عناصر الخطبة
الحمدُ للهِ عظيمِ الصِّفاتِ وَالأسماءِ، جَزيلِ البِرِّ وَالعَطاءِ، جعلَ قُلوبَ أوليائِهِ بَيْنَ الخَوْفِ وَالرَّجاءِ، أحمدُهُ -سبحانَهُ- حمداً يملأُ ما بَيْنَ الأرضِ وَالسماءِ، وأشكرُهُ عَلَى عظيمِ الهِبَةِ وَالنَّعْماءِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له المتَفَرِّدُ برِداءِ الكِبْرِياءِ، وَالمُتَوَحِّدُ بصِفاتِ المجْدِ وَالعَلاءِ، وأشهدُ أنْ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، صَفْوَةُ الخَلْقِ وسَيِّدُ الأنبياءِ، عَطَّرَ أَرِيجُ شَمائِلِهِ الأَرْجاءَ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلِهِ وصحبِهِ السَّادَةِ الأتْقِياءِ، أُولِي الفَضْلِ وَالثَّناءِ، وعَلَى مَنْ تَبِعَهم بإحْسانٍ إلى يَوْمِ النِّداءِ.
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وتدبروا كتاب الله فقد حثكم على فعل الطاعات وبيّن لكم ثوابها وثمراتها لتكثروا منها، ونهاكم عن المعاصي وبين لكم عقابها وآثارها الضارة لتحذروا منها وتجتنبوها، كما أنه وصف لكم الجنة وما فيها من النعيم والفوز المقيم لتعملوا لها، ووصف لكم النار وما فيها من العذاب الأليم والهوان المقيم؛ لتتركوا الأعمال الموصلة إليها.
وهكذا كثيرًا ما نجد آيات الوعد إلى جانب آيات الوعيد، وذكر الجنة إلى جانب ذكر النار؛ ليكون العبد دائمًا بين الخوف والرجاء, لا يأمن من عذاب الله ولا ييأس من رحمة الله، فالمؤمن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء، وقد يُغلِّب أحدهما في بعض الأوقات لحاجة، فإذا عصى غلَّب جانب الخوف ليتوب، وإذا تاب غلَّب جانب الرجاء يطلب عفو الله.
عباد الله: إن الخوف من النار شعار الصالحين، الذين يقيمون الليل خاشعين لربهم يرجون عتق رقابهم من النار، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ(192)﴾ [آل عمران: 190 192]، وقال تعالى في وصف عباد الرحمن أنهم خائفون من النار ومن دوام عذابها، وأنهم ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا(66)﴾ [الفرقان: 65- 66].
ووصف ربنا عباده بأنهم يخافون من النار، فقال -جل وعلا-: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾ [المعارج: 27] وقال -سبحانه- في صفات الناجين من العذاب بأنهم كانوا في الدنيا يخافون، فقال: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾ [إبراهيم: 14]، وأخبرنا ربنا أن أهل الجنة كانوا في الدنيا وفي أهلهم ودورهم يخافون ربهم ويخشون من عذاب النار، فقال تعالى: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ) [الطور: 25 27].
قال إبراهيم التيمي: “ينبغي لمن لم يحزن أن يخاف أن يكون من أهل النار؛ لأن أهل الجنة قالوا: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾ [فاطر: 34] وينبغي لمن لم يشفق أن يخاف أن لا يكون من أهل الجنة؛ لأنهم قالوا ﴿إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ﴾ [الطور: 26]”.
وقد كان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كثيراً ما يستعيذ من النار، ويأمر بذلك في الصلاة وغيرها، والأحاديث في ذلك كثيرة، قال أنس: كان أكثر دعاء النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: “اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار” [البخاري (4522)]، وعن أبي هريرة، أنه سمع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: “اللهم إني أعوذ بك من حر جهنم” [النسائي (5535) وصححه الألباني].
أيها الإخوة: الخوف من عذاب جهنم لا ينجو منه أحد من الخلق حتى أنبياء الله ورسله يخافون من العذاب، وقد توعد الله -سبحانه- خاصة خلقه على المعصية، قال الله تعالى مخاطبًا عبده محمدًا -صلى الله عليه وسلم-: ﴿ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا﴾ [الإسراء: 39]، وحذره من الشرك فقال: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الزمر: 65]، وقال في خلق الملائكة المكرمين: ﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 29].
وعن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في حديث الشفاعة، قال: “فيأتون آدم وذكر الحديث، وقال: فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً، لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه أمرني بأمر فعصيته، فأخاف أن يطرحني في النار، انطلقوا إلى غيري، نفسي نفسي، وذكر في نوح وإبراهيم وموسى وعيسى مثل ذلك، كلهم يقول: نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي..” [البخاري (4712)، ومسلم(194)] .
ولذلك لم يزل الأنبياء والصديقون، والشهداء، والصالحون، يخافون النار ويخوفون منها, فقد روى ابن المبارك عن حكيم من الحكماء قال: “إني لأستحي من الله -عز وجل-، أن أعبده رجاء ثواب الجنة -أي: فقط فأكون كالأجير السوء-، إن أُعطي عمل، وإن لم يُعط لم يعمل، وإني لأستحي من الله أن أعبده مخافة النار -أي: فقط فأكون كعبد السوء-، إن رهب عمل، وإن لم يرهب لم يعمل، وإنه يستخرج حُبه مني ما لا يستخرجه مني غيره“.
وكان بعض السلف يقول: “من عبد الله بالرجاء وحده، فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبد الله بالحب وحده، فهو زنديق، ومن عبده بالخوف والرجاء والمحبة، فهو موحد مؤمن“. وسبب هذا؛ أنه يجب على المؤمن أن يعبد الله بهذه الوجوه الثلاثة: المحبة والخوف والرجاء، ولا بد له من جميعها، ومن أخل ببعضها، فقد أخل ببعض واجبات الإيمان.
وكلام هذا الحكيم يدل على أن الحب ينبغي أن يكون أغلب من الخوف والرجاء، وقد قال الفضيل بن عياض: “المحبة أفضل من الخوف“، ثم استشهد بكلام هذا الحكيم، وكذا قال يحيى بن معاذ: “حسبك من الخوف ما يمنع من الذنوب، ولا حسب من الحب أبدًا“.
عباد الله: فأما الخوف والرجاء، فأكثر السلف على أنهما يستويان، لا يرجح أحدهما على الآخر، ومنهم من رجّح الخوف على الرجاء، قال حذيفة المرعشي: “إن عبداً يعمل على خوفٍ لَعبدُ سوء، وإن عبداً يعمل على رجاءٍ لَعبدُ سوء، كلاهما عندي سواء“، ومراده: إذا عمل على إفراد أحدهما عن الآخر، وقال وهيب بن الورد: “لا تكونوا كالعامل، يقال له: تعمل كذا وكذا، فيقول: نعم إن أحسنتم لي من الأجر“، ومراده: ذم من لا يلحظ في العمل إلا الأجر”.
وقد أشار النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى أن نعم الله على عباده تستوجب منهم شكره عليها، وحياءهم منه، فلما قام حتى تورمت قدماه، فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ ! قال: “أفلا أكون عبداً شكوراً” [البخاري(4836)].
لذلك كان أكمل الخوف والرجاء، ما تعلق بذات الحق -سبحانه-، دون ما تعلق بالمخلوقات في الجنة والنار، فأعلى الخوف: خوف البعد، والسخط، والحجاب عنه -سبحانه-، كما قدم -سبحانه- ذكر هذا العقاب لأعدائه على صليهم النار، في قوله: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ(16)﴾ [المطففين: 15، 16].
إن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة، واستدعاهم الرب -سبحانه- إلى زيارته، ومشاهدته، ومحاضرته يوم المزيد، فإنهم ينسون عند ذلك كل نعيم عاينوه في الجنة قبل ذلك، ولا يلتفتون إلى شيء مما هم فيه، من نعيم الجنة، حتى يحتجب عنهم -سبحانه-، ويحقرون كل نعيم في الجنة، حين ينظرون إلى وجهه -جل جلاله-، كما جاء في أحاديث يوم المزيد، فلو أنهم ذُكِّروا حينئذ بشيء من نعيم الجنة لأعرضوا عنه، ولأخبروا أنهم لا يرونه في تلك الحال، وكذلك لو خُوِّفوا عذاباً ونحوه، لم يلتفوا إليه، وربما لم يستشعروا ألمه في تلك الحال، وإنما يحذرون حينئذ من الحجاب عما هم فيه، والبعد عنه، فإذا رجعوا إلى منازلهم، رجعوا إلى ما كانوا عليه، من التنعم بأنواع المخلوق لهم، بل يزداد نعيمهم بذلك، مع شدة شوقهم إلى يوم المزيد ثانياً .
فهكذا حال المؤمنين الصادقين في الدنيا، إذا تجلى على قلوبهم أنوار الإحسان، واستولى عليها المثل الأعلى، فإن هذا من شواهد ما يحصل لهم في الجنة يوم المزيد، فهم لا يلتفتون في تلك الحال إلى غير ما هم فيه، من الأنس بالله، والتنعم بقربه، وذكره ومحبته، حتى ينسوا ذكر نعيم الجنة، ويصغر عندهم بالنسبة إلى ما هم فيه، ولا يخافون حينئذ أيضاً، غير حجبهم عن الله، وبعدهم عنه، وانقطاع مواد الأنس به، فإذا رجعوا إلى عقولهم، وسكنت عنهم سلطنة هذا الحال وقهره، وجدوا أنفسهم وإرادتهم باقية، فيشتاقون حينئذ إلى الجنة، ويخافون من النار، مع ملاحظتهم لأعلى ما يشتاق إليه من الجنة، ويخشى منه من النار.
وأيضاً فأهل المحبة والصدق من عباد الله -سبحانه- قد يلاحظون أن النار ناشئة عن صفة انتقام الله، وبطشه وغضبه، والأثر يدل على المؤثر، فجهنم دليل على عظمة الله، وشدة بأسه وبطشه، وقوة سطوته وانتقامه في أعدائه، فالخوف منها في الحقيقة، خوف من الله، وإجلال وإعظام، وخشية لصفاته المخوفة، كما قال -سبحانه-: ﴿لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾ [الزمر: 16]، مع أن الله -سبحانه- يخوّف بها عباده، ويحب منهم أن يخافوه بخوفها، وأن يخشوه بخشية الوقوع فيها، وأن يحذروه بالحذر منها، فالخائف من النار خائف من الله.
أيها الإخوة: والقدر الواجب من الخوف، ما حمل على أداء الفرائض، واجتناب المحارم، فإن زاد على ذلك، بحيث صار باعثاً للنفوس على التشمير في نوافل الطاعات، والانكفاف عن دقائق المكروهات، والتبسط في فضول المباحات، كان ذلك فضلاً محموداً، فإن تزايد على ذلك، بأن أورث مرضاً، أو موتاً، أو هماً لازماً، بحيث يقطع عن السعي في اكتساب الفضائل المطلوبة، المحبوبة لله -عز وجل-، لم يكن محموداً.
عباد الله: وقد حثنا ربنا على الخوف منه، فقال -تبارك وتعالى-: ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ(16)﴾ [الزمر: 15- 16]. وفي آية أخرى يرشد ربنا الجليل عباده إلى عدم الخوف من غيره، فقال -جل وعلا-: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 175]، فكلما زاد إيمان العبد وارتفع، كانت معرفته بربه أكبر، ومن ثم تكون خشيته من ربه وخوفه منه أعظم، وطاعته له أكثر، فاللهم اجعلنا نخشاك كأننا نراك، وأسعدنا بتقواك.
وقد حثَّ النبي الأمين -صلى الله عليه وسلم- عباد الله على الخوف منه واستحضار جلاله وعظمته، فعن أنس عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: “والذي نفس محمد بيده، لو رأيتم ما رأيت، لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً”، قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: “رأيت الجنة والنار“[مسلم (426)].
وفي صورة أخرى يوصي النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بالخوف من الله تعالى، مبينًا لهم شيئا من عظمة الله وجلاله، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، أَطَّت السَّمَاءُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ، لَوْ عَلِمْتُمْ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَلَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشَاتِ، وَلَخَرَجْتُمْ عَلَى أَوْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ” [الترمذي (2312) وحسنه الألباني].
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- حريصًا على أن يسأل ربه أن يرزقه الخشية منه، وكان يعلّم أصحابه أن يدعوا ربهم ويسألوه أن يرزقهم من الخوف ما يمنعهم من عصيان ربهم -سبحانه-، فعن ابن عمران قال : “قلما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: “اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصيبات الدنيا” [الترمذي (3502) وحسنه الألباني].
وعلى هذا المنوال سار سلف الأمة الصالحون، فكانوا يستحضرون الخوف من الله وخشيته، وكان ذكر النار ينغص عليهم معيشتهم ويذكرهم بنار الآخرة ولهم في هذا مواقف مشهورة، فلما سمع عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – رجلاً يتهجد في الليل، ويقرأ سورة الطور، فلما بلغ إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ(8)﴾ [الطور: 7، 8]، قال عمر: “قسم ورب الكعبة حق، ثم رجع إلى منزله، فمرض شهراً يعوده الناس، لا يدرون ما مرضه“.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم منه بالآيات والذكر الحكيم، وأجارني وإياكم من عذابه الأليم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم فاستغفروه.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.
عباد الله: قال يزيد بن حوشب: “ما رأيت أخوف من الحسن، وعمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تخلق إلا لهما“، وروى عن حفص بن عمر، قال: “بكى الحسن، فقيل ما يبكيك ؟ قال: أخاف أن يطرحني غداً في النار ولا يبالي”، وعن الفرات بن سليمان، قال: “كان الحسن يقول: إن المؤمنين قوم ذلت والله منهم الأسماع والأبصار والأبدان، حتى حسبهم الجاهل مرضى، وهم والله أصحاب القلوب، ألا تراه يقول: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [فاطر: 34]، والله لقد كابدوا في الدنيا حزناً شديداً، وجرى عليهم ما جرى على من كان قبلهم، الله ما أحزنهم ما أحزن الناس، ولكن أبكاهم وأحزنهم، الخوف من النار”.
ورد من حديث عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، قال” سمعت عبد الله بن حنظلة يوماً، وهو على فراشه، وعدته من علته، فتلا رجل عنده هذه الآية، ﴿لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾ [الأعراف: 41]، فبكى، حتى ظننت أن نفسه ستخرج، وقال: “صاروا بين أطباق النار”، ثم قام على رجليه، فقال قائل: “يا أبا عبد الرحمن اقعد“، قال: “منعني القعود ذكر جهنم، ولا أدري لعلي أجدهم“.
وعن عبد الرحمن بن مصعب، أن رجلاً كان يوماً على شط الفرات، فسمع تالياً يتلو: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾ [الزخرف: 74] فتمايل، فلما قال التالي: ﴿لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ [الزخرف: 75]، سقط في الماء فمات. وروي أن عمر بن عبد العزيز، كان أمير المدينة، وقرأ عنده رجل: ﴿وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا﴾ [الفرقان: 13]، بكى عمر حتى غلبه البكاء، وعلا نشيجه، فقام من مجلسه، ودخل بيته، وتفرق الناس.
وقال سرار أبو عبد الله: عاتبت عطاء السلمي في كثرة بكائه، فقال لي: “يا سرار، كيف تعاتبني في شيء ليس هو لي؟ إني إذا ذكرت أهل النار، وما ينزل بهم من عذاب الله -عز وجل- وعقابه، تمثلت لي نفسي بهم، فكيف لنفس تغل يداها إلى عنقها، وتسحب إلى النار، أن لا تبكي وتصيح؟ وكيف لنفس تعذب أن لا تبكي؟”. قال العلاء بن زياد: “كان إخوان مطرف عنده، فخاضوا في ذكر الجنة، فقال مطرف: لا أدري ما تقولون! حال ذكر النار بيني وبين الجنة “.
لقد شغلت النار من يعقل، عن ذكر الجنة، عوتب يزيد الرقاشي على كثرة بكائه، وقيل له: “لو كانت النار خلقت لك ما زدت على هذا، فقال: وهل خلقت النار إلا لي ولأصحابي، ولإخواننا من الجن والإنس؟ أما تقرأ ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ﴾ [الرحمن: 31]، أما تقرأ ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ﴾ [الرحمن: 35]، فقرأ حتى بلغ: ﴿يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ﴾ [الرحمن: 44]، وجعل يجول في الدار، ويصرخ ويبكي، حتى غشي عليه “.
عباد الله: والرجاء في سَعَة رَحْمَة الله وَأَنَّ رحمته تغلب غَضَبه حال مطلوبة وعبادة مشروطة، وطاعة إذا توافرت ضوابطها قادت العباد إلى الإقبال على ربهم وشكره وحسن عبادته، فالله الجليل -سبحانه- أنعم على عباده وأَفَاضَ عليهم بالْخيرَات، وَمنَّ بالنعم الكثيرة الَّتِي مَلَأت مَا بَين الْأَرْضين وَالسَّمَاوَات، وهو -سبحانه- الَّذِي يسْتَخْرج من ظلمات الْكفْر، ويستنقذ من غَمَرَات الْجَهْل، وَيغْفر الذُّنُوب، وَيسْتر الْعُيُوب، وينفس عَن المكروب، ويجيب الْمُضْطَر إِذا دَعَاهُ، وَلَا يُبَالِي أطاعه عَبده أم عَصَاهُ، هذا أرْحم الرَّاحِمِينَ، وَأكْرم الأكرمين.
وقد وردت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحاديث وآثار كثيرة تفتح باب الأمل والرجاء في رحمة الله -سبحانه-، فعن أبي هُرَيْرَة -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعت رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُول: “جعل الله الرَّحْمَة مائَة جُزْء، فَأمْسك عِنْده تِسْعَة وَتِسْعين، وَأنزل فِي الأَرْض جزءًا وَاحِدًا، فَمن ذَلِك الْجُزْء يتراحم الْخَلَائق، حَتَّى ترفع الدَّابَّة حافرها عَن وَلَدهَا؛ خشيَة أَن تصيبه” [مسلم (2752)]، وَلمُسلم فِي لفظ آخر: “كل رَحْمَة مِنْهَا طباق مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض، فَإِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة أكملها بِهَذِهِ الرَّحْمَة” [مسلم(2753)]. وعَنه أَن رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “لما خلق الله الْخلق، كتب فِي كِتَابه، فَهُوَ عِنْده فَوق الْعَرْش، أَن رَحْمَتي تغلب غَضَبي” [مسلم2751)] فسبحان ربنا ما أرحمه وما أعظم الرجاء في كرمه!!.
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض مغازيه، فبينما هم يسيرون، إذ أخذوا فرخ طير، فأقبل أحد أبويه، حتى سقط في أيدي الذي أخذه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “ألا تعجبون لهذا الطير! أخذ فرخه فأقبل حتى سقط في أيديهم، والله؛ لله أرحم بخلقه من هذا الطير بفرخه” [مسند البزار (1/412) وقال الهيثمي مجمع الزوائد (11/ 327): رواه البزار من طريقين، ورجال إحداهما رجال الصحيح].
وهذا رجل عظُم رجاؤه في الله فما خيَّب الله رجاءه، فعَن أنس بن مَالك -رَضِي الله عَنهُ- عَن النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “يخرج من النَّار أَرْبَعَة فيعرضون على الله -عز وَجل- فيلتفت أحدهم فَيَقُول: أَي رب إِذْ أخرجتني مِنْهَا فَلَا تُعدني فِيهَا، قَالَ: فينجيه الله تَعَالَى مِنْهَا” [مسلم(192)].
ويفتح النبي -صلى الله عليه وسلم- باب الأمل للمذنبين بسعة الرجاء في رحمة أرحم الراحمين، فعن أبي هُرَيْرَة -رَضِي الله عَنهُ- عَن النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَو لم تذنبوا لذهب الله بكم وَجَاء بِقوم يذنبون فيستغفرون فَيغْفر لَهُم” [مسلم (2749)]، وهذا الحديث يفتح الأمل للعمل والرجاء لا للكسل والتراخي.
فجددوا همتكم، وارجوا الله واليوم الآخر، واعملوا لما بعد الموت، فما أجدرنا -أيها الإخوة- أن نعظّم ربنا ونوقره، ونخافه ونتقيه، ونسير إليه بين الخوف والرجاء.
أسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، وأن يحسن لنا الختام، وألا يتوفانا إلا وهو راضٍ عنا، اللهم ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيمًا.