عناصر الخطبة
الحمد لله ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ [غافر: 3]، تفضَّل ربُّنا -عز وجل- علينا وعلى الناس بالخيرات، وصرف الشرور والسيئات، أحمدُ ربي وأشكُره وأتوبُ إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ربُّ الأرض والسماوات، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه الداعِي إلى الأعمال الصالحات، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ وعلى آله وصحبه الموصوفين بأفضل الصفات.
أما بعد:
فاتقوا الله حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى؛ فقد فازَ من اتَّقَى، وخابَ وخسِرَ من كفرَ وعصَى.
أيها المسلمون: لقد نزلَ بساحتِكم ضيفٌ كريم، امتنَّ الله عليكم فيه بموسمٍ عظيم، فشهرُ رمضان أفضلُ الشهور، ومن رحمة الله بِنا أن علَّمَنا الشهرَ الفاضِل والزمانَ الفاضِل، وشرعَ لنا فيه من الأعمال الصالحات ما يكون لنا بها في الآخرة أعظم الثواب، وما يكون لنا بها في الدنيا عونًا على استِقامة أحوالنا، وصلاحِ دُنيانا.
قال الله تعالى: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 239]، وقال تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ(152)﴾ [البقرة: 151، 152].
رمضانُ يُكفِّرُ الله بالأعمال الصالحة فيه ما بينه وبين رمضان الذي قبلَه؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الصلواتُ الخمس، والجُمعةُ إلى الجُمعة، ورمضانُ إلى رمضان مُكفِّراتٌ لما بينهنَّ إذا اجتُنِبَت الكبائر". رواه مسلم والترمذي.
وفضائلُ هذا الشهر كثيرةٌ في كتاب الله، وعن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا دخلَ رمضان فُتِّحَت أبوابُ الجنة، وأُغلِقَت أبوابُ جهنَّم، وسُلسِلَت الشياطين". رواه البخاري ومسلم.
وللترمذي من حديث أبي هريرة أيضًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا كان أولُ ليلةٍ من رمضان غُلِّقَت أبوابُ النار فلم يُفتَح منها باب، وفُتِّحَت أبوابُ الجنة فلم يُغلَق منها باب، ويُنادِي مُنادٍ: يا باغِيَ الخير: هلُمَّ وأقبِل، ويا باغِيَ الشرِّ: أقصِر، ولله عُتقاءُ من النار وذلك في كل ليلةٍ، حتى ينقضِي رمضان".
وعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "في الجنة بابٌ يُدعَى الريَّان لا يدخلُه إلا الصائِمون". رواه البخاري ومسلم.
ورمضانُ أنزلَ الله فيه من الخيرات والبركات على أمة الإسلام ما لا يُعدُّ ولا يُحصَى، وثوابُ صيامِه كفَّارةُ الآثام، ودخولُ دارِ السلام.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من صامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبِه". رواه البخاري.
وقيامُ رمضان كفَّارةٌ لما تقدَّم؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أيضًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبِه". رواه البخاري ومسلم.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من قامَ مع الإمام حتى ينصرِف كُتِب له قيامُ ليلة".
وفي هذا الشهر المُبارَك ليلةُ القدر؛ ففي الحديث: "من قامَ ليلةَ القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبِه". رواه البخاري.
ومما فضَّل الله به رمضان: أن الله جمعَ فيه أصولَ الإسلام، وأعمالَ البرِّ، وأبوابَ الخيرات؛ ففيه الصلوات الفرائض والنوافل مع الصوم، وفيه الصدقات والزكاة لمن يُزكِّي ماله فيه المُتقدِّم منه والمُتأخِّر، وفيه نوعُ الحجِّ لمن وُفِّق لعُمرة.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لامرأةٍ من الأنصار: "عُمرةٌ في رمضان تعدِلُ حجَّةً معي". أو "تعدِلُ حجَّة". رواه البخاري ومسلم.
وفيه جهادُ النفس والشيطان بكفِّها عن المُحرَّمات، وحملِها على الطاعات، وسدِّ أبواب الشيطان التي يدخلُ منها على الإنسان.
فيه أنواعُ الذِّكر الذي يجلُو صدأَ القلوب، وأعظمُ الذِّكر القرآنُ العظيم، ورمضانُ شهرُ القرآن الكريم، وهو أعظمُ النِّعَم على المُكلَّفين، يُبيِّنُ الحلالَ من الحرام، والحقَّ من الباطِل، والخيرَ من الشرِّ، والمنافع من المضارِّ والمفاسِد، والسعادةَ من الشَّقاوة، ويرتقِي بالإنسان إلى درجات الكَمال، ويبنِي كلَّ خُلُقٍ كريم، ويمحُو كلَّ خُلُقٍ ذَميم، ويُهذّبُ النفوسَ، ويُصلِحُ القلوبَ، ويُؤسِّسُ التوحيدَ لربِّ العالمين، ويُثبِّتُه ويُقوِّيه، ويهدِمُ أنواعَ الشِّرك، ويمحُو آثارَه، ويُزيلُها من أعماق النفس البشريَّة. وأيُّ نعمةٍ أعظم من ذلك؟!
وتلاوةُ القرآن تَزيدُ في ثواب الصيام والقيام، والقرآنُ العظيمُ أعظمُ مُعجِزات النبي -صلى الله عليه وسلم-، يُخاطِبُ العقولَ البشرية على اختِلاف مُستوياتها، ويدخلُ إلى العقول والقلوب من كل أبواب البراهِين والأدلَّة والإقناع ليستجيبَ المُكلَّفُ للحق، ويعمل به، ويُدافِع عنه، ويُحبَّه، ويدعُو إليه، ويعرِف الباطل، ويُبغِضَه، ويصُدَّه، ويُحذِّرَ منه.
أو يُعرِض عن الحق ويتَّبِع الباطل عِنادًا وإصرارًا عن بيِّنةٍ وقيام حُجَّةٍ على هذا المُعرِض عن القرآن الكريم، ولن يضُرَّ إلا نفسَه، قال الله تعالى: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ [الجاثية: 6]، وقال تعالى: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 185]، وقال -عز وجل-: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(8)﴾ [الجاثية: 7، 8].
وللقرآن العظيم سُلطانٌ وتأثيرٌ على القلوب، وخاصَّةً في هذا الشهر المُبارَك، وسرُّ تأثيره وقوة سُلطانه في رمضان أن القرآن غذاء الرُّوح، وصلاحُها، وقوتها، والطعام والشراب غذاء الأبدان، وفيه قوةُ النفس الأمَّارة بالسوء.
فإذا ضعُفَت قوةُ النفس الأمَّارة بالسوء قوِيَت الرُّوحُ بغِذاء القرآن وتلاوته، واستعلَت الرُّوح على شهوات البَدن، فاستقامَت أحوالُ المُكلَّفين، فاتَّصف الصائمُ بالتقوى التي هي جِماعُ كل خير؛ قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].
وتلاوةُ القرآن عبادةٌ يُضاعفُ ثوابُها؛ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قرأ حرفًا فله بكل حرف عشر حسنات، لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف".
أيها المسلمون: عظِّموا شهرَكم، واحفَظوا صِيامَكم؛ فما عُظِّم رمضان ولا استُقبِل بما هو أهلُه بمثل التوبة النَّصُوح، والخروج من المظالِم، ومُحاسبة النفس بالقيام بما قصَّرَت فيه. وكلٌّ أعلمُ بنفسه. فلا تدري -أيها المسلم- متى يأتيك الأجل.
وليس الصيامُ هو الإمساك عن الطعام والشراب فحسب؛ بل الصيام هو الإمساكُ عن المُفطِّرات، وصيامُ الجوارِح عن المعاصِي، والغِيبَة والنَّميمة، وآفات اللِّسان.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من لم يدَع قولَ الزُّور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يدَع طعامَه وشرابَه". رواه البخاري، وأبو داود، والترمذي.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "رُبَّ صائمٍ حظُّه من صيامِه الجوعُ والعطَش، ورُبَّ قائمٍ حظُّه من قيامِه السَّهر". رواه الطبراني.
وعن أبي عُبيدة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الصومُ جُنَّة ما لم يخرِقها". رواه النسائي. وزاد الطبراني: قيل: بم يخرِقُها؟! قال: "بكذبٍ أو غِيبةٍ".
أيها المسلمون: إن الزكاة قرينةُ الصلاة والصيام، وإنها حقُّ الله، فرضَها للفقراء، وهي طهارةٌ للمال، ونماءٌ للكسب، والحقوقُ في المال أكثرُ من الزكاة. وهذا الشهر الكريم شهرُ الإحسان والنفقات في أبواب الخير، فأدُّوا فيه زكاةَ أموالِكم يُبارَك لكم فيما آتاكم.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكونُ في رمضان، فلرسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- حين يلقاه جبريل كان أجودَ بالخير من الرِّيح المُرسَلة". رواه البخاري ومسلم.
ومنعُ الزكاة محقٌ لبركة المال، ولو أدَّى المسلمون كلُّهم زكاةَ أموالهم ما بقِيَ فقيرٌ بينهم.
أيها المسلم: تذكَّر أن هذا المال الذي بخِلتَ بزكاتِه والإنفاق منه أنك معه بين أمرَيْن: إما أن تتركَه إلى قبرِك، وإما أن يترُكك ذاهبًا عنك. وكلا الأمرَيْن حسرةٌ وندامةٌ. ولكم عِبَرٌ في الحياة بمن وقعَ له ذلك.
ومالُك -أيها المسلم- هو ما أنفقتَه في الزكاة وأبواب الخير، فاحرِص على أن يكون المالُ زادَك إلى الجنة، ولا يكُن زادَك إلى النار، قال الله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(134)﴾ [آل عمران: 133، 134].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعَني وإياكم بما فيه الآيات والذكر الحكيم، ونفعَنا بهدي سيِّد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله العليِّ الأعلى، الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهدَى، أحمدُ ربِّي وأشكرُه على نعمه التي لا تُحصَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحُسنى، وأشهد أن نبيِّنا وسيِّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه المُصطفى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبِه أولِي البرِّ والتُّقَى.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واحذَروا معاصِيه؛ فإن المعاصِي عارٌ ونارٌ.
عباد الله: زكُّوا صيامَكم بالاستِكثار من الأعمال الصالحات، واعمُروا أوقاتَكم بالحسنات، وإيَّاكم وتضييعَ الأوقات في اللَّهو واللَّعِب ومجالس الغفلة والشُّرور والسيئات، وإهدار الساعات في مشاهدة المُسلسلات والفضائيات، والسهر فيما لا ينفع في الدين ولا في الدنيا.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ". رواه البخاري.
وقال الله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [الأعراف: 205].
أيها المسلمون: أنتم ترَون وتسمَعون ما نزلَ بالمسلمين من الشدائد والكرب العظيم في كثيرٍ من البلاد، وقد قال الله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60].
فادعُوا الله أن يرفعَ عن المسلمين ما نزلَ بهم من البلاء، وأن يُؤلِّف بين قلوبِهم، وأن يكفِيَهم شُرورَ أنفسهم وشُرورَ غيرهم، وفي الحديث: "الدعاءُ مُخُّ العبادة".
عباد الله: إن الله أمرَكم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، فقال -تبارك وتعالى-: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا".
فصلُّوا وسلِّموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد.
اللهم صلِّ على سيدنا ونبيِّنا محمدٍ، وعلى أزواجه وذريَّته يا رب العالمين، اللهم وارضَ عن الصحابة أجمعين، وعن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكر، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر أصحاب نبيِّك أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عنا معهم بمنِّك وكرمِك ورحمتك يا أرحم الراحمين.