عناصر الخطبة
الحمد لله رب العالمين…
أما بعد:
فنعمة كبرى ينعم بها من منَّ الله عليه بها، فعمر بها قلبه، وصارت سكينة في جوارحه، وسداداً في قوله، فهو الثابت حينما استشعرها، والموفق حينما اختارها، فليس للسخط إلى قلبه سبيل، انقطعت حيرته بعد أن بان له من حكمة ربه برهان ودليل. أتدري أية نعمة هذه؟! إنها نعمة الرضا، لبسها قوم فغادرت من حياتهم التعاسة والشقاء، وتحوَّل كل كدر في أمورهم إلى راحة وصفاء، نعم ليس كل ما يريده حصّله، وليس كل ما يخافه أمن جانبه، ولكن الرضا ليس قرين تحصيل ما يريد، وليس من شرطه الأمن مما يخاف.
إن شعور الرضا يجده الفقير وقد يجده الغني، كما يجده المعافى في بدنه يجده أيضًا من هو على السرير الأبيض قد اعتلت صحته. فيا لَسعادة الراضين! فأين هم؟! وعن أي شيء رضوا؟! وكيف نلحق بهم؟!
أيها الإخوة: الرضا كما هو نعمة هو قبل ذلك ومع ذلك أحد مقامات العبودية، فما أعظم نعمة العبودية بالرضا، فاستمع؛ عن العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولاً". رواه مسلم.
الله أكبر!! للإيمان طعم حقيقي يتذوقه العارفون بقلوبهم، كما أن للطعام طعماً يتذوقه الطاعمون بألسنتهم، وشتان بين ذوق القلب وذوق اللسان الذي يذهب بانتهاء الطعام.
أيها الإخوة: للعبد رضا عن ربه، فـ"من رضي بالله ربًا" فقد ركن إلى ربه الذي رباه، وبنعمه غذَّاه، فهو مطمئن إلى تدبيره، راضٍ بمر قضائه كما هو راضٍ بحلو قضائه، وأحد أركان الإيمان الستة الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره.
ومن جوامع الأدعية النبوية: "وأسألك الرضا بعد القضاء".
والمؤمن يأخذ بالأسباب مستعينًا بالله على حد قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله".
فإن خالَفَتْ أمور، وتغيرت أحوال، فشعار الرضا عنده لا يفارقه: "قدَّر وما شاء فعل"، ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾، ﴿وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾.
إذًا خاب وخسر الذين يستبقون القدر بالتنجيم والكهانة، ويطلبون أرزاقهم وسعادتهم بالسحر والشعوذة: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾، ولو كشف الغيب لأحد لما رضي لنفسه إلا بما رضيه الله له واختاره لعبده.
قيل للحُسين بن عليٍّ -رضي الله عنهما-: إن أبا ذرٍّ -رضي الله عنه- يقول: الفقرُ أحبُّ إليَّ من الغِنى، والسَّقَمُ أحبُّ إليَّ من الصحة. فقال الحسين -رضي الله عنه-: "رحِمَ الله أبا ذرٍّ! أما أنا فأقول: من اتَّكَل على حُسن اختيار الله لم يتمنَّ غيرَ ما اختارَ الله له".
الرِّضا قناعةٌ بتدبير الله، وثقةٌ بموعوده، ويقينٌ، من قنِعَ فقد رضِي، ومن رضِي فقد قنِع، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "قد أفلحَ من أسلمَ وكان رِزقُه كفافًا، وقنَّعَه الله بما آتاه".
فمن رضي بما قسم الله له فلن يجد رغبة في مزاحمة الناس على دنياهم، وهو أكره الناس للحرام، رضي بالحلال وإن قلَّ عدده، سلم جسده من الحسد، وعافاه الله من التطلع لما في أيدي الناس، وهو مع رضاه بحاله ليس مفرطاً في أسباب الرزق الشرعية، فهو يطرق أبوابها ويأخذ بأسبابها.
فالراضي أشرح الناس صدراً، وأطيبهم نفساً، وأقواهم على كل فضيلة، وأبعدهم عن كل نقيصة ورذيلة، وفي الحكمة الصحيحة: "من رضِيَ بقضاء الله لم يُسخِطهُ أحدٌ، ومن قنِعَ بعطائه لم يدخل قلبه حسدٌ".
ثم يتبع الرضا بربوبية الله، الرضا بأن الله أهل أن يعبد لكمال ألوهيته، وأنه -عزّ وجل- المستحق ألا تصرف عبادة إلا له: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، وفي سيد الاستغفار: "اللهم أنت ربي خلقتني وأنا عبدك".
قد أخرج من قلبه كلَّ تعلق إلا بربه، فأين الذين يظنون أن أحداً قد يستحق شيئاً من العبادة؟! فهم يرجونه ويدعونه، والله تعالى يقول: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾.
فحسن العبادة، ودوامها بالذكر والتسبيح وطول الصلاة والأخذ من كل عبادة بطرف هو من آكد الطرق لبلوغ مرتبة الرضا، وهو في كل ذلك صابر محتسب؛ يقول الله تعالى لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى﴾، ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾.
هذه بعض معالم الرضا بالله رباً ومعبوداً تسليمًا تامًا، وبردًا وسلامًا، ورضًا يملأ القلب يدفع الغل والآثام، فللكون رب يدبره، وخالق يعبد ويرجع الأمر إليه: ﴿أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ﴾.
ثم المقام الثاني من مقامات الرضا؛ قال –صلى الله عليه وسلم-: "وبالإسلام دينًا"، هذا الدين الذي رضيه الله لنا: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً﴾، ﴿هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ﴾، كيف لا نرضى بما رضيه الله لنا؟!
فيا غبطة أهل الإسلام بالإسلام لو عرفوا قدره!! دين تصلح به أمورهم الخاصة والعامة، أخرج الله به العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
قال أبو ذر -رضي الله عنه-: "ما ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- طائرًا يقلّب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علمًا". فأين المغتبطون بدينهم؟! وأين القابلون لنعمة الله عليهم ومنته؟! (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ). وأين الذين يلمزون دينهم، ويرون تنوُّراً في التزحزح عنه، وتطوراً في مناهج بشرية وعقول غربية أو شرقية، فخجلوا من دينهم، وأصبحوا أوصياء على شرع الله ينتقون ما يريدون، ويدفعون ما لا يريدون!!
أين الرضا بالإسلام دينًا عند هؤلاء وعند من يردد أقوالهم، وهو متحدث عنهم بغير وكالة منهم؟!
وفي سنن النسائي وغيره عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه رأى بيد عمر بن الخطاب شيئًا من التوراة فقال: "لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي". فكيف استفاد عمر -رضي الله عنه- بهذا التوجيه؟!
فتحت الإسكندرية في عهده -رضي الله عنه- ووجدوا فيها كتباً كثيرة من كتب الروم، فكتبوا إلى عمر يسألونه: ماذا نصنع بها؟! فأمر بها أن تحرق وقال: "حسبنا كتاب الله". فأين المقتدون بعمر -رضي الله عنه- وهم يقرؤون في صحف أو مواقع، أو يسمعون، أو يشاهدون عيباً لهذا الدين، ولمزاً لشيء من أحكامه أو شرائعه.
ألا إن كل نقيصة ملصقة بالإسلام فالإسلام بريء منها، فالعيب في المسلمين لا في الإسلام، ولكنَّ النكبة والرزية أن يجعل من أخطاء بعض المسلمين أخطاء في الإسلام، ثم يخوف الناس بالإسلام وأنه غير صالح لهذا الزمان، فيستوحش الناس من دينهم، ولا يؤمنون بإيمانهم، والله تعالى يقول: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾.
جعلني الله وإياكم ممن رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً -صلى الله عليه وسلم-.
أقول قولي هذا…
الحمد لله…
بقي المقام الثالث: الرضا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبياً ورسولاً؛ فهو قدوتك ظاهراً وباطناً: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ﴾، ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾، فلا يعبد الله إلا بما شرعه، فأقواله مصدقه، وأوامره ونواهيه ممتثلة: ﴿مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾، فكل يؤخذ من قوله ويترك إلا ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيؤخذ كله متى ثبتت صحته.
ورد بعض الأحاديث الثابتة حيث لم يفهمها قوم على وجهها، أو لم تبلغها عقولهم؛ ضلال مبين، وبوابة يلج منها المتلاعبون وإن زعموا أنفسهم أهل فهم وأنهم مثقفون!!
فتعرفوا على هدي نبيكم وسنة رسول ربكم -صلى الله عليه وسلم-، معتزين بها متى صحت عنه، واحذروا الأحاديث المكذوبة والروايات الضعيفة، وكذا ما تتناقله وسائل التواصل والاتصال إلا بعد التأكد منه ومعرفة مخرجه.
أيها الإخوة: الرضا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا ورسولاً مقام عظيم، من أعظم فضائله دخول الجنة؛ فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولاً وجبت له الجنة". رواه مسلم.
ومن فضائل الرضا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا ورسولاً أن يذوق طعم الإيمان، فيعرف الحياة بطعمها الحقيقي، وسعادتها الباقية، وطمأنينتها التامة؛ قال العلامة ابن القيم في زاد المعاد: "وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: "إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحًا فاتهمه، فإن الرب تعالى شكور، يعني أنه لابد أن يثيب العامل على عمله في الدنيا من حلاوة يجدها في قلبه وقوة انشراح وقرة عين، فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول". اهـ.
إن حلاوة الإيمان هي من الله وحده، وهو القائل: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾، فزينة الإيمان بالرضا بالله، وهي التي تدفعه إلى أعمال الخير والبر من الصلاة والصيام والزكاة ونحوها، وهي التي تهوّن عليه ما يعانيه من جهاد النفس التي لا تنقاد إلا بقوة وحزم، "وقد حفت الجنة بالمكاره".
فهل يعرف هذا الذين يشكون الملل في حياتهم، والطفش من أيامهم، يخاصمون كل شيء، ولا يأنسون بأي شيء!!
ومن فضائل الرضا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا ورسولاً وحسن عاقبته: ما رواه الإمام أحمد وغيره عن ثوبان خادم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من عبد مسلم يقول حين يصبح وحين يمسي ثلاث مرات: رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًا، إلا كان حقًا على الله أن يرضيه يوم القيامة".
فتأمل -يا عبد الله- أين الرضا في حياتك!! وما حظك من هذه العبودية العظيمة!! وخذ بأسباب تحصيلها، والله تعالى يقول: ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.
اللهم إنا نسألك الرضا الذي يملأ قلوبنا وتطمئن به نفوسنا…