عناصر الخطبة
أما بعد:
فيا أيها الأحبة: الحفاظُ على المجتمع أول ما يكونُ من داخلِ الأسرة، كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عند بعضِ نسائهِ فأرسلتْ إحدى أُمَّهَاتِ المؤمنينَ بصحفةٍ فيها طعامٌ، فضَرَبَتْ التي النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في بيتِها يدَ الخادمِ فسقطتْ الصحفةُ فانفَلَقَتْ، فجمعَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِلَقَ الصحْفَةِ ثمَّ جعلَ يجمعُ فيها الطعامَ الذي كانَ في الصحفةِ ويقولُ: "غارتْ أُمُّكُمْ"، ثم حبسَ الخَادِمَ حتى أُتيِ بصحْفةٍ من عند التي هو في بيتها، فدفعَ الصحفةَ الصحيحةَ إلى التي كُسرتْ صَحْفَتُهَا وأَمْسَكَ المكسورةَ في بيتِ التي كَسرتْ.
يا من تُحبون اللهَ ورسولَه: ما أجملَهُ من رفقٍ من الحبيب الذي كان يَرفُقُ بأهله وبغيرهم، وكانَ يقولُ كما في حديث عائشة -رضي الله عنها- عند مسلم: "إنَّ اللهَ رفيقٌ يُحبُ الرفقَ، ويعطي على الرفقِ ما لا يُعطي على العنف"، والمعنى: أنه يأتي مع الرفق من الأمورِ ما لا يأتي مع ضده، أو بمعنى آخر: يُثيبُ على الرفق ما لا يُثيبُ على غيرِهِ. فكيف تكون ردةُ فعلِ أحدِنا لو كَسَرَتْ الزوجةُ آنيةً ثمينةً بغير قصد؟! فما بالك لو كانت بقصدٍ كما فعلتْ عائشةُ -رضي الله عنها-؟!
بل كان ينظر ماذا يُسعدُ أهلَه فيَحْرِصُ عليه؛ اسمع -يا من تحبُّ رسولَ الله- ما تقولُهُ عائشةُ -رضي الله عنها- حيثُ قالتْ: كانَ الحبشُ يلعبونَ بِحِرَابِهم، فسترني رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا أنظرُ حتى كنتُ أنا أنصرف. فهو يسترها لأن هذا يُفْرِحُها ويُدخِلُ السرورَ عليها، وكذلك ينتظرُها حتى تكون هي التي تنصرف، تقولُ عائشةُ -رضي الله عنها-: فاقدروا قدر الجاريةِ الحديثةِ السنِّ تسمعُ اللهوَ، وهذا كنايةٌ عن طولِ وقوفهِ لها، وهو مَنْ هو -صلى الله عليه وسلم-، حاكمُ المسلمين، والقاضِي بينهم، والمفتي لهم، والواعظ… وغير ذلك من الأعمال الكثيرة والكبيرة التي يَعجِزُ أحدُنا عن تولي واحد منها فقط، فربما لا يستطيعُ أن يعطيَه حقه.
معاشر المسلمين: الأمرُ يحتاج منا إلى نظر، لنُعيد تفعيلَ النصوصِ الشرعيةِ والسننِ النبويةِ في حياتِنا اليومية، كيف لو اتصفنا بخلقِ الرفق مع زوجاتنا، والرفقِ مع أبنائنا وخدَمِنا، وإليكم هذا المثال الرائع من نبيِّ الإسلامِ -صلى الله عليه وسلم-، وكلُّ حياتِه أمثلةٌ رائعة، ورد في صحيح مسلم قال أنسٌ –رضي الله عنه-: كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- من أحسنِ الناسِ خُلُقًا، فأرسلني يومًا لحاجةٍ فقلتُ: والله لا أذهبُ، وفي نفسي أن أذهبَ لِما أمرني به نبيُّ الله -صلى الله عليه وسلم-، فخرجتُ حتَّى أمُرَّ على صبيانٍ وهم يلعبونَ في السوقِ، فإذا رسولُ الله قدْ قبضَ بقفايَ من ورائي، قال: فنظرتُ إليه وهو يضحكُ، فقال: "يا أُنيسُ"، انظر إليه -صلى الله عليه وسلم- يتحببُ إليه وهو يناديه، "يا أنيسُ: أَذهبتَ حيثُ أمرتُكَ؟!"، هل شاهدت رفقًا كمثل هذا؟! أين نحن من هذه الوقفات في تعاملنا مع أبنائنا؟! بل أين من يسيء إليه عن هذه القصةِ وأمثالِها؟! فلمسَ الطفلُ هذا الرفقَ وهذا اللينَ وهذا العطفَ والحنانَ. فقال أنسٌ: نعم، أنا أذهبُ يا رسولَ الله.
واسمع إلى أنس وهو يحكي مدةَ خدمتهِ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكيف كانت؛ إذْ يقول مبتدئًا قولَه بقسم ويمين: "والله، لقد خدمتُهُ تسعَ سنينَ، ما علمتُهُ قال لشيءٍ صنعتُهُ: لم فعلتَ كذا وكذا؟! أو لشيء تركتُهُ: هلاَّ فعلتَ كذا وكذا؟!".
والرفق يكون أيضًا في تعليم العباد ودعوتهم إلى الحق، يقول الله تعالى لسيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم-: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159]، وَقَدْ قَالَ البَارِي -جَلَّ وَعَلاَ- لِنَبِيَّيْهِ مُوسَى وَهَارُونَ -عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ- حِِينَمَا بَعَثَهُمَا إِلَى طَاغِيَةِ الأَرْضِ فِرْعَوْنَ: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه: 44]، وَأَوْصَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83].
أيها الإخوة في الله: إن الرجل العظيم كلما ارتفع إلى آفاق الكمال اتسع صدره وامتد حلمه، فقد بالَ أعرابيٌّ في المسجد فقامَ إليه الناس ليقعوا به، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دعوه، لا تزرموه، وأهريقوا على بوله ذنوبًا من ماء -أي: دلوًا من ماء-، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين"، فقال الأعرابي: اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا، فردَّ عليه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لقد تحجرت واسعًا".
أيها المؤمنون: كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- رفيقًا مع المسلمين وحتى مع غيرهم، تروي لنا أمُّ المؤمنين عائشةُ -رضي الله عنها- أنَّ يهودَ أتوا النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: السامُ عليكم، فقالتْ عائشةُ: عليكم ولَعَنَكمْ اللهُ وغَضِبَ اللهُ عليكمْ، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "مهلاً يا عائشةُ، عليكِ بالرفقِ وإياكِ والعنفَ والفُحشَ"، قالتْ: أولمْ تسمعْ ما قالوا؟! قال: "أولمْ تسمعي ما قُلْتُ؟! رددتُ عليهمْ، فيُستجابُ لي فيهمْ، ولا يُستجابُ لهمْ فيَّ".
الرفـقُ سيلقـى اليُمْنَ صـاحبُهُ *** والْخرْقُ منه يكون العنفُ والزللُ والحـزمُ أن يتـأنَّى الْمرء فرصتَه *** والكَفُّ عنها إذا ما أمكنت فشلُ والبرُّ لله خيرُ الأمـر عـاقـبـةً *** والله للبرِّ عـونٌ مـا لـه مثـل خيرُ البريةِِ قـولاً خيرُهـم عملاً *** لا يَصلحُ القول حتى يَصْلحَ العمل
والرفق يكون في كل شيء، فالرفق مطلوب حتى مع الحيوان، جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشي بِطَرِيقِ اشْتَدَ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ ثُمّ خَرَجَ، فَإذَا كَلْبٌ يَلْهَثْ يَأْكُلُ الثّرىَ مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الّذِي كَانَ بَلَغَ مِنّي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلأَ خُفَهُ مَاءً، ثُمّ أَمْسَكَهُ بِفيهِ حَتّىَ رَقِيَ، فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ".
والرفق مطلوب مع النفس أيضًا، فيجب على الإنسان أن يرفق بنفسه؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ﴾ [النساء: 29]، فالعنف الذي يخالف النفس والفطرة يضر ولا ينفع، ولذلك عندما قال ثلاثة من أصحاب النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: أنا أصلي الليل ولا أنام، وقال الثالث: أنا لا أنكح النساء، عندما بلغ ذلك رسول الله غضب وقال: "أما والله، إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".
فاتقوا الله عباد الله، وراجعوا أنفسكم ومعاملاتكم، وعليكم بالرفق في جميع أموركم، عليكم بالرفق مع الأهل والأقارب والأصدقاء، وعليكم بالرفق مع الصغار والكبار ومع الطلاب والمراجعين وكل من تحتكون به في حياتكم اليومية؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه".
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ الله لي ولكم…
عباد الله: الرسولُ ينهى عن العُنف ويأمر بالرفق، فما أعظمه من رسولٍ اختاره الله من بين الخلق لأنْ يكون خاتمَ النبيين وسيدَ الأولين والآخرين وقدوةً للناس أجمعين، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21]. فعليك -أخي المسلم- بالرفقِ إن كنتَ أبًا مع أبنائك، أو زوجًا مع زوجِك، أو أخًا مع إخوانِك، أو رئيسًا مع مرؤوسِيك.
أيها الإخوة: يقولُ أهلُ اللغة: إن العنفَ ضدُّ الرفقِ، وللأسف فقد انتشر في بعضِ البيوتِ الجفاءُ بين الأب وأبنائه، بين الأم وبناتها، بين الزوج وزوجه، وأكثرُ المتضررين من هذا العنف هم الأطفال، ويكونُ نتيجةً لدور التوتر والمشاكل بين الزوجين وسرعةِ الغضب والذي بسببه يكون ما لا يُحمدُ عقباه. أيُنتقى الكلامُ الجميلُ والفكاهةُ المضحكةُ للصديقِ وتُحرمُ منه الزوجةُ والأبناءُ؟! ما ذنبهم؟!
إخوة الدين: الحياةُ المزدحمةِ بالأعمال وازدياد الاستهلاك وتراكم الديون وضعف الروابط الأسرية كلها مجتمعة، والبعدُ عن المنهج النبوي يُعدُ المنبعَ الذي ينبعُ منه نهرُ العنف الأسري للردعِ وفرضِ السيطرة، حيثُ يرجعُ ربُّ الأسرة إلى بيته محمّلاً بالهموم، ويُقحمها داره ويصب أثرها على الأسرة، ويُفرغُ على الضعفاءِ، فيضافُ إلى الإرهاقِ خارجَ المنزل الإزعاج داخلَه، ألا نُجففُ تلك الينابيع ونعرفَ حقوقَ الأسرة وواجباتِها والتراحمَ والترابطَ بين أفرادها؟! يقولُ -صلى الله عليه وسلم-: "ليس منا من لا يرحمْ صغيرنا ويوقرْ كبيرنا"، وأن نستيقنَ أهميةَ الأسرةِ المسلمةِ التي يَحرصُ الشيطانُ على تشتيتها لأنَّ منها تنبثقُ الأجيالُ، فيكونُ ضربُ الأولادِ وشتمُهم وإهانتُهم بسبب وبلا سبب، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله إذا أحب أهل بيت أدخل عليهم الرفق".
نَعَمْ عباد الله، إِنَّ العُنْفَ وَالفَظَاظَةَ مَا فَشَتَا فِي مُجْتَمَعٍ مِنَ المُجْتَمَعَاتِ أَوْ أُسْرَةٍ مِنَ الأُسَرِ إلاَّ تقطَّعتْ بَيْنَهُمْ حبالُ الصِّلَةِ، وفسدتْ علائقُ المحبَّةِ والأُخوَّةِ، وَسَادَتِ البَغْضَاءُ وَالوَحْشَةُ.