيدنا علي -رضي الله عنه-: "كل شيء خاشع له، وكل شيء قائم به، غِنى كل فقير، وعزُّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، من تكلم سمع نطقه، ومن سكت علم سره، ومن عاش فعليه رزقه، ومن مات فإليه منقلبه".
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "ما بين السماء الدنيا والتي تليها مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء الثالثة والتي تليها وبين الأخرى مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماءين مسيرة خمسمائة، وبين السماء السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله -عز وجل- فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه". فلا إله إلا الله والله أكبر.
أيها الأحباب: إن العقل يقف عاجزًا أمام هذه العظمة وهذا الكبرياء، تضيع الأفكار وتطيش العقول، وتكل الألسنة عن العبارة، فكيف -يا عبد الله- تخاف الناس والله أكبر!! وكيف تستسلم للهم والله أكبر!! وكيف تذل للمخلوقين والله أكبر!! وكيف تنسى ربك والله أكبر!! ومن الذي غرّك بربك الكريم والله أكبر!! ولماذا تعجب بالكافرين والله أكبر!! وكيف تتجرأ على الله والله أكبر، وكيف تقنط من رحمة الله والله أكبر!! وكيف تشكو همك لغير ربك والله أكبر!! ولمَ تخشى الفقر والله أكبر!! وكيف تخاف الحساد والله أكبر!!
ثم تصوروا معي -أيها الكرام رحمكم الله- هذا الرب العظيم، هذا الملك الجبار الذي لم تصلنا من مظاهر عظمته إلا ومضات وإشارات، تأملوا معي كيف سيكون إكرامه لأوليائه وكيف سيكون عذابه لأعدائه؟!
فاعبد واسجد وإن بعدت فعُد وقل بلسان مقالك وتصديق حالك: لا إله إلا الله والله أكبر.
اللهم عرفنا بك…