عناصر الخطبة
الحمد لله مُنزل البركات، وناشر الخيرات، والجاعل في الطاعة الثمرات؛ وأشهد أن لا إله إلا الله القائل: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ﴾ [الأعراف:96].
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بيّن أسباب البركات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه الساعين لفعل الخيرات.
أما بعد: عباد الله، فاتقوا الله أيها الإخوة؛ فتقواه أعظم أسباب البركة، وثمرة الحياة والحركة.
أيها الإخوة الأوفياء، والآباء والأبناء: تقدم في خطبة ماضية وحلقة غابرة الحديث عن البركة وأهميتها وفضلها وشرفها، وفي هذه الخطبة، الحلقة الثانية: (التذكرة في أسباب البركة)، على جهة الاختصار والإيجاز، وليس الحصر لتلك الأسباب والإنجاز.
قد دلت النصوص من الكتاب والسُنة على أسباب شرعية جعلها الله أسبابًا جالبة للخير والبركة، وأخرى مانعة، وللبركة حاجبة، فدونكم الأسباب الموجبة للبركة التي يتطلع لها كل مسلم ومسلمة.
وأمنية الإنسان أن يُبارك الله له في كل زمان ومكان، وبوده أن يدفع ما يملك ويبيع ويشتري ما يُملك لأجل أن تكون حياته مباركة، وأعماله وأمواله مثمرة، وعياله وأوقاته عامرة.
والحمد الذي جعل الأسباب في السُنة والكتاب، فما علينا إلا العمل والنية والصواب، فدونك الأسباب.
فمنها، وهو أعظمها، بل لبها وأسها، وحياتها ورأسها، وغيرها مُنبثقٌ عنه، وهو السبب الأول: تقوى الله: فما اتقى اللهَ امرؤٌ في أي أمر من أموره إلا بارك الله له فيه وفي حياته، قال -تقدست أسماؤه-: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأعراف:96].
فبيّن أن التقوى، وهي فعل ما أمر الله، واجتناب ما نهى الله؛ سببٌ في فتح أبواب البركات، ونزول الخيرات، من السماء بالأمطار والرحمات، ومن الأرض بالنبات والثمار والعطيات. قال -عز وجل-: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) [الجن:16]، وقال -جل ذكره-: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ [المائدة:65]. فالاستقامة على الطاعة وترك المعصية والتفريق والإضاعة سببٌ للبركة والكرامة.
وإذا بحثت عن التقي وجدته *** رجلًا يُصدق قولهُ بفعال
وإذا اتقى اللهَ امرؤٌ وأطاعه *** فيداه بين مكارمٍ ومعالي
وعلى التقي إذا ترسخ في التقى *** تاجان: تاجُ سكينةٍ وجلال
ومن الأسباب: الإيمان بالله، كما في الآية الكريمة: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾ [الأعراف:96].
والإيمان يتضمن الإيمان بأركانه الستة وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره.
وتحقيق الإيمان بالزيادة والنقصان، فتُنقصه المعصية وتزيده الطاعة، إيمانٌ قد اختلط بالعِظام، وذاق القلب طعمه ولذته، وأُنسه وفرحته، فحجز الجوارح عن القبائح، وأسعدها بالطاعة والمنائح، إيمانٌ يحقق الخوف من الله، ورجاءه، ومحبته، ومحبة لقائه، ومراقبته.
وثالث الأسباب، أمة السُنة والكتاب: الدعاء، وهو مفتاح كل مطلوب، ومغلاق كل مرهوب، فالدعاء بالبركة سُنة نبوية، فاجعلها شعارك في كل دعوة، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا ما يسأل البركة لأصحابه، كما في دعائه لعروة البارقي وأنس -رضي الله عنهما-، وقوله لأنس: "اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته".
ولما جعل المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق وينقلون التراب على أكتافهم، وعلاهم الغبار، وهم يقولون: "نحن الذين بايعوا محمدًا، على الجهاد ما بقينا أبدًا". أجابهم -عليه الصلاة والسلام-: "اللهم لا خير إلا خير الآخرة، فبارك في الأنصار والمهاجرة".
ومن دعائه لأصحابه بالبركة: دعوته لجرير بن عبد الله، وجابر بن عبد الله، والسائب بن يزيد، وأبي هريرة، وغيرهم رضي الله عنهم.
ومن الدعاء بالبركة: الدعاء للمتزوجين، نقول لهما: "بارك الله لكما، وبارك عليكما، وجمع بينكما في خير"، أو: "بارك الله لك"، كلاهما صح عن رسول الله.
ومن دعائه: الدعاء للصغار، والتبريك عليهم، كما دعا -عليه الصلاة والسلام- لأبي طلحة، ولأبي موسى الأشعري في ولده، وعبد الله بن الزبير، وغيرهم، رضي الله عنهم.
ومن أوجه الدعاء بالبركة: ما علمنا -عليه الصلاة والسلام- إذا رأينا ما يُعجبنا: "إذا رأى أحدكم من أخيه أو من نفسه أو من ماله ما يُعجبه فليُبرّكه؛ فإن العين حق"؛ خصوصًا ما ينتشر -أيها الإخوة- الآن, مما بُلي به الناس في تصوير المأكولات والمشروبات والرحلات والمنتزهات والمساكن والجلسات وسائر الحركات، فلا ننسى ذكر الله والتبريك.
ولما رد النبي -صلى الله عليه وسلم- على الرجل ديّنه قال له: "بارك الله لك في أهلك ومالك". وشرع لنا نبينا أن ندعو بالبركة في طعامنا وشرابنا فنقول: "اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرًا منه".
وعلمنا أن ندعو لمَن أطعمنا فنقول له: "اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم، وارحمهم". وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا أوتي بأول الثمر قال: "اللهم بارك لنا في مدينتنا، وفي ثمارنا، وفي مُدّنا، وفي صاعنا، بركةً مع بركة" رواه مسلم. وفي الدعاء المأثور: "وبارك لنا فيما أعطيت". وهذا منهج الأنبياء، فإبراهيم دعا لابنه وزوجه بالبركة: "اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم". ولما كان في غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة شديدة فدعا وبارك وقال: "خذوا في أوعيتكم"، بارك لهم فشبعوا وملؤوا الأوعية. هكذا تنوعت الأدعية بالبركة في حالات متعددة.
ألا فليكن لنا حظٌ في دعائنا لنا بالبركة في أولادنا وأزواجنا وأموالنا وذرياتنا وأعمارنا وأوقاتنا ودعواتنا وعلومنا وتعلمنا ومجالسنا ومُجالسينا ومراكبنا ومنازلنا، وفي جميع ما أعطانا ربنا، شعارنا: "اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا".
ومن أسباب البركة: أخذ المال من طرقه المشروعة، وأبوابه الموضوعة، سواء كان الإنسان موظفًا حكوميًا، أو تاجرًا، أو عاملًا، أو أجيرًا، أو فاتحًا محلًا تجاريًا، بائعًا أو مُشتريا.
فمن أسباب البركة: الصدق في العمل، وأداء العمل على الوجه الأكمل، وإتقانه على ما يُراد، وما عاقد عليه المرء في العمل. في الصحيحين: "فمَن يأخذ مالًا بحقه يُبارك له فيه، ومَن يأخذه بغير حقه فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع".
رأيت حلال المال خير مغبة *** وأجدر أن يبقى على الحدثان
وإياك والمال الحرام فإنه *** وبال إذا ما قُدِّم الكفنان
والخامس: وفقك الله أيها المستمع والجالس، أخذ المال بسخاوة نفس من غير شرهٍ ولا طمع ولا شحٍ ولا بخل ولا إلحاح في المسألة؛ في الصحيحين، حديث حكيم بن حزام: سألت رسول الله فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: "يا حكيم، إن هذا المال خضرة حلوة، فمَن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومَن أخذه بإسراف نفس لم يُبارك له فيه؛ كالذي يأكل ولا يشبع"، فمَن أخذ المال وطلبه في مظانه، برضا وقناعة، بارك الله له في عمله أو وظيفته أو تجارته أو جُعلِه.
ومن هذا: إنفاقه في وجوهه المشروعة؛ بطيب نفس وسخاء، وأداء الزكاة بإخلاص ونقاء، دون منٍّ وازدراء وأذى.
إذا جادت الدنيا عليك فجُدْ بها *** على الناس طرًا إنها تتقلّب
فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت ***ولا البخل يبقيها إذا هي تذهب
فسخاء النفس في المال في طلبه من حِله، بوقار وسكينة في أخذه، والسخاء في بذله وإعطائه، والتصدق به وإنفاقه.
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبيّ بعده.
وسادس الأسباب، يا أولي الألباب: الصدق في المعاملة في البيع والشراء والتجارة والمشاركة، روى الشيخان: "البيّعان بالخيار، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما مُحيت بركة بيعهما"؛ فالبيان والإيضاح، وإظهار ما في السلع من العيوب، وعدم كتمانها، سببٌ لبركة المال ونمائه، وإن كان المكسب قليلًا، والربح ضئيلًا، إلا أن البركة تحل فيه، وتزيده حسًا ومعنى.
فاصدقوا أيها التجار والعقاريون والمستثمرون، ويا أيها البائعون في الأسواق والكماليات والمناقصات والعهود والعقود والمعاهدات، والفاكهة والخضار، والسيارات والتجارة والتجارات والعقار؛ عليكم بالصدق والأمانة، والبيان والتوضيح.
ومن الأسباب: التبكير في قضاء الأعمال والتجارة، وطلب العلم والصلة والزيارة، فعند أحمد في مسنده حديث صخر الغامدي -رضي الله عنه-: "اللهم بارك لأمتي في بكورها"، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا بعث بعثًا بعثه أول النهار، وكان صخرٌ رجلًا تاجرًا؛ وكان يبعث غلمانه أول النهار؛ فكثر ماله، وهذا شيء محسوس؛ فمَن استثمر أول النهار في تجارة أو علم أو صلة أو عبادة أو ذكر أو قراءة أو قضاء عمل؛ فإنه يلمس ذلك بركة محسوسة، ومَن فاته وقت التبكير أحس بفقدان ذلك وخسارة يومه.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "ومن المكروه عندهم -أي: الصالحين- النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس؛ فإنه وقت غنيمة، ولسير ذلك عند السالكين مزية عظيمة؛ فإنه أول النهار ومفتاحه، ووقت نزول الأرزاق، وحصول القسم، وحلول البركة، ومنه ينشأ النهار، وينسحب حكم جميعه على حكم تلك الحصة، فينبغي أن يكون نومها كنومة المضطر" اهـ.
قال العجلوني -رحمه الله-: العقل بكرة النهار، أكمل منه، وأحسن تصرفًا منه في آخره، ومن ثم ينبغي التبكير لطلب العلم ونحوه من المهمات؛ فبادر وبكّر واحرص واجتهد واذكر واسع وابذل واستثمر.
ومن الأسباب: اتباع السُنة في آداب الطعام والشراب، مثل: الاجتماع على الطعام، والتسمية قبل الأكل، ففي الحديث: "فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله؛ يُبارك لكم فيه". وكلما كثر الجمع زادت البركة، فاجتمعوا على طعامكم، خصوصًا في بيوتكم مع أزواجكم وأولادكم، تكثر بركاتكم وخيراتكم.
ومنها: الأكل من حافتي الطعام وترك الأكل من وسطه. روى الترمذي وصححه: "البركة تنزل وسط الطعام، فكلوا من حافتيه، ولا تأكلوا من وسطه"، وفي الصحيح: "كُلْ مِمّا يليك".
ومن آداب الطعام: لعق الأصابع والصحفة والإناء، تحل البركة والهناء، ففي مسلم، عنه -عليه الصلاة والسلام-: "إذا أكل أحدكم فليلعق أصابعه؛ فإنه لا يدري في أيتهنَّ البركة"، وفي لفظ آخر: "إذا سقطت لقمة أحدكم فليُمط عنها الأذى وليأكلها؛ فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة". فلا يدري الإنسان في بركة طعامه، في أوله أو وسطه أو آخره، أو لقمة ساقطة، أو قطعة عالقة، أو ما على الصحون والقصعة، هذه هي السُنة والبركة؛ خلافًا لأهل الكبر والفخر والخيلاء، المتأثرين بعادات أهل الكفر والعِدا، يأنفون من لعق الأصابع، وأكل ما تبقى من الطعام على السُفر.
ومنها: ترك الطعام حتى تذهب حرارته؛ كما عند أحمد في مسنده؛ فلا يشرب أو يأكل شيئًا حارًا يضرّ به ويؤذيه.
ومن الأسباب: استخارة الله في الأمور كلها؛ مع الإيمان بأن الله يختار له الأصلح والأنفع والأنجح، كما في حديث الاستخارة.
ومن الأسباب: أن يرضى المؤمن بما قسم الله له من رزق؛ ففي الحديث: "إن الله يبتلي عبده بما أعطاه؛ فمَن رضي بما قسم الله له؛ بارك الله له فيه ووسعه، ومَن لم يرض لم يُبارك له"، فاقنع بما أعطاك، وارض بما قسم الله لك؛ يُبارك لك.
إن القناعة من يحلل بساحتها ***لم يلق في ظلها همًا يؤرقه
والحادي عشر: وهو آخرها أيها المعشر: العدل والإنصاف، كما ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما ذكر في نزول عيسى في آخر الزمان، وما يحصل من البركة في الثمار والأموال؛ فيومئذٍ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها؛ واللقحة من الإبل والبقر والغنم لَتَكفي الفِئام من الناس عند انتشار العدل.
وقد ذكر أحمد في مسنده أنه وجِد في خزائن بعض بني أمية صرة فيها حنطة أمثال نوى التمر مكتوبٌ عليها: (هذا كان ينبت زمن العدل). فاعدلوا في أحوالكم ودنياكم وأموالكم وأولادكم وعمالكم، ومَن تحت أيديكم؛ يُبارك لكم.
وبعض الناس يظن أن العدل للمسؤول والأمير فقط! نعم، هو له أولى، وبه أحرى، لكن -أيضًا- أنت في عملك وبيتك وولدك وعمالك وأمام زوجاتك، وكل ما كان تحت يدك؛ يجب في ذلك العدل وعدم الظلم، عليك بالعدل.
عليك بالعدل إن ولِّيت مملكةً *** واحذر من الجورِ فيها غاية الحذر
فالعدل يُبقيه أنى احتل من بلدٍ *** والجور يُفنيه في بدو وفي حضر
هذا وأسأل الله العظيم، رب العرش العظيم، أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، وأن يجعلني وإياكم من أنصار دينه وشرعة.
والله أعلم.