عناصر الخطبة
ديننا العظيم نهانا عن صفات ذميمة، وأفعال مُشينة، وأخلاق بغيضة، وما من عمل أو فعل أو قول يمجُّه العقل، وتأباه الفطرة، ويتحاشاه ذوو الألباب، إلا وهو ممقوتٌ في الإسلام، ممنوع في الشرع، فالله -جل وعلا- لم يحرم على الناس أمرا فيه صلاحهم، ولم يحذِّرْهُم من فعل فيه فلاحهم، بل نهاهم عن كل مُدَمِّرٍ لأخلاقهم، ومُفسدٍ لحياتهم، ومُضِرٍّ لأبدانهم، ومُهْلِكٍ لأموالهم، ومُتْلِفٍ لأحوالهم.
وإن من الصفات البغيضة في شرعنا، الممقوتة في ديننا: الإسرافَ. والإسراف هو تجاوزُ الحدِّ في كُلِّ فِعْلٍ يفعله الإنسان، بل يشمل حتى الأمور المعنوية، فكل ما زاد عن الحد من فعل أو قول أو فكر فهو إسراف، والتبذير والإسراف بمعنى واحد تقريبا، إلا أن الإسراف أعمُّ من التبذير؛ وأغلب ما يطلق الإسراف في الأموال والإنفاق والبذل، والإسراف فيها هو تجاوز الحدَّ في النفقة.
فالإنفاق الممدوح والبذل المحمود شرعا هو فيما أوجب الله -جل وعلا- على المسلم من الزكاة والصدقة، والإنفاق على الأهل والعيال، والإنفاق في أبواب الخير الكثيرة؛ والمسلم المقتدر لا يُعَدُّ مُسرفا إذا أكثر من البذل والإنفاق، وجاد بالمال في وجوهه المشروعة: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾ [سبأ:39]، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلَّطَه على هلَكَتِه في الحق، ورجل آتاه الله حكمةً فهُو يقضي بها ويعلمها" صحيح الجامع.
ولكن الإسراف هو في تجاوز الحد في الأمور المباحة للإنسان من مَلبس ومطعم وكسوة، والإسراف هو في تبديد المال كله، حتى ولو كان في طاعة، فلا يجدر بالمسلم أن يُذهب كُلَّ أمواله، ويتلف ما لديه، ويبقى صفْرَ اليدين، عالة على الناس، حتى ولو أنفقها في حلال، والنبي -صلى الله عليه وسلم- نهى الرجل أن يتصدق بماله كله وأجاز له الثلث، وقال له: "والثلُث كثير؛ إنَّك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيديهم" البخاري.
بل انظر إلى لفتة عظيمة، وإشارة بديعة، ونكتة لطيفة في هذه الآية، يقول تعالى: ﴿كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأنعام:141]؛ أمَرَ بالأكل مما أخرج الله لعباده من الرزق، وما آتاهم من الثمرات، ثم أمرهم بإخراج حقه، وأداء زكاته يوم حصاده؛ وختَم الآية بالنهي عن الإسراف، أي لا تسرفوا ولا تبددوا أموالكم حتى في أداء الحق الواجب فيها، فالإسلام دين الوسط والاعتدال، والطريقة المثلى في كل شيء.
أما إنفاق المال فيما حرَّمَ الله فإنه إسراف وتبذير حتى ولو كان درهما واحدا، ومما دفعني للحديث عن هذا الأمر في هذه الأيام بالذات هو ما يرى فيها من مظاهر الإسراف والتبذير، فهي أيام تكثر فيها المناسبات، وتتعدد الحفلات، وأصبح التباهي بالأموال المصروفة، والصالات المستأجرة، والموائد الممدودة، هو ديدن كثير من الناس في هذه الأيام حتى إن المرء يتحمل أعباء كبيرة، وديونا هائلة من غير ضرورة لها، ولا داع لأخذها؛ بل لكي يجاري فلانا وفلانا، ولأجل أن يتحدث أناس عن حفلته أو وليمته أو مائدته، فهذا عرَّضَ نفسَه لمحاذيرَ عديدةٍ، وتعرَّض لسخط الله وعقوبته وبغضه وكرهه، إنه لا يحب المسرفين، وعرَّض نفسه وأبناءه للمذلة والفقر، وغلبة الدين وقهر الرجال.
ثم هو مع ذلك مذموم عند الناس، فمن طلب رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس؛ فيجب على المسلم أن يراقب ربه أولا وأخيرا، ثم يسير على قدر حاله ولا يحمل نفسه ما لا تطيق.
ومن مظاهر الإسراف في هذه الأيام ما ينفقه كثير من الناس على أسفار متعددة، ورحلات متنوعة لا قِبَلَ لهم بها، ولا حاجةَ لهم فيها، بل قد تكون مصحوبةً بالمعاصي، محفوفةً بالأخطار، مليئةً بالأضرار.
إن الترويح محبوب، وإدخال السرور على الأهل مطلوب، والسياحة في أرض الله أمر مرغوب، ولكن أن يكون ذلك في حدود معقولة، وبضوابطَ مشروعةٍ، فلا يتكلف ما لا يطيق؛ فإن بعض الناس يستدين ليسافر! ولا يعرض المرء نفسه وأهله للفتنة، ولا يجرهم للمحن، ثم يظن أنه قد أحسن إليهم، وأُجِرَ في الإنفاق عليهم: ﴿كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام:122].
أيها المسلمون: يجب أن نعود أنفسنا على الاقتصاد في كل أمورنا، وأن نحذر أنفسنا وأهلنا وأبناءنا من الإسراف والتبذير، ﴿إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ [الإسراء:27].
إن الإسراف ظاهر في كل أمور حياتنا تقريبا، إلا من رحم الله، إسراف في إنفاق المال، إسراف في المباحات، إسراف في الولائم، إسراف في المياه، إسراف في الكهرباء، إسراف في تزيين البيوت، إسراف في حفلات الزواج، إسراف في الأكل والشرب: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف:31].
إن المباهاة بالعمائر والمزرارع والمراكب الفارهة، والتنافس في ذلك، ليس من سمات المؤمنين؛ لأنهم يعلمون أن الحياة مرور، والمسألة عُبُور: (أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ) [الشعراء:146-152].
إن الإسراف عاقبته وخيمة، ونتائجه أليمة، وتبعاته عظيمة؛ وإذا كان المسلم نُهي عن الإسراف حتى في الأمور المباحة؛ بل في الطاعات الواجبة، فكيف به في غير حاجة؟ انظر إلى هذا الحديث العظيم: جاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأله عن الوضوء، فأراه الوضوء ثلاثا ثلاثا، ثم قال: "هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أَسَاءَ وَتَعَدَّى وظَلَمَ" صحيح النسائي.
فالزيادة على الحد -حتى في الطاعة- تعتبر إساءة وتعديا وظلما، فكيف بمن يفتحون صنابير الماء سواء في بيوتهم أو في المساجد على أقصى ما يمكن، فيصرف الواحد منهم من الماء ما يمكن أن يتوضأ به عشرون شخصا؟! وإن المرأة التي تصرف في مطبخها من الماء ما يكفي لبيوت عدة لهي من المسرفين.
إن بث روح النظام، والاعتدال والوسطية، والبعد عن الإسراف، لَهِيَ سمةٌ حميدة يجب أن يقوم بها كل مؤمن، يقول ابن عباس -رضي الله عنه- في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [سبأ:39]، يقول ابن عباس: يعني في غير إسراف ولا تقتير.
إن قاعدة الوسطية هي أفضل وأكمل ما يسير به المسلمون، ويمضي عليه المؤمنون الذين امتدحهم تعالى بقوله:﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان:67]. إن أكمل وأفضل ما يسير عليه المؤمن هو ما رسمه الله تعالى له بقوله: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ [الإسراء:29]، وما رسمه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا، ما لم يخالط إسراف ولا مخيلة" حسَّنه الألباني في المشكاة.
إن الإسراف -كما أشرنا- هو تجاوز الحد في كل فعل من الأفعال، وليس ذلك قصرا على الإنفاق فقط؛ فإن الانهماك في المعاصي، والتمادي في الذنوب هو من الإسراف المقيت، والفعل البغيض: ﴿وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ [غافر:43]، قيل: هم الذين تجاوزوا وتعدوا حدود الله، ولكن من رحمة الله تعالى أن المسرف على نفسه متى أعلن توبته، وندم على فعله، فإنه يجد ربا رحيما غفورا، ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر:53].
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا متُّ فاحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح؛ فوالله! لئن قدر الله علَيَّ ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا؛ فلما مات فُعل به ذلك، فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيكِ منه. ففَعَلَتْ؛ فإذا هو قائم فقال: ما حمَلَكَ علَى ما صنَعْتَ؟ قال: يا رب! خَشِيتُكَ. فغفَر له". البخاري.
إن ديدن المؤمنين دائما قولهم: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران:147]، وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم اغفر لي ما قدَّمْتُ وما أخَّرْتُ، وما أسرَرْتُ ومَا أعلَنْتُ، وما أسْرَفْتُ، وما أنت أعلم به مني" مسلم.
ومن أنواع الإسراف وضع الشيء في غير موضعه، وقد سمى الله تعالى فعل قوم لوط إسرافا: ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ(81)﴾ [الأعراف:80-81].
ومن أنواع الإسرافِ الإسرافُ في القصاص من القاتل، قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾ [الإسراء:33]، والإسراف في القتل يكون بأحد ثلاثة أمور: 1- أن يقتل اثنين أو أكثر بواحد، كما كان يفعل العرب. 2- أن يقتل بالقتيل واحدا فقط، ولكنه غير قاتله، فهو يختار أكبر أو أشرف منه، وهذا قتل للبريء بذنب غيره، وهو إسراف في القتل. 3- أن يقتل نفسَ القاتل لكن يمثِّل به؛ لأن زيادة التمثيل إسراف في القتل.
إن الإسراف بكُلِّ صوره وأشكاله من إنفاق المال، ومن المأكل والمشرب والملبس، ومن تجاوُز حدود الله تعالى، ووضع الشيء في غير موضعه، إنه أمر ممقوت مؤذن بخطر، ومؤشر بهلاك، ومعرض لسخط، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ [غافر:28].
اللهم إنا نعوذ بك من الإسراف وأهله، والتبذير وأصحابه، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، إنك أنت الغفور الرحيم.