عناصر الخطبة
- انتقال السيدة عائشة من سعة العيش برحابة صدر ورضاء بالزهد
- وصف مسكن زوجيتها وحجرتها
- إدارتها الحياة الزوجية باقتدار رغم صغر سنها
- مراعاة وملاطفة النبي الكريم لها
- تدرج النبي الكريم معها حتى صارت علما من أعلام الأمة
- وجوب الإفادة من فلسفة النبي التربوية
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأزواجه أمهات المؤمنين، وعلى صحابته الكرام الطيبين الطاهرين، الذين اهتدوا بهديه، واقتدوا بسنته، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فنواصل الحديث عن سلسلة سيرة أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، والتي نحاول أن نستقي منها الأنموذج والمنهج التربوي والعملي للمرأة المسلمة في واقعنا المعاصر، فعائشة -رضي الله عنها- شخصية نسائية فذة، جمعت خصالاً كثيرة، حتى أصبحت قدوة ومعلمة للرجال والأجيال.
وبعد ست خطب مضت قلّبنا فيها صفحات عطرة من سيرتها -رضي الله عنها-، وكنا قد توقفنا عند قصة الزواج المبارك، ونواصل الحديث ونكمل سرد الأحداث وفق تسلسلها التاريخي؛ فنذكر اليوم بعضا من وقائع السنة الأولى من هذا الزواج المبارك، ولا شك أنها تجربة اجتماعية ثرية رائعة تهم الجميع، خاصة الأزواج في سنتهم الأولى، والتي غالباً ما تكون بوابة للنجاح أو الفشل في الحياة الزوجية، فنحن نسمع عن نسب الطلاق المرتفعة في السنة الأولى من الزوجات، فضلاً عن المشاكل، والبيوت التي تعيش على فوهة بركان قد ينفجر في أي لحظة بالطلاق والفراق.
وحسبنا أنها تجربة قدوتنا وحبيبنا -صلى الله عليه وسلم- وزوجه الفتاة البكر عائشة -رضي الله عنها- العاقلة الحكيمة، وأول حدث يهم كل متزوجين في السنة الأولى لهذا الزواج المبارك هو تكييف عائشة نفسها للبيئة الجديدة، وتقبلها للتغيرات الطارئة في طريقة معيشتها، فقد كانت تعيش في بيت والدها في تنعم ورفاهية، نظرا لمكانة أبي بكر الاقتصادية، فهو التاجر ورجل الأعمال المعروف بغناه ووجاهته، وهاهي الآن تنتقل لبيت زوجها الفقير، فقابلت عائشة -رضي الله عنها- الحياة الجديدة البسيطة بكل ترحاب وقبول، وبكل رضا وقناعة، فرغم صغر سنها إلا أنها كيّفت نفسها مع الوضع الجديد دون تبرم أو تسخط، ودون نظرة دونية لحال زوجها وفقره، فكان هذا بمثابة الركيزة الأساسية لنجاح زواجها، بل ورفعة مكانتها وحظوتها لدى حبيبها -صلى الله عليه وسلم-، فعاشت مع زوجها في أنس وسعادة، ومودة ومحبة، لا يُعكر صفوها قلة ذات اليد أبدا.
ففي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا تخبر ابن أختها عروة بن الزبير عن معيشتها في بيت الرسول، فتقول: "وَاللَّهِ يَا ابْنَ أُخْتِى إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلاَلِ ثُمَّ الْهِلاَلِ ثُمَّ الْهِلاَلِ، ثَلاَثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَ فِى أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نَارٌ! قَالَ عروة: يَا خَالَةُ! فَمَا كَانَ يُعَيِّشُكُمْ؟ قَالَتِ:الأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ، وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، فَكَانُوا يُرْسِلُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَلْبَانِهَا فَيَسْقِينَاهُ" هكذا -معاشر الأزواج- كانت الحياة المعيشية المادية في أعظم بيت عرفه التاريخ على الإطلاق، فأساسه القناعة والتفاهم، فلتتعظ النساء بحياة عائشة في بيت النبوة، وليتعلمن منها فلسفة السعادة، فهي -رضي الله عنها- ترى أن قلة ذات اليد ليست مانعة من السعادة الزوجية، ومادام القلبان في مودة ومحبة، والروحان متآلفتان، فالسعادة سعادة الروح، ومتى تلذّذت الروح، فلا يبالي الجسد بالتعب أبدًا!.
وهذا لا يعني ترك السعي وبذل الأسباب لحياة هنية، وعيشة رضية، لكنه الدرس البليغ بإمكانية العيش بسعادة لمن رضي بالزهد والقناعة كمنهج حياة، وأسلوب معيشة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولسنا نطالب الآخرين به، خاصة في مثل مدنيّتنا المادية المعاصرة، لكن كم هو جميل التدبر والاعتبار، لتتريث النفوس من اللهثان والركض المحموم ولو لفترة، ولعلها تتعظ -خاصة الأزواج- ممن رزقن بأزواج متوسطي الأحوال، وذوي الدخل المحدود، فالسنة الأولى في حياة عائشة بنت صاحب المال والجاه قدوة وأسوة، فكيف كان البيت الذي سكنته العروس، وانتقلت إليه، وجعلته قاعدتها في حياتها الزوجية؟.
ولعل المتبادر إلى ذهن من لا يعرف شيئًا عن حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وحجراته يتوقع أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أسكن عروسه البكر بيتًا -على الأقل- كسائر بيوتات المدينة، لما لها من مكانة عند الله وعند الناس، ولكن الواقع يخبر أن البيت الذي سكنته العروس عائشة هو عبارة عن حجرة ملاصقة لمسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-، بعضها مبني من الجريد والطين، وبعضها من حجارة مرصوصة فوق بعض، ولها مصراع واحد من عرعر أو ساج، وعُرفت هذه الحجرة المباركة بمهبط الوحي، لكثرة نزول الوحي فيها على النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى ولو كان في لحاف مع عائشة.
وأما أثاث حجرة العروس ففراش من أدم حشوه ليف، ليس بينه وبين الأرض إلا الحصير، لقد كانت هذه الحجرة ببنائها البسيط، وأثاثها المتواضع، تحكي حكاية صادقة عن أخبار صاحبها وعروسه، فالسكن الذي يمثل العنصر المهم في حياة الإنسان المعيشية، واستقراره وسعادته، إنما هو السكن النفسي، هكذا هي الحكاية، حكاية ارتباط قلبين، واجتماع إنسانين، إنها الرواية لروعة الحياة وجمالها، دون تفاصيل مملة، رواية البساطة والزهد والقناعة، بعيداً عن التعقيدات الحياتية، والزخارف المادية التي أفسدت النفس البشرية.
لقد كانت تلك الحجرة المتواضعة ماثلة أمام الأعين للعبرة والعظة، حتى ضاق المسجد النبوي بالمصلين، فجاء أمر خليفة الوقت الوليد بن عبد الملك الأموي إلى واليه بالمدينة آنذاك عمر بن عبد العزيز بأن يهدم حجرات النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويدخلها في توسعة المسجد. عن رجاء بن حيوه قال: كتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز، وكان قد اشترى الحجرات: أن اهدمها، ووسع بها المسجد. فقعد عمر في ناحية، ثم أمر بهدمها، فما رأيت أكثر باكياً مني يومئذ. ثم بناها كما أراد.
وعن عطاء الخراساني قال: أدركت حجرات أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- من جريد على أبوابها المسوح، من شعر أسود، فحضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يُقرأ، يأمر بإدخال حجرات أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- ، فما رأيت يومًا كان أكثر باكياً من ذلك اليوم. قال عطاء: فسمعت سعيد بن المسيب يقول: والله لوددت أنهم تركوها على حالها. ويبدو -والله أعلم- أن سبب بكاء المسلمين مع محبتهم للحبيب -صلى الله عليه وسلم- وآثاره، هو أن لهذه الحجرات أكبر تأثير لمن يراها فيتعظ بها، ويقف بنفسه على طرف من حياة سيد البشر، وما كان عليه من زهد حقيقي في الدنيا، مع أنه سيد الثقلين، وخليل رب العالمين، وكانت الدنيا طوع بنانه، إلا أنه مع كل هذا آثر ما عند الله على متاع الحياة الدنيا، ورسم الطريق للزهد: "مالي وللدنيا! إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة في يوم صائف، ثم راح وتركها".
وهكذا أيضاً رضيت العروس أن تعيش مع زوجها بهذا المنهج رغم صغر سنها وغنى أبيها وأهلها، ولعل هذا من السر والحكمة وراء بروز وكسب حب النبي -صلى الله عليه وسلم- لها، فمن المعلوم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- معصوم عن الهوى بإجماع الأمة، وأنه لا يحب إلا طيبا، إنما السر في تبوُّء عائشة تلك المكانة الرفيعة في البيت النبوي، واستطاعتها، رغم صغر سنها وقلة خبرتها، أن تبز أزواج النبي الثمانية الأخريات، وأن تسبقهن في إدارة الحياة الزوجية، وبنجاح مبهر، بل والسبق لكسب قلب الزوج، هو قناعتها، وزهدها، ودماثة خلقها، وحسن عشرتها، وتعاملها الراقي، وعلاقتها الحميمية بزوجها؛ بل وأداؤها المتميز لمسئوليتها ومتطلبات الحياة الزوجية، هذا من جانب الزوجة.
وأما الزوج الكريم النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد قابل الحب بالحب، والأخلاق بالأخلاق، فكان مثاليًّا في معاملتها، نظرا لما وجده منها، وأيضاً لصغر سنها، وتقديرا لمرحلتها العمرية، فوجدت عائشة في بيت النبوة وفي كنف نبي الأمة -صلى الله عليه وسلم- كل حب وترحاب، وقوبلت بكل عطف وحنان، إلى درجة أغناها عن عطف وحنان أبويها، وكأنها لم تغادر دار أهلها إلى دار رجل أجنبي عنها، فقد كان دفء العلاقة بينهما يذيب أي سوء تفاهم قد يحدث، فرغم فارق السن الكبير بينهما إلا أنها لم تشعر يوما بهذا أبدًا، ولم تلق أي جفاء وقسوة، وكان كثيرا ما ينزل إلى مستواها في التفكير، ويعايش عالمها وطفولتها مراعاة لحالها وسنها، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- لا يألو جهدًا في الترفيه عنها بما يدخل عليها السرور، فكانت عائشة تلعب بالبنات -أي العرائس- عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيته، تماما كما كانت تفعل في بيت أبيها.
وكان لها صواحب يلعبن معها في بيت الزوجية، وكان إذا دخل ووجد صواحبها معها يقول لهن: "مكانكنَّ!" حتى لا يخجلن، أما إذا خرجن استحياء منه، يخرج وراءهن، فيُسَرِّبُهُنَّ إلى عائشة ليلعبن معها؛ وأما إذا لم تجد أطفالاً تلعب معهن، فكان يلاعبها بنفسه، جاء في الصحيحين عنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ: وَكَانَتْ تَأْتِينِى صَوَاحِبِى (أي جواري صغيرات من أقرانها في السن) فَكُنَّ يَنْقَمِعْنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- (أي يدخلن البيت ويستترن منه) قَالَتْ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُسَرِّبُهُنَّ إِلَىَّ (أي يرسلهن واحدة بعد أخرى) حتى تلعب معهن.
وذات مرة دخل عليها -صلى الله عليه وسلم- ، وهي تلعب بالبنات – أي باللُّعَب-فَقَالَ: (مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟). قالت: خَيْلُ سُلَيْمَانَ، وَلَهَا أَجْنِحَةٌ. فَضَحِكَ -صلى الله عليه وسلم- . يا الله! ما أعظمك وأحلمك يا رسول الله! فلم يقتصر الأمر على مجرد السماح باللعب، بل كان يساعدها ويعينها، فهل هناك لطف ومسامحة بعد هذا؟! وأحسَنُ مِنْكَ لَمْ تَرَ قَطُّ عَيْنِي *** وأجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النِّسَاءُ خُلِقتَ مُبَرَّأً مِن كُلِّ عَيْبٍ *** كأنَّكَ قَدْ خُلِقْتَ كَمَا تَشَاءُ
هل تصدقون؟! لقد كان أبو بكر نفسه يتعجب من أمر عائشة، ويستغرب كيف تلهو عائشة وتلعب في بيت زوجها؟ وكيف تفعل ذلك كله في بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي يأتيه الوحي صباح مساء! فذات مرة دخل أبو بكر-رضي الله عنه- بيت عائشة، وكان ذلك في أحد أيام عيد الأضحى، فوجد عندها قينتين -أي جَارِيَتينِ- مِنْ جَوَارِي الأَنْصَارِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتِ الأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثٍ، قَالَتْ عائشة: وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنٍ لصغرهما، وإنما تُغَنِّيَانِ وَتُدَفِّفَانِ وَتَضْرِبَانِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ-رضي الله عنه- : أَبِمَزْمُورِ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؟ وَذَلِكَ يَوْمُ عِيدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "دعهن يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا".
هكذا كان -بأبي هو وأمي- مع عروسه عائشة الْجَارِيَةِ الْعَرِبَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ، يقدر لها قدرها وسنها، ويعاملها بكل رفق ولطف ولين، فهكذا أيها المؤمنون فلسفة التربية والتعامل عند رسول الأمة، كما وصفه ربه، ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران:159]، فاستعمال اللين واللطف، والشفقة والرحمة، والرفق في التعامل، هو أصل الأصول في حياته -صلى الله عليه وسلم، فلا يلجأ إلى العنف إلا في حالات نادرة يقتضيها الحال والمقام، "إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَىءٍ إِلاَّ زَانَهُ وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَىْءٍ إِلاَّ شَانَهُ"، "اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِى عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِى عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لاَ يُعْطِى عَلَى مَا سِوَاهُ".
عباد الله! إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى أن عائشة حديثة السن، وأنها حريصة على الأخذ بأسباب اللهو البريء، فساعدها في هذا، وحرص -صلى الله عليه وسلم- وهو الرقيق القلب على أن يعطف عليها كل العطف حتى لا تشعر بغربة الحياة الجديدة، ومسئوليات الزواج والبيت، فهكذا كانت سنة أولى زواج في حياة عائشة -رضي الله عنها-، فلم تأخذ الحياة بجفاء وشدة، فتنظر إليها بعين البغض والكراهية، بل شيئًا فشيئًا، وهكذا أيضاً كان زوجها -صلى الله عليه وسلم- أخذ يتدرج بها حتى اكتمل نموها، ونضجت شخصيتها، وأصبحت شابة يافعة مجربة، تُلقن العلم، وتُجيب السائلين، وتُوجه المتعلمين.
وقد أتت هذه السياسة النبوية الرشيدة أكلها في حق عائشة، وصنعت بفضل الله من هذه الفتاة الصغيرة أعلم امرأة في الأمة، فبعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- كانت هي المرجع الأساس فيما يتعلق بسنن وأمور الحياة الزوجية، فقد نجح -صلى الله عليه وسلم- بسياسته الحكيمة التي اتبعها معها في السنوات الأولى، والتي جذبت عائشة إلى حبه والثقة به، والاستماع إلى توجيهاته.
ومما روته السيدة عائشة عن نفسها تصف تقدير الرسول -صلى الله عليه وسلم- لصغر سنها، وحرصه على تعهدها بما يسرها في هذه الفترة الأولى من الزواج، فعن عائشةَ -رضي الله تعالى عنها- أنَّها قالت: "دعاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والحبشة يلعبون بحرابهم في المسجد في يوم العيد، فقال لي: ياحميراء! أتحبين أن تنظري إليهم؟ فقلت: نعم، فأقامني وراءه، فطأطأ لي منكبيه لأنظر إليهم، فوضعت ذقني على عاتقه، وأسندت وجهي إلى خده، فنظرت من فوق منكبيه (وفي رواية بين أذنه وعاتقه) وهو يقول: دونَكم يا بني أرفدة! فجعل يقول: يا عائشة! ما شبعت؟ فأقول: لا؛ لأنظر منزلتي عنده، حتى شبعت. قالت: ومن قولهم يومئذ: أبا القاسم طيبا، وفي رواية: "حتى إذا مللت قال: حسبك؟ قلت: نعم، قال: فاذهبي" وفي أخرى: "قلت: لا تعجل، فقام لي، ثم قال: حسبك؟ قلت: لا تعجل، ولقد رأيته يراوح بين قدميه، قالت: وما بي حب النظر إليهم، ولكن أحببت أن يبلغ النساءَ مقامُه لي، ومكاني منه، وأنا جارية، فاقدروا قدر الجارية العربة الحديثة السن، الحريصة على اللهو، قالت: فطلع عمر، فتفرق الناس عنها والصبيان، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: رأيت شياطين الإنس والجن فروا من عمر، قالت عائشة: قال -صلى الله عليه وسلم- يومئذ: لتعلم اليهود أن في ديننا فسحة.
هكذا هو الهدي النبوي الكريم، ومن هذا الموقف النبيل الذي يفوح عبقًا، وينشر عبير الحب والمودة بين الزوجين، يتبين لنا كيف كانت السنة الأولى لهذا الزواج المبارك أساساً متيناً، وقاعدة صلبة لرحلة سنين زوجية طويلة مليئة بالمصاعب والمتاعب، فلم تهزها الأعاصير والفتن والأحداث. إنها السنة الأولى للحياة الزوجية، متى قامت حقاً على القناعة والرضا، والمودة والرحمة، وعلى حسن الأخلاق ومكارمها.
نؤكد هذا ثم نسأل: أليس وراء كثير من حالات الطلاق والفراق اليوم هو قسوة الزوج وسوء معاملته لزوجته؟ أو قسوة الزوجة وسوء معاملتها لزوجها؟ إنها إشارة فيها ألف عبارة، والحر تكفيه الإشارة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
تم تحميل المحتوى من موقع 