عناصر الخطبة
أما بعد:
عباد الله: حينما يحاصر المسلم من كل جهة، ويضيق عليه الخناق، فلا يستطيع الانتصار لنفسه، ولا الثأر لإخوانه المظلومين، ولا يقدر على التخلص من الظلم الصارخ الذي أحاط به من كل جانب، تفتح له السماء أبوابها، وتأتيه منافذ الفرج، ويتنزل عليه المدد، إنه مدد السماء، من رب الأرباب، وخالق الأسباب، مهلك الجبابرة، وقاصم القياصرة، الذي أهلك عادًا الأولى، وثمود فما أبقى، وقوم نوح من قبل، إنهم كانوا هم أظلم وأطغى.
مدد السماء ليقول له الرب: "مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ".
أمة الإسلام: إن رحمة الله -تبارك وتعالى- تتجلى في هذا السلاح الفتاك الذي منحه الله للمظلومين والمقهورين، والذي ينال به الإنسان من الذين ظلموه وقهروا إخوانه، بل إن الملوك والدول الظالمة الطاغية مهما بلغت في الطغيان، والتجبر قد تسقط بالدعاء.
هذا فرعون الذي بلغ من الطغيان والجبروت ما بلغ، حتى إنه استعبد أهل مصر كلهم، وبلغ به من صلفه وغروره ما قاله الله -جل وعلا-: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ(42)﴾ [القصص:38-42]
فدعا عليه نبي الله موسى: ﴿وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ(89)﴾ [القصص:88-89] ذكر أهل السير أن كسرى لما بعث له رسول الله –صلى الله عليه وسلم- رسالة يدعوه فيها إلى الإسلام، مزقها، فلما بلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- قال: "اللهم مزق ملكه". وثبت في الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اذهبوا إلى صاحبكم فأخبروه أن ربي قد قتل ربه الليلة". يعني كسرى.
عباد الله: لقد وردت أحاديث كثيرة تفيد أن دعوة المظلوم من الدعوات المستجابة، منها ما في صحيح البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنه-، لما بعث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- معاذًا إلى اليمن، وأوصاه، قال له في آخر وصيته: "واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب".
وعند الترمذي والإمام أحمد وأبي داود عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "ثَلاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ".
بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يستعيذ من دعوة المظلوم، كما في صحيح مسلم في دعاء السفر.
وعن خزيمة بن ثابت قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا دعوة المظلوم؛ فإنها تُحمل على الغمام، يقول الله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين".
مر أسد بن عبد الله القسري -وهو والي خراسان- بدار من دور الخراج، ورجل يعذَّب في حبسه، وحول أسد هذا مساكين يستجدونه، فأمر لهم بدراهم تقسم فيهم، فقال الرجل الذي يعذب: إن كنت تعطي من ترحم، فارحم من تظلم، إن السماوات تنفرج لدعوة المظلوم، فاحذر من ليس له ناصر إلا الله، ولا جنة له إلا الثقة بنزول التغيير، ولا سلاح له إلا الابتهال إلى من لا يعجزه شيء. يا أسد: إن البغي يصرع أهله، والبغي مصرعه وخيم، فلا تغتر بإبطاء الغياث من ناصر، متى شاء أن يغيث أغاث، وقد أملى لهم كي يزدادوا إثمًا.
أما والله إن الظلـم شـؤم *** ومازال المسيء هو الظلوم
إلى ديـان يوم الدين نمضي *** وعند الله تجتمع الخصـوم
في الصحيحين -واللفظ لمسلم- عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ أَنَّ أَرْوَى بنت أويس خَاصَمَتْهُ فِي بَعْضِ دَارِهِ فَقَالَ: دَعُوهَا وَإِيَّاهَا؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنْ الأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ طُوِّقَهُ فِي سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، اللَّهُمَّ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَأَعْمِ بَصَرَهَا وَاجْعَلْ قَبْرَهَا فِي دَارِهَا، قَالَ: فَرَأَيْتُهَا عَمْيَاءَ تَلْتَمِسُ الْجُدُرَ تَقُولُ: أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، فَبَيْنَمَا هي تَمْشِي فِي الدَّارِ مَرَّتْ عَلَى بِئْرٍ فِي الدَّارِ فَوَقَعَتْ فِيهَا فَكَانَتْ قَبْرَهَا.
أيها المؤمنون: الدعاء على الظالم، أمر مشروع، لا سيما إذا كان الظلم واقعًا على المسلمين، وتزداد هذه المشروعية إذا كان الظالم كافرًا، وربما يقال بوجوب الدعاء على الظالم الذي يحارب الإسلام وأهله إذا لم يكن ثمة سبيل لإيقاف عدوانه على الإسلام وكف شره عن المسلمين، إلا سبيل الدعاء، وكف عدوان الظلمة والمتجرئين على الإسلام واجب، كما أن كف شرهم عن المسلمين واجب أيضًا، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
قال الله -جل وعلا-: (لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِلسُّوء مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً) [النساء:148].
عن ابن عباس قال: "لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد، إلا أن يكون مظلومًا، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه، وإن صبر فهو خير له".
لقد قنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شهرًا يدعو على أحياء من العرب، في صحيح البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رِعْلاً وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ وَبَنِي لَحْيَانَ اسْتَمَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى عَدُوٍّ فَأَمَدَّهُمْ بِسَبْعِينَ مِنْ الأَنْصَارِ كُنَّا نُسَمِّيهِمْ الْقُرَّاءَ فِي زَمَانِهِمْ كَانُوا يَحْتَطِبُونَ بِالنَّهَارِ وَيُصَلُّونَ بِاللَّيْلِ، حَتَّى كَانُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ قَتَلُوهُمْ وَغَدَرُوا بِهِمْ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو فِي الصُّبْحِ عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ وَبَنِي لَحْيَانَ.
وفي غزوة الخندق لما حاصر الأحزاب المسلمين في المدينة، واشتغل النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- وبعض أصحابه في مدافعة المشركين، قال بعد ذلك: "شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس، ملأ الله قبورهم وبيوتهم -أو أجوافهم (شك الراوي)- نارًا". رواه الجماعة عن علي بن أبي طالب.
وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى أَحَدٍ أَوْ يَدْعُوَ لأَحَدٍ قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، فَرُبَّمَا قَالَ إِذَا قَالَ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْد،ُ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ". يَجْهَرُ بِذَلِكَ.
عباد الله: وا عجبًا من هؤلاء الظلمة والطغاة، ألم يتفكروا في مصائر من قبلهم، أين الأمم السوالف قبلهم!! أين عاد وثمود؟! أين فرعون والنمرود؟! أين القياصرة، أين الجبابرة، أين كسرى والروم؟!
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ(14)﴾ [الفجر:6-14].
لا إله إلا الله، لا إله إلا الله.
فيا أسفًا على الظلمة الفجار؛ يخطئون على أنفسهم بالليل والنهار، والشهوات تفنى وتبقى الأوزار، كم ظالم تعدى وجار، فما راعى الأهل والجار.
أمة الإسلام: لا يهولنكم قوة عدوكم، ولا كثرة عتادهم، ولا طول طغيانهم، اجأروا إلى ربكم واستنصروه على هؤلاء الأعداء، فلن يغلب عسكر واحد عسكرين من الدعاء، والأعداء، ولن يُنصر في الأرض من حورب من السماء.
قال بعض البلغاء: "أقرب الأشياء صرعة الظلوم، وأنفذ السهام دعوة المظلوم".
أتهزأ بالدعــاء وتزدريه *** ولا تـدري بما صنع الدعاء
سهام الليل لا تخطي ولكن *** لهـا أمد وللأمـد انقضاء
وقـد شـاء الإله بما تراه *** فما للملك عندكــم بقاء
قال بعض الأمراء: "دعوتان أرجو إحداهما بقدر ما أخاف الأخرى، دعوة مظلوم أعنتُه، ودعوة ضعيف ظلمتُه".
أورد ابن كثير في البداية والنهاية عن وهب بن منبه هذه القصة، قال: ركب ابن ملك من الملوك في جند من قومه وهو شاب، فصرع عن فرسه، فدقت عنقه، فمات في أرض قريبة من قرية من القرى، فغضب أبوه وحلف أن يقتل أهل تلك القرية عن آخرهم، وأن يطأهم بالأفيال، فما أبقت الأفيال وطئته الخيل، فما أبقت الخيل وطئته الرجال، فتوجه إليهم بعد أن سقى الأفيال والخيل خمرًا، وقال: "طؤوهم بالأفيال، فما أبقت الأفيال فلتطأه الخيل، فما أخطأته الخيل فلتطأه الرجال".
فلما سمع بذلك أهل تلك القرية وعرفوا أنه قد قصدهم لذلك، خرجوا بأجمعهم فجأروا إلى الله سبحانه وعجّوا إليه وابتهلوا يدعونه تعالى ليكشف عنهم شر هذا الملك الظالم وما قصده من هلاكهم، فبينما الملك وجيشه سائرون على ذلك، وأهل القرية في الابتهال والدعاء والتضرع إلى الله تعالى؛ إذ نزل فارس من السماء فوقع بينهم، فنفرت الأفيال فطغت على الخيل وطغت الخيل على الرجال، فقتل الملك ومن معه وطئًا بالأفيال والخيل، ونجى الله أهل تلك القرية من بأسهم وشرهم.
﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ [النمل:62]
وجد خمارويه أحمد بن طولون -أحد الأمراء- مرة في جيبه رقعة لم يعرف من رفعها، ولا من قالها، فإذا فيها مكتوب: "أما بعد: فإنكم ملكتم، فأسرتم، وقدرتم فأشرتم، ووسع عليكم، فضيقتم، وعلمتم عاقبة الدعاء، فاحذروا سهام السحر، فإنها أنفذ من وخز الإبر، لا سيما وقد جرحتم قلوبًا قد أوجعتموها، وأكبادًا أجعتموها، وأحشاءً أنكيتموها، ومقلاً أبكيتموها، ومن المحال أن يهلك المنتظِرون ويبقى المنتظَرون، فاعملوا إنا عاملون، وجوروا إنا بالله مستجيرون، واظلموا فإنا إلى الله متظلمون: ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ [الشعراء:227]، فبكى هذا الأمير بكاءً شديدًا، وجعل يتعهد قراءتها في غالب أوقاته، ويستعين بها على إجراء عبراته.
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرًا *** فالظلم آخـره يأيتيك بالنــدم
واحذر أخيّ من المظلوم دعوته *** لا تأخذنك سهام الليل في الظلم
نامـت عيونك، والمظلوم منتبه *** يدعو عليك وعيــن الله لم تنم
عباد الله، أيها المسلمون، أيها المستضعفون في مشارق الأرض ومغاربها، يا من طال عليكم ظلم هذه الدول الصليبية النصرانية، وتلك الدول العلمانية المنافقة: اسمعوا إلى هذه القصة التي رواها جملة من أهل التاريخ والسير، عن يحيي بن هبيرة الوزير الصالح، قال لما استطال السلطان مسعود بن محمد السلجوقي وأصحابه وأفسدوا عزم الخليفة على قتاله، قال يحيى: ثم إني فكرت في ذلك، ورأيت أنه ليس بصواب مجاهرته، لقوة شوكته، فدخلت على المقتفي، فقلت: إني رأيت أن لا وجه في هذا الأمر إلا الالتجاء إلى الله تعالى وصدق الاعتماد عليه، فبادر إلى تصديقي في ذلك، وقال: ليس إلا هذا، ثم كتبت إليه: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد دعا على رعل وذكوان شهرًا، وينبغي أن ندعو نحن شهرًا، فأجابني بالأمر بذلك.
قال الوزير: ثم لازمت الدعاء في كل ليلة، وقت السحر، أجلس فأدعو الله سبحانه، فمات مسعود السلجوقي، لتمام الشهر، لم يزد يومًا، ولم ينقص يومًا، وأجاب الله الدعاء، وأزال يد مسعود وأتباعه عن العراق، وأورثنا أرضهم وديارهم.
عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته". قال ثم قرأ: (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَـالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود:102]، البخاري ح4409.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، يا ناصر المستضعفين: انصرنا، يا جابر المنكسرين: اجبر كسرنا، اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانتصر لنا ممن ظلمنا، آمين، آمين يا رب العالمين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله وارث الأرض ومن عليها من الخلق، وباعث محمد رسوله بالهدي ودين الحق، وصلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
وبعد:
أيها الإخوة الكرام: إن للدعاء على أعداء الدين، من اليهود والنصارى، والمنافقين، والعلمانيين، وأذنابهم، فوائد جمة، منها:
– أن الدعاء في حد ذاته عبادة عظيمة، بل هو لب العبادة وروحها، ولذا ثبت في الحديث الصحيح عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي قَوْلِهِ: (وَقَالَ رَبُّكُـمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر:60] قَالَ: "الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ". وَقَرَأَ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر:60].
فالداعي لا يدعو الله صادقًا، إلا وقد انقطع من كل من سوى الله -جل وعلا-، وتعلق نياط قلبه بالله وحده تعلقًا أشد من أي وقت آخر، ولا يتم له ذلك إلا إذا شهد أنه الله هو رب الأرباب، ومصرف الأكوان، ومالك كل شيء، والمعبود وحده لا إله إلا هو: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5].
وفي الدعاء يتمثل التوحيد في أنقى صوره، وأسمى معانيه، ولهذا فقد أخبر القرآن الكريم عن جميع الناس أنهم في النوازل والنوائب لا يدعون أحدًا إلاّ الله: ﴿ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء:67]، ﴿بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام:41].
والدعاء يحقّق استحضار العبد صفاتِ الله تعالى وزيادة الإيمان بها والشعور بعظمتها وجلالتها، فهو إقرار من المؤمن بأنّ القوة لله جميعًا، وأنّ العزة لله جميعًا، وأنّ الله خالق كل شيء، ورازق كل دابّة، وأنّ الناصر هو الله والقاهر هو الله، والضار النافع هو الله، والآمر الناهي هو الله، والظاهر الباطن هو الله، يعزّ من يشاء، ويذلً من يشاء، بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير، والإحساس بهذه المعاني هو الذي يقود المسلمين إلى امتثال أمر الله تعالى: ﴿فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:175].
فتحقيق هذا اليقين، والتوحيد الذي حصل بهذا الدعاء على الطغاة والمتجبرين، يخلع الخوف الذي تولد في قلوب المسلمين من قوة المتجبرين، وطغيان الكافرين، ويجعلهم يحتقرون القوى كلها بجانب قوة العزيز القهار، ويعلمون أن ميزان القوى الحقيقي هو ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ [البقرة:165]، فتصغر في عيونهم كل قوة مهما عظمت إذا هم استمدوا قوتهم من الله رب العالمين.
والدعاء على أعداء الدين بشتى أنواعهم -يا عباد الله- تعبيرٌ صادقٌ عن عقيدة الولاء والبراء التي هي الرحى الذي تدور عليه عقيدة التوحيد: "أوثق عُرى الإيمان الحبُّ في الله والبغض في الله"، وهي العقيدة التي توجد المفاصلة في العقائد والأفكار والمناهج، ومن ثمّ تمايز الصفوف والنّصرة عند القتال.
والدعاء على معسكر الكفر وأهله، إذكاءٌ لروح اليقين في حياة المسلمين، ليعلموا أنّ الأمر كله لله: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [آل عمران: 126]، فتمتلئ قلوبهم بمعية الله، فلا يشكّون في نصره ولا يخالجهم تردّدٌ في صدق وعده: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصافات:173]، ﴿إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد:7]، ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ﴾ [التوبة:14]، ﴿كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [البقرة:249].
والدعاء على من اعتدى على المسلمين، وبغى عليهم، علامةٌ ظاهرةٌ على إيمان العبد وتضامنه مع إخوانه المسلمين: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات:10]، "لا يُؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه". كما يقول رسولنا -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمى".
والدعاء على من يحارب المسلمين إحياءٌ لمعاني الجهاد في النفس؛ إذ إنّ "من لم يحدّث نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية"، فلا بدّ من تهيئة الفؤاد لأحوال القتال وساعات النزال، فهو استحضار للمعركة المتواصلة بين الحق والباطل: ﴿وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ﴾ [البقرة:217]. فالدعاء يربّي قوة العزيمة وشدة البأس في نفس المسلم ليكون مستعدًّا لدكّ حصون الباطل. ويبعث فيه الإرادة الجازمة على محاربة كيد الكافرين الذين يبتغون العزة عند الشياطين ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ [النساء:71]، ﴿ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ﴾ [الأنفال: 18].
عباد الله، أمة الإسلام: ومن أعظم ثمرات الدعاء، أنه سبب من أسباب النصر، قد ضمن الله نتيجته: (وَقَالَ رَبُّكُـمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر:60].
أمة الإسلام: لقد شرع قنوت النوازل للدعاء على الظالمين الذين يعتدون على المسلمين، ولعل هذه المعاني العظيمة التي ذكرت تتجلى فيه.
إخوة العقيدة، أيها الإخوة المؤمنون: لا يظن ظان أننا حينما نتحدث عن الدعاء وأثره في الانتصار للمظلومين من الظالمين، أن ذلك يعني أن نكف عن أي عمل آخر غير الدعاء، ولكننا نذكر بالدعاء لأنه أول وآخر ما يلجأ إليه، ولا ينبغي أن يترك بحال من الأحوال، وحتى لا يتذرع متذرع بالعجز عن الاستنصار لهذا الدين وأهله، بأنه قد كبل بالأغلال، وأوثق بأشد الحبال؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "أعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام".
أيها الإخوة: لا تتحدث هذه الخطبة عن الدعاء وآدابه وفضائله، فلعل الله ييسر ذلك في خطبة أخرى، ولكنها تتحدث عن أثر الدعاء في انتصار المظلومين من الظالمين المعتدين على الإسلام والمسلمين.
أمة التوحيد: إن أضعف ما يمكن أن يقوم به المسلم في هذه الأيام -لا سيما في هذه البلاد- أن يكون له ورد يومي من الدعاء، يدعو فيه على أعداء الدين من اليهود والصليبين، والمنافقين، وأخشى إن إيمان المرء يعتريه الزوال إذا كان قلبه ميتًا لا يتحرك لنصرة الدين وأهله ولو بالدعاء.