عناصر الخطبة
ختمنا شهرنا المبارك، نسأل المولى -جل وعلا- أن نكون ممن كتب لهم غفرانه، وآتاهم إحسانه، وأفاض عليهم جوده وامتنانه.
والجميل في الأمر في لحظات الختام وساعات الوداع ونهايات اللقاء، ذاك التكبير الذي تشدو به الألسن، وتفيض به المهج، ويمتلئ به الأفق.
يا لها من كلمة عظيمة الوقع، جليلة الأثر، بديعة المعاني، كلمة يحبها الله -جل وعلا-، تملأ النفس هيبة، وتترع الأفئدة جلالاً، يتضاءل أمامها كل شيء، ويصغُر معها كل كبير، ويتلاشى كل عظيم.
ولذلك حرص الإسلام على بث هذه الكلمة في قلوب أربابه، وغرسها في نفوس أصحابه، لتبقى بمبناها وفحواها ومعناها، نوراً يضيء كل ظلمة، وأمناً يطمئن كل خوف، وحداء يطرب كل روح، ونداء يهز كل كيان.
لقد جعلها الدين شرياناً نابضاً في كل عبادة؛ فها هو الركن الثاني من أركان الإسلام، وهو الصلاة، التي هي صلة العبد بربه، والتي هي قرة عيون الموحدين، وسلوة قلوب المؤمنين؛ يتجلى فيها الخشوع والخضوع، والإكبار والإجلال، والتذلل والتوسل، والانطراح وتمريغ الجباه، ها هي الصلاة تبدو لنا كمهرجان جليل للتكبير.
فهي، منذ النداء إليها، والحث عليها، والتذكير بها، والإعلان بشأنها، تتزين بالتكبير، فيرتفع الأذان ليرفع معه أحرف التكبير على نغمات المؤذنين، يهزون بها النفوس، ويوقظون العقول، ويستحثون الهمم، ويعظمون بها الموقف، فهو نداء كبير لأمر كبير، يمجَّد فيه الكبير، فإذا بثلث الأذان كله تكبير.
ثم تقام الصلاة بالتكبير، ثم تكون هذه الكلمة براعة استهلال، وروعة افتتاح للصلاة بالتكبير، فإن أول وأهم أركان الصلاة تكبيرة الإحرام، لتكون إعلاناً أنه موقف كبير لتعظيم الكبير -جل وعلا-، يأتي التكبير هنا ليقول لكل مُصَلٍّ، لكل راكع، لكل ساجد، لكل خاشع، لكل مستقبل للقبلة: إن هذا الذي تطهرت له، ووقفت أمامه، وخضعت له، هو الكبير لمتعال، ذو العظمة والجلال، فإذا أعلنت تكبيره، فيجب أن تنسى كل ما عداه.
إن تكبيرة الإحرام إعلان بالانسلاخ من كل تفكير إلا فيه -جل وعلا-، والبعد عن كل شاغل إلا مناجاته تعالى، والتنكر لكل عظمة إلا عظمته -جل وعلا-، والتذكر ليوم الوقوف الأكبر بين يديه، والمثول أمامه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، يوم يجثو الناس لرب العالمين، ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا(111)﴾ [طه:108-111].
وهكذا يظل التكبير بجماله وجلاله يعمر صلاة المؤمن، ويبث فيها الهيبة، فيكون عنواناً لتنقل من ركوع إلى سجود إلى قيام، حتى تصبح المساجد مرتجة بالتكبير، ثم يكون من ضمن الأذكار في ختام الصلاة: الله أكبر ثلاثاً وثلاثين؛ فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأعظم من ذلك وأكبر هذا الذكر والتكبير والتمجيد فيها لله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت:45].
ثم يأتي الركن الرابع من أركان الإسلام وهو صوم رمضان، هذا الموسم الأجل الأعظم، الذي يظل المسلمون فيه شهراً كاملاً يمجدون الله ويعظمونه ويكبرونه، ويراوحون بين جباههم وأقدامهم رُكَّعاً سُجداً، خُشعاً خُضعاً، يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً.
هذا الموسم الذي يتزين بهتافات التكبير في كل صلاة، وفي كل قيام، وفي كل نداء، وفي كل دعاء.
هذا التكبير يكون مسك الختام لشهر الصيام، ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة:185].
تظل حناجر المؤمنين منذ إطلالة ليلة العيد إلى وقت صلاة العيد وهي تهتف بهذا النداء الجميل، وتعطر به الآفاق، وتطرب به الأسماع: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله وبحمده بكرة وأصيلا.
وهكذا الركن الخامس، وهكذا عيد المسلمين الآخر، عيد الأضحى، هكذا يكون معموراً بهذه الأحرف الربانية الخالدة، فتصبح منى في أيام العيد عبارة عن صوت واحد تتضوع به السماء والأرض، وتهتز له الرواسي، وهو: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ﴿كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ [الحج:37].
وكما عمرت الصلاة بالتكبير في كل أركانها وأحوالها، فكذلك الحج، يصعد الحاج والمعتمر الصفا والمروة، فلا يكون هنالك أعظم كلاماً، ولا أجل نداءً من قوله: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر. ويذهب ليثبت اتِّباعه وامتثاله وعبوديته لربه في رمي الجمار والانتصار على النفس، وإغاظة الشيطان ودحره، فلا يكون هنالك أحسن إعلاناً بذلك من التكبير مع كل حصاة ترمى.
وهكذا يظل التكبير نداءً جميلاً، وحداءً بديعاً، في عيد رمضان، وفي عيد الحج، وفي صلاة العيدين؛ على أن الصلاة -كما ذكرنا- كلها تكبير وتمجيد وتعظيم، إلا أن هذا المعنى وهذا الهتاف العظيم الخالد يكشف ويعمق ويؤصَّل في صلاة العيدين؛ لتكون صلاة لبها وروحها وافتتاحها وإشراقها التكبير، فبسبع تكبيرات في الركعة الأولى، وخمس في الركعة الثانية، وما ذلك إلا لأسرار بديعة، ومعان عظيمة، فسبحان الكبير المتعال، ذي العظمة والجلال!.
وهكذا يظل هتاف التكبير نشيداً زاكياً يعطر الحناجر، ويطرب المسامع، في كل أمر مهم ذي بال، فإذا ما أراد المسلم سفراً، ونوى ارتحالاً، فإنه قد يكون معرضاً للمخاطر، مهدداً بالمخاوف، سواء من نصب الطريق، أو تعب الرحلة، أو وعثاء السفر، أو خشية الأعداء، أو التخوف من المصير، أو نفاد الزاد، أو انقطاع الرحلة، أو وحشة الغربة، أو ما إلى ذلك مما قد يعترض المسافر في سفره، ويكدره في ذهابه وإيابه.
فتكون الحكمة أن يعلن اعترافه ويقينه بأن الأخطار مهما كبرت، والمخاوف مهما عظمت، والمسافات مهما بعدت، والمترصدون مهما بلغو، فإنه قد اتكل على الله تعالى، وسلم أمره له، وهو أكبر من كل كبير، وأعظم من كل عظيم.
فيأتي دعاء السفر الذي ينزل على القلب برداً وسلاماً، وتكون إطلالته بإعلان التكبير والتعظيم لمن عليه الاتكال، وإليه المآل، وهو الحافظ في كل حال: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون". وهكذا يظل المسافر في طريقه كلما صعد شرفاً يهتف: الله أكبر.
ثم يتأمل المسلم كتاب ربه -جل وعلا-، فيجد التكبير عطراً يضمخ ثناياه، وشذى يطيب ألفاظه، وشهداً يسيل من أحرفه: (اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ * وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) [الرعد:8-9].
وتأتي كلمة التكبير في آيات متعددة بعد الحديث عن شيء من جوانب عظمته ودلائل قدرته -جل وعلا-: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ(62)﴾ [الحج:61-62].
فسبحانه -جل وعلا-! نسأله أن يغفر لنا ذنوبنا، وأن يتوب علينا.