عناصر الخطبة
- حكمُ الدِّفاعِ عن الوطن
- حرص الأعداء على تشويه بلاد الحرمين
- صور من عزة الإسلام والسلف الصالح
- التحذير من نشر ما لا يكونُ في مصلحةِ البلادِ
- وجوب التثبت قبل نقل الأخبار
- منهجُ ولاةِ أمرِنا في الحِلمِ والسَّلامِ
اقتباس إننا وبتوفيقِ اللهِ -تعالى-.. وبما أنعمَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- علينا في هذه البلادِ .. من تحكيمِ الشَّرعِ الحكيمِ .. وخدمةِ البيتِ العظيمِ .. وعلماءَ ينشرونَ معالمَ التَّوحيدِ .. وسُلطانٍ يمنعُ مظاهرَ الشِّركِ والمعاصي بيدٍ من حديدٍ .. وتعظيمِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهي عن المنكرِ .. وإقامةِ الحدودِ الشَّرعيَّةِ .. وإغاثةِ الملهوفِ .. ونُصرةِ الجارِ .. والإعانةِ على نوائبِ الدَّهرِ .. فإنَّ الدِّفاعَ عن هذا البلدِ .. هو من أعظمِ الجِهادِ .. حفاظاً على دينِه المبينِ .. وعلى أمنِ زوَّارِ البيتينِ .. ولا يُخزي اللهُ -تعالى- مثلَ هذا البلدِ أبداً…
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ العزيزِ الحميدِ، كتبِ العزَّةَ لنفسِه ولرسولِه وللمؤمنينَ، أحمدُه سبحانَه وتعالى يُؤيِّدُ بنصرِه من يشاءُ، ويُعزُّ من يشاءُ ويُذِّلُ من يشاءُ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، أرسلَه اللهُ بالهدى ودينِ الحقِّ ليظهرَه على الدِّينِ كلِّه، اللهمَّ صلِّ على عبدِك ورسولِك محمَّدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ وسلَّمَ تسليمًا كثيراً ..
أما بعد: فأوصيكم بتقوى اللهِ –تعالى- والصَّبرِ المتينِ .. فإنهما سلاحُ المؤمنِ ضِدَّ الأعداءِ المُتربِّصينَ .. ﴿إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [آل عمران: 120].
سُئلَ الشيخِ ابن عُثيمين رحمَه اللهُ:
ما حكمُ الدِّفاعِ عن الوطنِ؟
فأجابَ بقولهِ: "الدِّفاعُ عن الوطنِ ينقسمُ إلى قسمينِ:
القسمُ الأولُ: دفاعٌ عنِ الوطنِ من حيثُ إنه وطنٌ؛ فهذا ليسَ في سبيلِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- .. ويستوي فيه الكافرُ والمؤمنُ، حتى الكافرُ يدافعُ عن وطنهِ.
القسم الثاني: أن يدافعَ عن وطنِه؛ لأنه وطنٌ إسلاميٌّ؛ فحينئذٍ يكونُ دفاعُهُ جهادًا في سبيلِ اللهِ -عزَّ وجلَّ-، لأنهُ يقاتلُ دفاعًا عن الإسلامِ، وخوفًا من أن يستوليَ على البلادِ أهلُالكفرِ فيُغَيّرُ منهجُ البلادِ الإسلاميةِ .. فمنْ قاتلَ من أجلِ إبقاءِ الإسلامِ الذي هو دينُ وطنِهِ صارَ مجاهدًا في سبيلِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- .. ودليلُ ذلكَ: أن النبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلّم- سُئِلَ عن الرَّجُلِ يقاتلُ حميَّةً، ويقاتلُ شجاعةً، فقالَ -عليه الصلاةُ والسلامُ-: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ". انتهى كلامُه.
أيُّها المؤمنونَ ..
إننا وبتوفيقِ اللهِ -تعالى-.. وبما أنعمَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- علينا في هذه البلادِ .. من تحكيمِ الشَّرعِ الحكيمِ .. وخدمةِ البيتِ العظيمِ .. وعلماءَ ينشرونَ معالمَ التَّوحيدِ .. وسُلطانٍ يمنعُ مظاهرَ الشِّركِ والمعاصي بيدٍ من حديدٍ .. وتعظيمِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهي عن المنكرِ .. وإقامةِ الحدودِ الشَّرعيَّةِ .. وإغاثةِ الملهوفِ .. ونُصرةِ الجارِ .. والإعانةِ على نوائبِ الدَّهرِ .. فإنَّ الدِّفاعَ عن هذا البلدِ .. هو من أعظمِ الجِهادِ .. حفاظاً على دينِه المبينِ .. وعلى أمنِ زوَّارِ البيتينِ .. ولا يُخزي اللهُ -تعالى -مثلَ هذا البلدِ أبداً .. ولذلكَ لمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لخَدِيجَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: "قَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي"، قَالَتْ لَهُ: "كَلَّا، أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ".
وإنَّ ما نُلاحظُه في هذه الأيامِ .. من مُحاولةِ تَهويلِ أخبارِ الأعداءِ .. ونشرِها بينَ الأهلِ والأصدقاءِ .. وإرسالِ صُوَرِ دمِ المُسلمِ المسفوكِ .. في محاولةٍ لإثارةِ الخوفِ والشُّكوكِ .. حتى أظهرونا في بلادِنا كأنَّنا رؤوسٌ حاسرةٌ .. قد أحاطَ بها الوحوشُ والجوارحُ الكاسرةُ .. وأظهرونا كأنَّنا ريشةٌ في مهبِّ الرِّيحِ .. ننتظرُ الموتَ من المشركينَ وعُبَّادِ المسيحِ.
فلا واللهِ وألفَ لا .. كيفَ يخافُ أهلُ الحقِّ وهم أحفادُ ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ(174)﴾ [آل عمران: 173- 174].. فلا يُخيفُنا دبٌّ روسيٌّ .. ولا نِسرٌ أمريكيٌّ .. ولا عمامةُ فارسيٍّ .. ولا عِصْبَةُ خارجيٍّ .. كيفَ لا وقد استجبنا لقولِه سُبحانَه: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 60] ..
واسمع إلى قولِه تعالى: ﴿مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ أي حَسْبَ استطاعتِكم ومقدرَتِكم .. ونحنُ لا نعلمُ على مرِّ التَّاريخِ استعداداً أعظمُ من استعدادِ هذه البلادِ في تنوِّعِ سلاحِها .. وتدريبِ جُندِها .. ووفرةِ اقتصادِها .. وقبلَ ذلكَ إيمانُ رجالِها باللهِ -تعالى -.. وأن الاعتصامَ به عِزةٌ .. واللجوءَ إليه قوةٌ .. فهليَخافُ مثلَ هؤلاءِ وقد قالَ تعالى: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصافات: 173].
من هذه الجزيرةِ خرجَ قُتيبةُ بنُ مسلمٍ الباهليُّ الذي وصلَ في فُتوحاتِه إلى مدينةِ كَاشِغرَ أدنى مدائنِ الصِّينِ .. فجاءَه رَسولُ مَلكِ الصِّينِ يَطلبُ منه أن يُوَجِّهَ إليه وفداً ليَعرفَ خبرَهم فاختارَ قتيبةُ عَشرةَ مِن خِيرةِ رجالِه برئاسةِ هُبيرةَ بنِ المُشَمْرَج الكِلابي، فأرسلَهم إلى مَلكِ الصِّينِ.. ودارَ بينَهم حِوارٌ طويلٌ .. ومنه أنَّ مَلكَ الصِّينِ قالَ لهم مُهدِّداً: "انصرفوا إلى صاحبِكم، فقولوا له يَنصرفُ فإني قد عَرفتُ حِرصَه وقِلَّةَ أصحابِه، وإلا بَعثتُ عليكم من يُهلِكَكم ويُهلكَه"، فردَّ عليه هُبيرةُ في شَجاعةِ المؤمنِ وعزتِه فقالَ له: "كيفَ يكونُ قَليلَ الأصحابِ مَنْ أولُ خيلِه في بلادِك وآخرُها في مَنابتِ الزَّيتونِ؟، وكيفَ يكونُ حَريصاً من خَلَّفَ الدُّنيا قادراً عليها وغَزاكَ؟، وأما تخويفُك إيَّانا فإنَّ لنا آجالاً إذا حضرتَ فأكرَمَها القَتلُ، فلسنَا نكرَهُه ولا نخافُه".
فأعادتْ هذهِ المقالةُ ملكَ الصِّينِ إلى صَوابِه وأَيقنَ أنه أمامَ قومٍ لا يجدي معهم التَّهديدُ ولا الوعيدُ، فاعتدلَ في كلامِه وقالَ لهبيرةَ: "فما الذي يُرضي صاحبُكم؟"، قالَ: إنه قد حلفَ ألا ينصرفَ حتى يَطأَ أرضَكم، ويَختمَ ملوكَكم، ويُعطى الجزيةُ .. قالَ: "فإنا نُخرجُه من يمينِه، نَبعثُ إليه بترابٍ من أرضِنا فيطؤه، ونَبعثُ ببعضِ أبنائِنا فيختِمُهم، ونَبعثُ إليه بجزيةٍ يرضاها"، قالَ: فدعا بصحائفَ من ذَهبٍ فيها ترابٌ، وبعثَ بحريرٍ وذهبِ وأربعةِ غِلمانٍ من أبناءِ ملوكِهم، ثُمَّ أجازَهم فأحسنَ جوائزَهم فساروا فقدِموا بما بعثَ به، فَقبلَ قُتيبةُ الجزيةَ وختمَ الغِلمانَ وردَّهم، ووطئَ تُرابَ الصِّينِ.
هذه عزَّةُ أهلِ الإيمانِ .. وأما المنافقونَ والذينَ في قلوبِهم مرضٌ فيُصيبُهم شُعورٌ مخيفٌ .. عندما تأتي أخبارُ الجِهادِ في سبيلِ اللهِ -تعالى -والقِتالِ والسَّيفِ .. ﴿فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ [محمد: 20].. ويَظهرُ كُفرُهم وسوءُ ظنِّهم بربِّ العالمينَ .. ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [الأحزاب: 12].. ويأتونَ بالأعذارِ .. ليُولُّوا الأدبارَ .. ﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا﴾ [الأحزاب: 13] .. ويبدءونَ بتثبيطِ النَّاسِ وبثِّ روحِ اليأسِ فيهم .. ﴿وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا﴾ [الأحزاب: 13].. فإيَّاكم ونشرَ ما لا يكونُ في مصلحةِ البلادِ .. وتثبيتِ العِبادِ.
عبادَ اللهِ ..
قال اللهُ تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ، وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء: 83]. يَقولُ الشَّيخُ السِّعديُّ -رحمَه اللهُ- في تفسيرِ هذه الآيةِ: "هَذَا تَأْدِيبٌ مِنَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ عَنْ فِعْلِهِمْ هَذَا غَيْرِ اللَّائِقِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُمْ إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْنِ وَسُرُورِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ بِالْخَوْفِ الَّذِي فِيهِ مُصِيبَةٌ، عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَثَبَّتُوا وَلَا يَسْتَعْجِلُوا بِإِشَاعَةِ ذَلِكَ الْخَبَرِ، بَلْ يَرُدُّونَهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْعِلْمِ وَالنُّصْحِ وَالْعَقْلِ وَالرَّزَانَةِ، الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْأُمُورَ وَيَعْرِفُونَ الْمَصَالِحَ وَضِدَّهَا، فَإِنْ رَأَوْا فِي إِذَاعَتِهِ مَصْلَحَةً وَنَشَاطًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَسُرُورًا لَهُمْ وَتَحَرُّزًا مِنْ أَعْدَائِهِمْ فَعَلُوا ذَلِكَ، وَإِنْ رَأَوْا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ أَوْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ وَلَكِنَّ مَضَرَّتَهُ تَزِيدُ عَلَى مَصْلَحَتِهِ، لَمْ يُذِيعُوهُ، وَلِهَذَا قَالَ: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ أَيْ: يَسْتَخْرِجُونَهُ بِفِكْرِهِمْ وَآرَائِهِمُ السَّدِيدَةِ وَعُلُومِهِمُ الرَّشِيدَةِ".
أدبٌ رفيعٌ وخُلُقٌ عظيمٌ .. تولَّى اللهُ -تعالى -إخبارنا به في كتابِه الكريمِ .. فلا ينبغي لنا .. أن نُذيعَ خَبَراً .. ولا ننشرَ أمراً .. حتى يتبيَّنَ أن المصلحةَ في نشرِه .. وأن عاقبةَ بثِّه خيرٌ من كتمِه وسرِّه.
لقد عابَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- على الذينَ استعجلوا في بثِّ خبرِ الإفكِ دونَ تثبُّتٍ .. فقالَ سبحانَه: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ [النور: 15].. فشبَّهَ سُبحانَه سُرعةِ نشرِهم للخبرِ الخطيرِ .. وكأنَّه تلَقَّاهُ بلسانِه وقالَه بفمِه دونَ نظرِ فيه ولا تفكيرٍ .. ولذلكَ قالَ بعدَها: ﴿وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: 16] فليسَ كلُّ ما يُسمعُ يُقالُ .. ثُمَّ حذَّرَهم من هذا الفِعلِ فقال: ﴿يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [النور: 18].
أستغفرُ اللهَ العظيمَ الذي لا إلهَ إلا هو الحيُّ القيومُ وأتوبُ إليه. أسألُ اللهَ أن يغفرَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ والمسلماتِ الأحياءِ منهم والأمواتِ .. فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله مُعِزِّ التوحيد وأهلِه، ومُذِلِّ الشرك وحِزبِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في رُبوبيَّته وأُلوهيَّته وأسمائِه وصفاتِه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه وصفوتُه من خلقِه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابِهِ ..
أما بعد: عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى كِتَابَاً حِينَ خَرَجَ إِلَى الْحَرُورِيَّةِ، فَقَرَأْتُهُ فَإِذَا فِيهِ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا الْعَدُوَّ انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ قَامَ فِي النَّاسِ، فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ"، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ".
ولا زالَ وللهِ الحمدُ .. هذا منهجُ ولاةِ أمرِنا في الحِلمِ والسَّلامِ .. والمُحافظةِ على مُجتمعٍ يسودُه الوِئامُ .. والبحثِ عن الأمنِ والاستقرارِ .. في رَغَدِ عَيشٍ وطِيبِ دارٍ .. فظنَّ الأعداءُ أن هذا الحِلمَ ضَعْفاً .. وظنُّوا أن هذه الأناةَ خوفاً .. فأصبحَ تهديدُ هذه البِلادِ كلأً مُباحاً .. لكلِ عدوٍ كافرٍ .. ولكلِّ علمانيٍّ فاجرٍ .. ولكلِّ فارسيٍّ حاقدٍ .. ولكلِّ خارجيٍّ جاحدٍ .. وقد قيلَ: اتَّقِ شرَّ الحليمَ إذا غضبَ.
فإذا أسرفَ الظَّالمونَ .. وهدَّدَ الحاقدونَ .. واعتدى المُسرِفونَ .. وتجاوزَ الباغونَ .. فسينقلبُ الحلمُ حَزْماً .. وستأتيهم السَّماءُ رَجْماً .. ونحنُ مع وليِّ أمرِنا .. وتحتَ إشارتِه .. دفاعاً عن دينِنا .. وذَوْداً عن وطنِنا .. ونُصرةً لأخوانِنا .. واستجابةً لقولِ نبيِّنا -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "وَإذَا اسْتُنْفِرْتُم فَانْفِرُوا"، فواللهِ لو استعرضَ بنا هذا البحرَ، فخاضَه لخضناه معَه، ما يتخلَّفُ منَّا رجلٌ واحدٌ، وما نكرَه أن يلقى بنا عدوَّنا غدًا، إنَّا لصُبُرٌ في الحربِ، صُدُقٌ عندَ اللِّقاءِ، ولعلَّ اللهَ يريه منَّا ما تقرُّ به عينُه، ويُغيظُ أعداءُ الإسلامِ، فسِر بنا على بركةِ اللهِ .. ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: 227].
اللَّهُمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللَّهُمَّ أذِلَّ الشركَ والمشركينَ، اللَّهُمَّ دَمِّر أعداءَ الدينِ، اللَّهُمَّ اجعل هذا البلدَآمناً مُستقراً وسائرَ بلادِ المسلمينَ يا ربَّ العالمينَ، اللَّهُمَّ كُفَّ عنَّا بَأسَ الذين كفروا فأنتَ أَشدُّ بأساً وأَشدُّ تَنكيلاً، اللَّهُمَّ اجعلْ كيدَهم في نحورِهم واكفنا شُرورَهم، اللَّهُمَّ سَلِّطْ عليهم من يُشغلُهم بأنفسِهم عن المسلمينَ إنَّكَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بك، عليكَ توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصيرُ.
اللَّهُمَّ احفظْ هذه البلادَ بلادَ الحرمينِ الشريفينِ، اللَّهُمَّ احفظها أمنةً مستقرةً من كلِّ سوءٍ ومكروهٍ، ومن كلِّ شرٍّ وفتنةٍ، ومن كلِّ بلاءٍ ومحنةٍ، اللَّهُمَّ احفظ سائرَ بلادِ المسلمينَ في كلِّ مكانٍ يا ربَّ العالمينَ.
اللَّهُمَّ أصلح ولاةَ أمورِنا واجعلهم هداةً مهتدينَ غيرَ ضالينَ ولا مضلينَ، اللَّهُمَّ أصلحْ بطانتَهم وأبعد عنهم بطانةَ السُّوءِ والمفسدينَ، اللَّهُمَّ ولِّ علينا خيارَنا واكفنا شرَّ شرارِنا ولا تؤاخذنا بما فعلَ السفهاءُ مِنا، وقنا شرَّ الفتنِ ما ظهرَ منها وما بطنَ .. ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.