عناصر الخطبة
الحمدُ لله العَفُوِّ الغَفُورِ، يَتوبُ على مَنْ استغفَرَ وَتَابَ، ويَغفِرُ لِمن صَدَقَ معهُ وَأَنَابَ، نَحمدُهُ حَمْدَ القَانِعِ الشَّكُورِ, ونَعُوذُ بِنُورِ وَجهِهِ مِن الكُفُرِ والخِصَامِ والفُجُورِ. نَشهدُ أن لا إله إلا اللهُ لا شريكَ لهُ أمَرَناَ بِمكارِمِ الأخلاقِ، ونَشهدُ أنَّ سَيِّدَنا ونَبِيَّنا مُحمَّدا عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ كَامِلُ الأخلاقِ والنُّورِ, أدَّبَهُ رَبُّهُ وزَكَّاهُ وَجَعَلَ القُرانَ خُلُقَهُ وهُداهُ, اللهمَّ صَلِّ وسَلِّم وبَارِك عليهِ وعلى آلهِ الطَّاهِرينِ وصحابَتِهِ الغُرِّ المَيَامِينَ وَمَن تَبِعهم بِإحسانٍ وإيمانٍ إلى يومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقوا اللهَ يا مؤمنونَ, واعلموا أنَّما الحياةُ الدُّنيا مَتَاعٌ وكَبَدٌ، وأنَّ الآخِرَة هي دَارُ القَرارِ والأَبَدِ: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النساء: 100].
عبادَ اللهِ: الاختلاطُ بالنَّاسِ يكشِفُ مَعَادِنَ أخلاقِنا وحُسنَ وقُبحَ سُلُوكِنا، وما بُعثَ الرِّسولُ إلاَّ ليُتَمِّمَ مَكَارِمَ أَخلاقِنا, ويُبعِدَنا عن سِفْسَافِها وأَرَاذِلِها! ولقد أصَّلَ الرّسولُ الكريمُ -صلى الله عليه وسلم- في أُمَّتِهِ أنَّ مِن سِماتِ المُؤمنِ أنْ يَكُونَ هيِّنَاً ليِّناً لا غِلَّ فِيهِ, ولا بَغيَ ولا حَسَدَ, يُؤثِرُ حَقَّ الآخَرينَ على حَقِّهِ، ويَعلَمُ أنَّ الحَيَاةَ أرخَصُ من أنْ تُملأ بالعَدَاواتِ والبَغضَاءِ, والأَحقَادِ والإحنِ؛ فيعيشُ المُسلِمُ سَلِيمَ القَلبِ, مُرتاحَ البالِ, قَوِيَّ الإيمانِ, مُطيعاً لِربِّهِ, مُجانِباً لِهواهُ وشيطانِهِ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: لقد جُبِلَ كَثيرٌ من النَّاسِ عَلَى مَحَبَّةِ ذَوَاتِهِم وَالانتِصَارِ لأَنفُسِهِم، وَمِن ثَمَّ فلا بُدَّ أَن تَنشَأَ خِلافَاتٌ بَينَهُم، في كُلِّ ميادِينِ الحياةِ, في طُرُقَاتِهم وأسواقِهم وأماكِنِ عَمَلِهم حتى في اجتِماعَاتِهمُ العائِلِيَّةِ, بل في أماكِنِ عباداتِهم وَمناسِكهم, والمُشكِلَةُ أنَّ الخِلافَاتِ تَتَطَوَّرُ فتَكُونَ لِجَاجًا وَخِصَامًا، ويَحصُلُ تَبَاعُدٌ وَتَنَافُرٌ ما أنزلَ اللهُ به من سُلطانٍ! تَتَعَقَّدُ بِسَبَبِهِ الحَيَاةُ وَيَفسُدُ العَيشُ وَتُشحَنُ القُلُوبُ، فيُصبِحُ المُسلِمُ لا يُطِيقُ رُؤيَةَ أَخِيهِ، إِذَا لَمَحَهُ في طَرِيقٍ سَلَكَ غَيرَهُ، وَإِن جَمَعَهُ مَجلِسٌ خَرَجَ منه مُسرِعًا، بَل قَد يَكُونَانِ مِن جماعَةِ مَسجِدٍ وَاحِدٍ ويَتَهَاجَرانِ، وَتَذهَبُ الأَيَّامُ, وَالأَعمَالُ لا تُرفَعُ.. فاللهمَّ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ.
عبادَ اللهِ: واللهِ إنَّهُ لا أَسرَعَ في إِطفَاءِ نَارِ الخِلافَاتِ، وَلا أَنجَعَ في تَخفِيفِ العَدَاوَاتِ, مِن إِلقَاءِ بَردِ العَفوِ عَلَيهَا وَمُعَاجَلَتِهَا بِغَيثِ الصَّفحِ والتَّسَامُحِ؛ لِتَتَطَهَّرَ القُلُوبُ مِن دَنَسِهَا وَتَنقى مِن وَضَرِهَا، وَمِن ثَمَّ تَرجِعُ لِلصَّفِّ وِحدَتُهُ، ويكونُ الاجتِماعُ، وتَعِيشُ الأُمَّةُ في اطمِئنَانٍ وَتَآلُفٍ، فَتَتَفَرَّغُ لِمَا فِيهِ صَلاحُهَا وَفَلاحُهَا، وَتَتَعَاوَنُ عَلَى مَا بِهِ فَوزُهَا وَنَجَاحُهَا.
ولَقَد جَاءَ الإِسلامُ العظيمُ بما يَردَعُ الظُّلمِ وَيَكُفُّ نَزَوَاتِ الانتِقَامِ، وَيَمنعُ شَهَوَاتِ الانتِصَارِ لِلنَّفسِ!، بَل جَاءَت نُصُوصٌ تأمُرُ بِحسنِ المُعَامَلَةِ وَعدَمِ مُقَابَلَةِ الإِسَاءَةِ بِالإِسَاءَةِ، وَحَثِّهِ على الدَّفعِ بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ، وَتَرغِيبِهِ في الصَّفحِ عَنِ الأَذَى وَالعَفوِ عَنِ الإِسَاءَةِ، وَالاتِّصَافِ بِالحِلمِ وَتَركِ الغَضَبِ، وَالتَّرَفُّعِ عَنِ الانتِصَارِ لِلنَّفسِ، قَالَ تَعَالى : ﴿وَلا تَستَوِي الحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَليٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: 34]. وَقَالَ سُبحَانَهُ: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثلُهَا فَمَن عَفَا وَأَصلَحَ فَأَجرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالمِينَ﴾ [الشورى: 40].
وَبِالعَفوِ وَالصَّفحِ أَمَرَ اللهُ سُبحَانَهُ نَبِيَّهُ -صلى الله عليه وسلم-فَقَالَ: ﴿خُذِ العَفوَ وَأْمُرْ بِالعُرفِ وَأَعرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199]. وَقَالَ تَعَالى: ﴿فَاصفَحِ الصَّفحَ الجَمِيلَ﴾ [الحجر: 85].
وَبِالعَفوِ وَالصَّفحِ أَمَرَ اللهُ المُؤمِنِينَ، وَجَعَلَ نَتِيجَتَهُ مَغفِرَةُ ذُنُوبِهُم وَرَحمَتُهُ إِيَّاهُم، فَقَالَ تَعَالى: ﴿وَلْيَعفُوا وَلْيَصفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: 22]. وقال: ﴿وَإِن تَعفُوا وَتَصفَحُوا وَتَغفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التغابن: 14]. وَقَالَ تَعَالى في وَصفِ المُهَيَّئِينَ لِجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ: ﴿وَالكَاظِمِينَ الغَيظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحسِنِينَ﴾ [آل عمران: 134].
وَكَانَ العَفوُ خُلُقَ نَبِيِّنَا -صلى الله عليه وسلم- الأعظَمِ، فَلَم يَكُنْ -صلى الله عليه وسلم-لِيَنتَقِمَ لِنَفسِهِ، بَل كَانَ يَعفُو وَيَصفَحُ، وَيَفعَلُ الخَيرَ وَيُحسِنُ إِلى مَن أَسَاءَ إِلَيهِ، عَن عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهَا- قَالَت: "مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-شَيئًا قَطُّ بِيَدِهِ وَلا امرَأَةً وَلا خَادِمًا، إِلاَّ أَن يُجَاهِدَ في سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنهُ شَيءٌ قَطُّ فَيَنتَقِمَ مِن صَاحِبِهِ إِلاَّ أَن يُنتَهَكَ شَيءٌ مِن مَحَارِمِ اللهِ تَعَالى فَيَنتَقِمُ للهِ تَعَالى". (رَوَاهُ مُسلِمٌ).
وَعَن أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: "كُنتُ أَمشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-وَعَلَيهِ بُردٌ نَجرَانِيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ، فَأَدرَكَهُ أَعرَابيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبذَةً شَدِيدَةً، فَنَظَرتُ إِلى صَفحَةِ عَاتِقِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَقَد أَثَّرَت بها حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِن شِدَّةِ جَبذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا محمدُ، مُرْ لي مِن مَالِ اللهِ الَّذِي عِندَكَ، فَالتَفَتَ إِلَيهِ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ".
لَمَّا عَفوتُ وَلَمْ أحقِد على أَحَدٍ *** أَرَحتُ نَفْسِيَ مِنْ هَمِّ العَدَاوَاتِ
اللَّهُمَّ أَصلِحْ قُلُوبَنَا، وَاغفِرْ ذُنُوبَنَا، وَاستُرْ عُيُوبَنَا، وحسِّن أخلاقنا, وَاغفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِينَا وَلِجَمِيعِ المُسلِمِينَ، أقولُ ما تَسمعونَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكم وللمسلمينَ؛ فاستغفروهُ إنَّهُ هو الغفُورُ الرَّحيمُ.
الحمد لله على إحسانِه، والشكر له على توفيقِه وامتنانه وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهَد أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبدُ لله ورسولُه الدَّاعي إلى رِضوانِهِ، صلَّى اللهُ وباركَ عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعد: فيا مُسلمونَ، اتَّقوا اللهَ وراقِبوه، وأطيعوه ولا تَعصوه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119].
أيُّها المُسلمونَ: كم رَأينا بينَ الأزواجِ والإخوانِ, والأقاربِ والجيرانِ, منَ الإحَن والدَّعَاوى, والخُصُوماتِ والنُّفْرَةِ, والشَّرِّ والفِتنَةِ؛ حتى كَثُرتِ القَطِيعَةُ، وتَصرَّمت أَوَاصِرُ القربى.
فيا مُسلمونَ: رَاعوا حَقَّ القَرَابَةِ والرَّحِم والجِوارِ والدِّينِ، وكُفُّوا عن المُنَازَعَةِ والقَطِيعَةِ، وعَالِجُوا الأُمورَ بِما يَجمَعُ ولا يُفَرِّقُ، ويُقَرِّبُ ولا يُنفِّرُ. وكونوا كَمَا قَالَ الأَوَّلُ:
إذا قدَحوا لِي نـارَ حربٍ بِزَنْدِهم *** قَدَحتُ لَهم في كلِّ مُكرُمَـةٍ زَنْـدا
وإن أكَلوا لَحمـي وَفَرْتُ لُحُومَهم *** وإنْ هدَمُوا مَجدِي بَنَيتُ لَهم مَجدَا
و لا أَحمِل الحقدَ القَدِيـمَ عليهـمُ *** وليسَ رَئيسَ القَومِ مَنْ يَحمِلُ الْحِقْدَا
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: كُلُّ إنسانٍ لا بُدَّ أَن يُذنِبَ وَيُخطِئَ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ يُحِبُّ أَن يَغفِرَ لَهُ وَيَعفُوَ عَنهُ صاحبهُ، كذلكَ أنتَ لا بُدَّ أنْ يَتَّسِعَ صَدرُكَ وتَعفوَ عمّنَ أساءَ إليكَ! فالعَفُو شِعارُ الصَّالِحينَ الأنقِيَاءِ ذوِي الحِلمِ والنَّفسِ الرَّضيَّةِ؛ لأنَّهم آثَروا الآجِلَ على العَاجِلِ!
غيرَ أنَّ العَفوَ لا يَقدِرُهُ إلاَّ الأقوياءَ الذينَ قَدَّموا رضا اللهِ على حُظُوظِ أنفُسِهم وَرَغَباتِها. وفي مُسندِ الإمامِ أحمَدَ -رحمهُ اللهُ- بسندِهِ أنَّ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "مَنْ كَظَمَ غَيظًا وهو قَادِرٌ على أنْ يُنفِذَهُ دَعَاهُ اللهُ على رُؤوسِ الخَلائِقِ حتى يُخيِّرَهُ مِنْ أيِّ الحُورِ شَاءَ" وحسَّنهُ الألبانيُّ -رحمهُ اللهُ-.
عبادَ اللهِ: ومن فضلِ اللهَ أنَّ العفوَ يشمَلُ جوانِبَ الحياةِ كُلِّها، فلم يقتَصِر على العفوِ عن القَصاصِ, بل شَمَلَ جَوانِبَ التَّعَامُلَ العَامِّ والخَاصِّ، فقد أمَرَ اللهُ به القِيادَةَ الكُبرى وأهلَ الوِلايةِ العُظمى؛ لأنَّ العفوَ والتَّسامُحَ أمارةٌ للقائدِ النَّاجحِ؛ ألم يأمُرِ اللهُ نَبِيَّهُ -صلى الله عليه وسلم-بقولِه: ﴿خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199].
والعفوُ بينَ الزَّوجينِ لازِمٌ لِحصولِ المَوَدَّةِ والقُربى قال سبحانه: ﴿وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾[البقرة: 237]. بل حَضَّ دِينُنا على العفوِ في بَيعِ النَّاسِ وشِرَاءِهم ومُدَايَنَاتِهم، ففي الصَّحِيحينِ أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ؛ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ».
وثمَّة تأكيدٌ على العَفُوِ في التَّعَامُلِ معَ الآخَرينَ, فقد جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ نَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ؟ فَصَمَتَ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ الْكَلاَمَ، فَصَمَتَ فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ قَالَ: «اعْفُوا عَنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً» صححه الألبانيُّ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: أَتَدرُونَ مَا أَكبَرُ عَائِقٍ لِلعَفوِ؟ ومَا العَقَبَةُ الكَئُودُ التي تُوَجِهُنا في ذالِكَ؟ إِنَّهُ اعتِقَادُنا أَنَّ العَفوَ عُنوانٌ لِلضَّعفِ والمَذَلَّةِ والهَوَانِ! وَأَنَّهُ لا يَتَنَازَلُ عَن حَقِّهِ إِلاَّ العَاجِزُ الضَّعِيفُ.. فلَقَد تَرَسَّبَ في أَذهَانِ كثيرٍ مِنَّا أَنَّهُ إِنْ لم تَكُنْ ذِئبًا أَكَلَتكَ الذِّئَابُ، وأَنَّ مِنَ الوَاجِبَ أَن تَرُدَّ الصَّاعَ بِصَاعَينِ!
والحَقُّ يا مؤمنونَ: أنَّ قِمَّةَ الشَّجَاعَةِ والامتِنَانِ تَكمُنُ في العفوِ عندَ المَقدِرَةِ. ألم يَقُلْ أَصدَقُ البَشَرِ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «وَمَا زَادَ اللهُ عَبدًا بِعَفوٍ إِلاَّ عِزًّا» (رَوَاهُ مُسلِمٌ).
وقد ذَكَرَ الإمامُ البخاريُّ عن إبراهيمَ النَّخَعِيّ -رحمهمُ الله- قَولَهُ: "كانُوا يَكرَهُونَ أنْ يُستَذَلُّوا، فإذا قَدِرُوا عَفَوا".
وقالَ الحَسَنُ بنُ عليٍّ -رضي الله عنهما-: "لو أنَّ رجلاً شتَمني في أُذُنِي هَذِهِ واعتَذَرَ في أُذني الأخرَى لَقَبِلتُ عُذرَهُ".
وقالَ جعفرُ الصَّادِقُ -رحمهُ اللهُ-: "لأنْ أندَمَ على العَفُوِ عِشرينَ مرَّةً أحبُّ إليَّ من أندَم على العُقُوبَةِ مَرَّةً واحِدَةً".
وفي أحادِيثَ أخرجَها الإمَامُ أحمدُ وغيرُهُ أنَّ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وهو على المِنبَرِ قالَ: "ارحَمُوا تُرحَمُوا، واغفِروا يَغفِرُ اللهُ لَكُم". وقال: "مَا مِنْ عَبدٍ ظُلِمَ بِمَظلَمَةٍ فَيُغضِيَ عَنْها لِلهِ عزَّ وجَلَّ إلاَّ أَعزَّ اللهُ بِها نَصْرَهُ".
فيا مُسلِمونَ: اعفُوا فيما بَينَكم، وتَجاوَزُوا عمَّن أساءَ إليكم؛ واخرُجوا من ضِيقِ المُناقَشَةِ إلى فُسحةِ المُسامَحَةِ، ومن شِدَّةِ المُعاسَرةِ إلى سُهُولةِ المُعاشَرة، واطوُوا بساطَ التَّقَاطُعِ والوَحشَةِ، وصِلوا حَبلَ الأُخُوَّة والمودَّة، واقبَلوا المَعذِرَةِ؛ فإن قَبولَها من مَحَاسِنِ الشِّيمِ، وتأمَّلوا قولَ اللهِ جلَّ وعلا: ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ [النساء: 149].
إخوتي الكرام: واللهِ إنَّهُ لا عافيةَ ولا راحةَ ولا سعادَةَ إلاَّ بسلامةِ القَلْبِ من وسَاوسِ الضَّغِينَةِ وأوضارِ الغِلِّ ونِيرانِ العَدَاوة ومَرَضِ الحِقدِ والحَسَدِ، وَمَنْ ملأ قَلبَهُ من ذالِكَ تَكدَّرَ عَيشُهُ، واضطَرَبَتْ نَفسُهُ، وَوَهَنَ جَسَدُه، وقد قيل: "في إغضَائِكَ رَاحَةُ أَعضَائِكَ".
أيُّها المسلمون: دِينُنَا لَيسَ أَقوَالاً نُرَدِّدُهَا ثُمَّ لا نُطَبِّقُها! إِنَّما قِيَمٌ نَعتَنِقُهَا قَولاً وَعَمَلاً، وَمَبَادِئُ نَتَمَسَّكُ بها سِرًّا وَعَلَنًا، وَمَنهَجٌ نَتَعَامِلُ بِهِ، وَمَا شُرِعَ الدِّينُ إِلاَّ لِتَطهِيرِ البَاطِنِ وَتَغيِيرِ الظَّاهِرِ : فـ"إِنَّ اللهَ لا يَنظُرُ إِلى صُوَرِكُم وَلا أَموَالِكُم، وَلَكِنْ يَنظُرُ إِلى قُلُوبِكُم وَأَعمَالِكُم"(رَوَاهُ مُسلِمٌ)، فَكُن من الذينَ يَستَمِعونَ القَولَ فَيَتَّبِعونَ أَحسَنَهُ.
عبادَ اللهِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِكَ وَرَسُولِكَ مُحمَّدٍ، وعلى آلِهِ الطَّيِّبينَ وسائرِ الصَّحابَةِ أجمعينَ، والتابعين لهم بِإحسانٍ وإيمانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنِّك وكَرَمِكَ وَفضلِكَ وإحسَانِكَ يا أرحمَ الرَّاحمينَ.
اللهمَّ اهدنا لِمَا تُحبُّ وتَرضَى, وزيِّنا بِزِينَةِ الإيمانِ والتَّقوى, واجعلنا هداةً مُهتَدِينَ غَيرَ ضَالِينَ ولا مُضلينَ.
اللهمَّ ادفع عنَّا الغَلا والوَبَا والرِّبا والزِّنا والزَّلازلَ والمحنِ عن بلدِنا هذا خاصَّةً وعن سائرِ بلادِ المُسلمينَ. (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)، ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.