عناصر الخطبة
إن الحمد لله، نحمدُك ربي ونستعينُك ونستغفرُك ونتوبُ إليه، نحمدُه – سبحانه – أنزلَ الكتابَ والميزانَ ليقوم الناسُ بالقسط.
فالحمدُ للعدلِ الحكيمِ الباري *** المُستعانِ الواحدِ القهَّارِ
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له اختصَّ هذه الأمةَ دينًا وتشريعًا، وشرَّفها بمُحكَم التنزيل منهجًا بديعًا، وأشهدُ أن نبيَّنا وسيِّدنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه جاءَ بالهُدى والنورِ حقًّا زَميعًا، صلواتُ ربي وبركاتُه عليه، وعلى آله وصحبِه مُضمَّخًا ربيعًا، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم يُبعثُ الخلائِقُ جميعًا، وسلِّم يا ذا العُلا تسليمًا عبِقًا ضوِيعًا.
أما بعد: فاتقوا الله – عباد الله -، واشكُروه أن هداكم للإسلام، فهو دينُ المناقِبِ والمحامِدِ العِظام، النيِّرُ المَحجَّةِ والأحكام.
ألا فاسلُك إلى المولى سبيلاً *** ولا تطلُب سوى التقوى دليلاً
ولا تركَن إلى الدنيا وعوِّل *** على مولاكَ واجعَله وكيلاً
معاشر المسلمين:
من ترأرأَت بصيرتُه نحو مقاصِد الشريعةِ الغرَّاء علمًا واحتجاجًا، عملاً وانتهاجًا، وتعرُّفًا لحِكَمها وأسرارها، ومرامِيها وآثارِها، أدركَ أنها بديعةٌ في حقائقِها، منيعةٌ في دقائقِها، مُواكِبةٌ لأحداث العُصور، ومُستجِدَّات النوازِل والقضايا في جميعِ الأزمانِ والدُّهور؛ بل هي منجاةٌ من عواصِف الآراء النَّزِقةِ المُضِلَّة، وأمواجِ الأهواءِ الفاتِنةِ المُزِلَّة.
ومن أتأَرَ بنظرِه من المُفلِقين، أيقنَ أن محورَ تلك المقاصِدِ وعنوانَها وجوهرَها بعد حفظِ الدين، حفظُ النفس البشرية التي كرَّمها الله وشرَّفها، ونوَّه بها في عظيمِ خِطابه، وأقسمَ بها في مُحكَم كتابِه، فأعلى شأنَها وزكَّاها، فقال – عزَّ من قائلٍ -: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾ [الشمس: 7].
فكان تكريمُه وتبجيلُه لها أفضلَ ما عرفَتْه النُّظُمُ من احتِفاءٍ وتأمين، وضنًّا بها أن تُزهَقَ دون حقٍّ مُبين. كيف وقتلُ النفس تحدٍّ لخلقِ الله وحِكمته، وتعدٍّ على قُدرته ومنَّته.
أمة الإسلام:
لقد جاءت الشرائِعُ كلُّها برعايةِ الأنفُس وصيانتِها؛ لأنه يتوقَّفُ عليها نظامُ العالَم، فقتلُ النفس يتنافَى مع الحِكمة من الخلقِ والإيجادِ، وفي شريعةِ الإسلام قرَنَ ربُّ العزَّة – سبحانه – قتلَ النفسِ بالشركِ بالله، فقال – جل وعلا -: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [الفرقان: 68].
قال شيخُ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: "الفسادُ إما في الدين وإما في الدنيا؛ فأعظمُ فساد الدنيا قتلُ النفوس بغير الحقِّ".
ولهذا كان أكبرَ الكبائِر بعد أعظم فسادِ الدين الذي هو الكفرُ.
لقد منَحَ ربُّ العالمين الحياةَ للناس مُترَعًا ربيعًا، وحافظَ على النفس البشريَّة وأحكمَها نظامًا وتشريعًا، وقال في مُحكَم التنزيل: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32]، ومنعَ كلَّ ما يُؤدِّي إلى إزهاقِ الأنفُس وسدَّ الذرائِعَ إلى ذلك؛ فمنعَ الشِّقاقَ والتناحُر، والخلافَ والتنافُر، وتوعَّد كلَّ من تُسوِّلُ له نفسُه هذا الفعلَ الشَّيع بالخُلُود في العذابِ العظيم.
يقول تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 93].
يا قاتلَ البُرآءِ يومُكَ آتٍ *** ستنالُ فيه مرارةَ الحسَرَاتِ
أبشِر بيومٍ كالِحٍ تلقَى به *** من بعدِ ذُلِّ العيشِ ذُلَّ مماتِ
معاشر المؤمنين:
إن الإسلام دينُ السلام، وما شُرِعَت أحكامُ الشريعة إلا لمصالِح العبادِ في المعاشِ والمعاد، وحيثُما وُجِدَت المصلحةُ المُتيقَّنة فثَمَّ شرعُ الله؛ فشريعتُنا إعمارٌ لا دمار، بناءُ ونماءٌ لا هدمٌ وفناءٌ، إشادةٌ لا إبادة.
وما تعمَدُ إليه فِئامٌ مارِقةٌ ضالَّةٌ آبِقة، يمتشِقُون أسَلاتهم الناهِشة من إيقاظِ الفتنِ النائِمةِ، في أفكارٍ حالِمة، ومناهِجَ هائِمة، تعمَدُ إلى سَفكِ الدمِ الحرامِ، والعُتُوِّ في الأرضِ والإجرام، ومُحاولة طمسِ مُكتسَبَاتِ هذه الديار المُبارَكة، وتدمير مُنشآتِها ومُقدَّراتها، التي هي رمزُ قوَّتها، وعبْضُ سَطوتها المَتين، وأهبَتها بين العالَمين، وتقتيل الأبرياء والعُزَّل.
بل والأدهَى والأمَرُّ: التطاوُلُ على بيوت الله، والإضرارُ بالمساجِد ودُور العبادة، وانتِهاكُ حُرماتها، وترويعُ الساجِدين الآمِنين. كلُّ ذلك وأقلُّ منه يتنافَى مع مقاصِد شريعتِنا السامِية.
ولقد صحَّ عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «إن دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ كحُرمةِ يومِكم هذا، في شهرِكم هذا، في بلدِكم هذا» متفق عليه.
قال ابن عبَّاسٍ – رضي الله عنهما -: فوالذي نفسي بيدِه؛ إنها لوصيَّتُه لأمَّته: «فليُبلِّغِ الشاهِدُ الغائِبَ، ألا لا ترجِعوا بعدي كُفَّارًا يضرّبُ بعضُكم رّقابَ بعضٍ».
وصحَ عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «أولُ ما يُقضَى بين الناسِ يوم القيامة في الدماء»؛ متفق عليه.
قال الحافظُ ابن حجرٍ – رحمه الله -: "وفي هذا الحديثِ: عِظَمُ أمر الدم، فإن البداءَةَ إنما تكونُ بالأهم، والذنبُ يعظُمُ بحسبِ عِظَمِ المفسَدة، وتفويتِ المصلَحة، وإعدامُ البِنيَةِ الإنسانيَّة غايةٌ في ذلك، وقد وردَ في التغليظِ في أمر القتلِ آياتٌ كثيرة، وآثارٌ شهيرة". اهـ كلامُه – رحمه الله -.
وروى الإمام مسلمٌ في "صحيحه": أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إنها ستكونُ هنَاتٌ وهنَّاتٌ، فمن أرادَ أن يُفرِّقَ أمرَ هذه الأمةِ وهي جَمِيعٌ، فاضرِبُوه بالسَّيفِ كائِنًا مَن كان».
فهذا هو العدلُ والإنصافُ لمن أراد أن يُفرِّقَ جمعَ الأمةِ أو يحرِقَ وحدَتها. كيف بمن يقتُلُ ويصنعُ المُتفجِّرات، ويعملُ على ترويجِها، ويسعَى جاهدًا إلى زعزعَةِ الأمن وعدم استِقراره، ونشرِ الذُّعرِ بين أفرادِ المُجتمع، وتهُونُ عليه أرواحٌ مُعلَّقةٌ بالمساجِد، ما بين راكعٍ وساجِد، وعابِدٍ قائِمٍ وهاجِد. وشريعةُ الرحمن البديعة لا يمرُقُ عن حُدُودِها مارِق، ولا يُفارِقُ جماعتَها غالٍ مُفارِق إلا تلَّ الحقُّ للحدِّ خدَّه، وأنصفَ العدلُ هزْلَه وجِدَّه.
ومن أجلِ كينُونةِ النفوسِ العَلِيلَة، الباطِشَةِ الشرِّيرة، ودفعِ القتلِ المُرِيع، رتَّب المولَى – جلَّ في عُلاه – العقوبةَ القُصوَى على هذه الجريمة النَّكراء، يقول – جلَّ شأنُه -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ [البقرة: 178]، ويقول تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 179].
وما ذاك إلا توطيدًا للأمنِ وحمايةً للمُجتمع، وقطعًا لدابِرِ الجريمة، واستِئصالاً لكلِّ ما يُؤدِّي إلى انتِشارِ الفوضَى.
قِف عن القتلِ فقد جاوَزتَ حدَّك *** واتَّقِ اللهَ الذي إن شاءَ هدَّك
قِف عن القتلِ فإن القتلَ نارٌ *** سوفَ تُصلِي رأسَكَ الخاوِي وزنْدَك
إخوة الإسلام:
العدلُ فرضٌ مطلوب، وحقٌّ مرغوب، وإن بلغَ الظُّلمُ مداه فأودَى من أحياه الله، فتمامُ العدل أخذُ النفسِ بالنفسِ، والله أعلمُ بما يُصلِحُ خلقَه.
قال قتادةُ – رحمه الله -: "جعلَ الله هذا القِصاصَ حياةً ونكالاً وعِظةً لأهلِ السَّفَه والجهلِ من الناسِ، وكم من رجُلٍ قد همَّ بداهِية، لولا مخافةُ القِصاصِ لوقعَ بها، ولكنَّ الله حجَزَ بالقِصاص بعضَهم عن بعضٍ، وما أمرَ الله بأمرٍ قطُّ إلا وهو أمرُ صلاحٍ في الدنيا والآخرة، ولا نهَى الله عن أمرٍ قطُّ إلا وهو أمرُ فسادٍ في الدنيا والدين، واللهُ أعلمُ بالذي يُصلِحُ خلقَه".
وقال الإمام القرطبيُّ – رحمه الله -: "القِصاصُ إذا أُقيمَ وتحقَّقَ الحُكمُ فيه ازدَجَرَ من يُريدُ قتلَ آخر، مخافةَ أن يُقتصَّ منه. فحيَّا بذلك معًا". اهـ كلامُه – رحمه الله -.
والقِصاصُ منُوطٌ بوُلاةِ الأمر، وهو بهم خَصيصٌ.
يقول الإمام الماورديُّ – رحمه الله -: "ما يجِبُ على الإمام والذي يلزَمُه من الأمور أهمُّها: حفظُ الدين على أصولِه المُستقرَّة، وما أجمعَ عليه سلَفُ الأمة. فإن نجَمَ مُبتدِعٌ أو زاغَ ذو شُبهةٍ عنه، أوضحَ له المحجَّة، وبيَّن له الصوابَ، وأخذَه بما يلزَمُه من الحقوقِ والحُدود؛ ليكون الدينُ محروسًا من خلَل، والأمةُ ممنُوعةً من زَلَل".
ووضعُ النَّدَى في موضِعِ السَّيفِ بالعُلَا *** مُضِرٌّ كوضعِ السَّيفِ في موضِعِ النَّدَى
أمة الإسلام:
لقد جعلَ الله في القِصاص ردعًا لمن تضِبُ لَثَاتُه للشرِّ والعِدَى، أو صدَّه الهوى عن استِبصار الحقِّ والهُدى، وألقَى به في ضَحضَاحِ الرَّدَى. فإنه إن أبصرَ بارِقةَ السَّيف ضنَّ بحياتِه، وراجَعَ الأمرَ قبل فواتِه.
فالسَّيفُ أصدقُ إنباءً من الكُتُبِ *** في حدِّهِ الحدُّ بين الجِدِّ واللَّعِبِ
كم أحرَزَت قُضُبُ الهنديِّ مُصلَطَةً *** تهتَزُّ من قُضُبٍ تهتَزُّ في كُثُبِ
وبذلك تتحقَّقُ الحياةُ للجميع، من همَّ ومن سِيمَ به. وهذا وجهٌ من أوجُه الإعجاز التشريعيِّ في شريعتِنا الغرَّاء؛ حيث بلغَت الأحكامُ التشريعيَّةُ من الدقَّةِ والعدلِ والإنصافِ ما يُبهِرُ العُقلاء، كما أنها جمعَت بين الاعتِدال والوسطيَّة، والمُلاءَمة لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14].
إن تطبيقَ الحُدود والتعزيرات الشرعيَّة زواجِرُ وجوابِر، وإشاعةٌ للأمنِ والطُّمأنينةِ في المُجتمعات.
روى الإمام أحمد والنسائيُّ وابنُ ماجه وابنُ حبَّان في "صحيحه"، من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -، أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال: «حدٌّ يُعمَلُ به في الأرضِ خيرٌ لأهلِهَا من أن يُمطَروا أربعين صباحًا».
وهو راجِعٌ إلى تحقيقِ مقاصِد الشريعة لا إلى هوَى الأنفُسِ ورغبَاتها، وهي رحمةٌ بالخلقِ، وإحقاقٌ للحقِّ، وتوَخٍّ للعدلِ، ورفعٌ للظُّلم. فلا يُعقَلُ أن يتسَاوَى المُحسِنُ والمُسِيءُ، والمُستقيمُ والمُجرِمُ، ومتى علِمَ القاتلُ أنه سيُقتلُ كفَّ عن القتلِ.
وقديمًا قالت العربُ: "القتلُ أنفَى للقتلِ".
وتأمَّلُوا – يا رعاكم الله – الأسلوبَ القرآنيَّ الأبلَغ بأنه حياةٌ. نعم، حياةٌ لأهلِ الأرضِ جميعًا، الله أكبر!
وفي تطبيقِ الحُدود رفعٌ لمنارِ الشريعةِ، وحفظٌ وتمكينٌ للأمةِ. ولما كانت المُجتمعاتُ سُفُنَ نجاةٍ، تصِلُ بأهلِها إلى برِّ الأمانِ وشاطِئ السلام، وجبَ منعُ المُجرِمين والمُخرِّبين من خَرْقِها، ووجَبَ ألا يُسمَحَ للمُفسِدين والعابِثِين بثَقبِها.
كما يجِبُ الأخذُ على أيدِيهم بما يردَعُهم ويكُفُّ شرَّهم، ويمنَعُ بغيَهم. ولهذا شرعَ الله قتالَ البُغاةِ والخوارِج من أجل حفظِ الكلمة، وصِيانةِ البَيضَة، والمُحافَظة على اللُّحمَة، والبقاءِ على الجماعةِ، وصِيانةِ الأمن، وكفِّ الفوضَى.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: 33].
باركَ الله لي ولكم في الوحيَين، ونفَعني وإياكم بهديِ سيِّد الثَّقَلَين، أقولُ قولي هذا، وأسألُ اللهَ بأسمائِه الحُسنى وصفاتِه العُلى أن يغفِرَ لي ولكم، إن ربي لغفورٌ رحيمٌ.
حمدًا لله على آلائِه، وصلاةً وسلامًا على نبيِّنا محمدٍ وصحبِه وآله.
أما بعد .. فيا عباد الله:
اتَّقوا الله – تبارك وتعالى – حقَّ التقوى، واسعَوا لكلِّ صلاحٍ وإعمارٍ؛ تُدرِكوا – بإذن الله – أسمَى المنازِلِ والأقدار.
إخوة الإيمان:
إن من فضلِ الله – سبحانه – وعظيمِ آلائِه التي تلهَجُ بها الألسُنُ ابتِهالاً، ودُعاءً وشُكرًا وثناءً: ما منَّ الله به على هذه البلادِ المُبارَكة من تطبيقٍ لهذه الشريعةِ، وإقامةٍ لحُدودِها، في قضاءٍ نَزيهٍ مُستقيم، لا سُلطانَ لأحدٍ عليه غيرَ سُلطانِ الشَّرعِ الحَنيف، وعنايةٍ بمقاصِدِها وأهدافِها، والعملِ على نشرِ قِيَمها السَّامِية في العالَم أجمَع.
وما وُفِّق إليه وُلاةُ أمرِها من أخذِ التدابِير الواقِية، والقراراتِ الحازِمة لصدِّ سَلبيَّات هذه الأزمَات عن هذه البلاد المحرُوسة، بخُصوصيَّةٍ مكِينةٍ ثابِتة، وهوِيَّةٍ واقِعيَّةٍ راسِخة. فإن اللهَ جعلَ الإمامَ العادِلَ قِوامَ كلِّ مائِل، وقصدَ كلِّ جائِر، وصلاحَ كلِّ فاسِد، وقوَّةَ كلِّ ضعيفٍ، ونصَفَةَ كلِّ مظلُوم، ومفزَعَ كلِّ ملهُوف. وهو حِمَى الله في بلاده، وظِلُّه الممدُودُ على عبادِه، به يمتنِعُ حريمُهم، وينتصِرُ مظلُومُهم، وينقمِعُ ظالِمُهم، ويأمَنُ خائِفُهم.
ولا خيرَ في حلمٍ إذا لم تكُن له *** بوادِرُ تحمِي صفوَهُ أن يُكدَّرَا
ولا خيرَ في رأيٍ إذا لم يكُن له *** حكيمٌ إذا ما أوردَ الأمرَ أصدَرَا
ومن أجدرُ من بلاد الحرمين الشريفين، وهي التي تتمتَّعُ – بفضل الله – بالعُمق الدينيِّ والثِّقَل العالميِّ، والمكانةِ الدوليَّة المرمُوقة، وهي المُؤهَّلةُ دينيًّا وتأريخيًّا وحضاريًّا من حملِ الرايةِ في الأزَمَات الخانِقة، وذلك بإبرازِ النَّموذج الإسلاميِّ الحضاريِّ المُوفَّق، بإشراقاتِه وجماليَّاته في كلِّ مجالٍ من المجالات.
ولا ينالُ منها ولا يفُلُّ عزَمَاتها تلك الصَّيحاتُ الصَّارِخات، التي تظهرُ في غِمارِ المُلِمَّات والأحداث؛ حيث تظهرُ – كعادتِها – أفاعٍ من بين الأودِية فتنفُثُ بسُمُومها، وتُهيِّجُ بفَحِيحِها من يتباكَون بدُموع التماسِيح على سَفينة الأمةِ، وهم يخرِقُونها، وينُوحُون نَوحَ النَّائِحةِ المُستأجَرة، ويهرَعُ المُتصيِّدُون في المُستنقَعَات الآسِنة، في انتِضالِ نِصالِهم العفِنة صوبَ ثوابِتِنا وقِيَمنا الرَّاسِخة الشَّامِخة، في صُورةٍ انتِهازيَّةٍ مَقيتَة، ونفعيَّةٍ بغيضَة، وشِنشِنَةٍ أخزمِيَّةٍ مفضُوحَة.
مُتباكِين على الجُناةِ المُجرمين الظالِمين، مُتناسِين المُصابِين المظلُومين، مُدَّعين أن الحُدودَ قسوةٌ ووحشيَّة، وما هي إلا الرحمةُ بأعدَلِ صُورِها، مُشَنشِنِين بحُقوقِ الإنسان والحرية الشخصيَّة، وهم الكائِلُون بمِكيالَيْن، النَّاظِرون بعينِ السُّخطِ والإرهابِ والطائفيَّة، والله المُستعان.
ولقد اكتوَت بلادُنا – حرسَها الله – بنارِه، في حوادِثِ مُتكرِّرة، كان آخِرُها الجريمةَ النَّكراء في مُحافظَة الأحساء، في حلقةٍ سَوداء، ضمنَ سلسلةٍ دَهمَاء، من أعمال الإرهابِ العَميَاء، والفِتَنِ السَّحمَاء، والمِحَن الدَّهيَاء، التي ستتهَاوَى من خِلالِها أسَلاتُ الأعداء، على صخرةِ التلاحُم وقُوَّة البناءِ.
ألا فلتسْلَم بلادُ الحرمين الشريفين، ولتَهنَأْ موئِلُ العقيدة ومأرِزُ الإيمان، فلقد أثبتَت – بفضلِ الله – الخروجَ من الأزَمَات أكثر تماسُكًا، وأشدَّ تلاحُمًا وثقةً وإصرارًا على استِئصالِ شأفَةِ الإرهاب واجتِثاثِ جُذورِه، في كفاءَةٍ أمنيَّةٍ مُميَّزةٍ، يضطَلِعُ بها رجالُ أمنِنا الأشاوِس، في إنجازاتٍ مُبارَكة، واستِباقاتٍ مُوفَّقة.
ولتَبْقَ – بإذن الله – على مرِّ الدُّهور وكرِّ العُصور، شامَةً في دُنيا الواقِع، وأنمُوذَجًا يُحتَذَى، ومثلاً يُقتفَى في الأمن والأمان. وشاهَت وجوهُ الأعداء المُتربِّصين، وخسِئَت أعمالُ المُعتَدين المُفسِدين، وردَّ اللهُ كيدَ الكائِدين إلى نُحورِهم، وحفِظَ الله بلادَنا وسائرَ بلادِ المُسلمين من شرِّ الأشرار، وكيدِ الفُجَّار، إنه هو الواحدُ القهَّار.
هذا، وصلُّوا وسلِّموا – رحمكم الله – أن سرًّا وجهرًا على خيرِ الورَى طُرًّا، وأفضَلهم شرفًا وقدرًا: نبيِّنا محمدِ بن عبد الله القُرشيِّ الهاشميِّ، كما أمرَكم بذلك المولى الكريم العليُّ، فقال – جلَّ جلالُه -: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وقال – صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
صلَّى الإلهُ على النبيِّ مُحمدٍ *** عددَ الكواكِبِ والنُّجومِ وسَلَّمَا
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على الرحمةِ المُهداة، والنِّعمة المُسداة، وارضَ اللهم عن الأربعة الخُلفاء الراشدين، الذين قضَوا بالحقِّ وبه كانُوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمانَ، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشركين، ودمِّر أعداءَ الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مُطمئنًّا، وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا ووُلاةَ أمورنا، وأيِّد بالحقِّ إمامَنا ووليَ أمرنا، اللهم وفِّقه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بناصيتِه للبرِّ والتقوى، وهيِّئ له البِطانةَ الصالِحة التي تدُلُّه على الخير وتُعينُه عليه، اللهم وفِّقه ونائبَيه وإخوانَه وأعوانَه إلى ما فيه صلاحُ البلاد والعباد.
اللهم وفِّق جميعَ وُلاة المسلمين للعملِ بكتابِك وسُنَّة نبيِّك – صلى الله عليه وسلم -، اللهم اجعَلهم رحمةً على عبادِك المُؤمنين.
اللهم ادفَع عنَّا الغلا والوبَا، والرِّبا والزِّنا، والزلازِل والمِحَن، وسُوءَ الفتن ما ظهر منها وما بطَن، عن بلدِنا هذا خاصَّةً وعن سائر بلاد المُسلمين عامَّةً يا رب العالمين.
اللهم فرِّج همَّ المهمُومين من المُسلمين، ونفِس كربَ المكرُوبين، وفُكَّ أسرَ المأسُورين، واقضِ الدَّينَ عن المَدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين.
اللهم اغفِر للمُسلمين والمُسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.
اللهم انصُر إخوانَنا المُضطَهَدين في دينهم في سائر الأوطان، اللهم كُن لهم يا قوي يا عزيز.
اللهم كُن لإخوانَنا في فلسطين،، اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصَى من اليهود الصهاينة الغاصِبين المُحتلِّين، اللهم اجعَله شامِخًا عزيزًا إلى يوم الدين.
اللهم كُن لإخواننا في بلاد الشام، اللهم كُن لإخواننا في سُوريا، ومضايا، وكل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم إنهم حُفاةٌ فاحمِلهم، وجِياعٌ فأطعِمهم، ومظلُومون فانصُرهم، ومظلُومون فانصُرهم، يا ناصِر المُستضعَفين، اللهم فُكَّ حِصارَهم، وسُدَّ خلَّتَهم وجوعتَهم يا قوي يا عزيز، يا ذا الجلال والإكرام.
يا حي يا قيوم برحمتِك نستغيثُ، فلا تكِلنا إلى أنفُسِنا طرفةَ عينٍ، وأصلِح لنا شأنَنا كلَّه يا ذا الجلال والإكرام.
﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة: 201].
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم، واغفِر لنا ولوالدِينا ووالدِيهم وجميع المُسلمين، الأحياء منهم والميتين، برحمتِك يا أرحم الراحمين.
عباد الله:
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90].
فاذكُروا الله العظيمَ الجليلَ يذكُركم، واشكُروه على نعمِه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلمُ ما تصنَعون.