عناصر الخطبة
أما بعد: فإن من حكمة الله سبحانه ورحمته بعبادته أن شرع لهم من الشرائع ما تنعم به حياتهم، وتسمو به حضارتهم، ويحيون الحياة الطيبة الكريمة، ومن هذه الشرائع العظيمة والأحكام القويمة شريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تلك الشريعة التي رفع الله مقامها ومقام القائمين عليها، وذلك لما لها من المكانة الرفيعة بين باقي الشرائع، حيث ببقائها يبقى الدين وتعلو الملة وتسود القيم الربانية.
فمن إعلائه سبحانه لمقام هذه الشعيرة: قوله -جل وعلا-: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110]، فجعلنا الله خير الأمم، لماذا؟! لأمرين اثنين: لأننا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ونؤمن بالله.
ومن إعلائه سبحانه لمقام القائمين عليها، قوله -تبارك اسمه-: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104]، فذكر الله أن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هم المفلحون، وأكد اسم الإشارة بالضمير، فقال سبحانه: ﴿وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾ تأكيدًا لهذا المعنى، وأنهم أحق الناس بالفلاح، والفلاح وصف جامع لخيري الدنيا والآخرة.
ولذا كان لزامًا علينا أن نعرف مقامَ حراسِ الفضيلة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ونرفعَ مكانتَهم، ونعليَ شأنهم، وأخصّ بالذكر منهم الرجالَ العاملين في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهم -إن شاء الله- رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، بقيامهم بهذا المجهود العظيم في التصدي لأسباب فساد المجتمع، من السحر والشعوذة، والمسكرات والمخدرات، وابتزاز الفتيات والعبث بأعراضهن، وسقوط الشباب في مهاوي الرذيلةِ والانحراف، هذا المجهود الذي تُثبته الوقائع بإسناد صحيح، ويشهد به التاريخ، ويجب أن يخلّد في ذاكرة الأمة.
تصدت الهيئة لأمور عظام، لو تمكّنت في المجتمع لأدت إلى فشو الأمراض الرهيبة في العقول والأبدان، ولأدت إلى الانهيار الأسري والهزيمة النفسية والفشل التعليمي والاقتصادي، قامت الهيئة بذلك باحتساب رجالها مع الصدق والإخلاص لا لمجرد العمل الوظيفي، هكذا نحسبهم والله حسيبهم، ولا نزكي على الله أحدًا.
أقِلُّـوا عليهـم لا أبًـا لأبيكمُ *** من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
وأقرأ لكم بعضَ عناوينِ ما يصدر في الصحفِ من أخبارِ جهود رجال الهيئة، لنعرف شيئًا من الجهد الذي يقوم به هؤلاء الأسود، ولا يخلو يوم من الأيام من ذكر هذه الأخبار، ولذا فسأذكر هنا أمثلة فقط وأكتفي بالعناوين.
تقول الصحف: هيئة الأمر بالمدينة تقبض على شاب ابتز فتاة وأعادت لها صورها وعشرين ألف ريال كان قد ابتزها منها، هيئة الأمر بالرياض تُنهي مأساة فتاة تعرضت للابتزاز ستة أشهر، تمكن أعضاء الهيئة من القبض على شاب ابتز فتاة لمدة أربعةَ عشر عامًا بصور لها دفعت خلالها ما يتجاوز ثمانمائةَ ألفِ ريال، تمكن أعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنطقة نجران من القبض على ساحر قام بسحر شاب، ومن ثمّ قام باستنـزاف ما لديه من أموال طيلة عشرةِ أشهرٍ بحجة علاجه، هيئة الأمر بالمعروف تقبض على خادمة تحاول سِحر كفيلِها وزوجتِه، هيئة الطائف تداهم مصنعًا للخمور، هيئة الأمر بالمعروف تداهم وكرًا لترويج المسكر… إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.
وإن أعظم ما يُذكر للهيئة -مع أن جميع أعمالها ولله الحمد جديرة بالذكر- وضعُها آليةً لمساعدة النساء اللواتي وقعن ضحيةً للابتزاز من قبل الشباب، عن طريق الصور أو مقاطع الفيديو أو تسجيل المكالمات الهاتفية، وذلك من خلال مشاركة الهيئة في الإيقاع بالمبتزين بطرق سرية بعيدًا عن الآباء والأزواج، وذلك لتشجيع النساء على اللجوء للجهات الرسمية والخروج من هذه البؤرة بعيدًا عن الفضيحة والتشهير، وهذا إن دلّ فإنما يدل على وعي وفهم مستنير من الرجال القائمين على هذا الجهاز الخطير، وبُعد في النظر، وتقدير للأمور.
ومع هذا كلِّه هناك من يتجرأ ويتتبع هفوات الهيئة، ويضخمها ويتخذها سلاحًا يضرب به هذا الجهازَ العظيم الذي قامت الدولة مشكورة بإنشائه ودعمه، وإن لم يجد هفوة ولم يقف على زلة أسعفه عقله باختلاق فرية، مُصدقًا بذلك قول القائل:
وأجرأ من رأيتُ بظهر غيب *** على عيب الرجال ذوو العيوب
وللأسف فينا من هم سماعون لهم، نتلقف هذه الفرية ونتندر بها في المجالس، ولو سألتَ أحدنا: من أين لك هذا؟! لأحالك إلى إذاعة "يقولون"، التي لا تكاد تصدق بخبر، ونسينا أن الله أمرنا في هذه الحالة بالرجوع إلى المصادر الموثوقة وإلى ولاة الأمر للتثبت مما يقال، يقول تعالى في صفات المنافقين: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [النساء: 83].
ولا يدعي رجال الهيئة أنفسُهم -فضلاً عن غيرهم- أن جهاز الهيئة كامل لا نقص فيه بوجه من الوجوه، بل أي عمل بشري لا يخلو من نقص أو خلل، ولا تخلو أيُّة مؤسسة حكومية أو أهلية من عثرة أو خطأ، وهذه سنة الله في الكون حتى نعلمَ أن الكمال المطلق لمن أمرُه بين الكاف والنون.
وهناك مَن أخطاؤهم تنغمر في بحر حسناتهم، فلو نظرنا إلى الأخطاء التي تقع من بعض أفراد الهيئة، مقابلَ القضايا التي تمكنوا من إنهائها بشكل نظامي وكانت في مصلحة المجتمع، والتي تصل إلى أربعمائة ألف حالة سنويًّا حسب التقارير الرسمية، لوجدنا أنَّ هذه الأخطاءَ ليست إلا قليلة جدًّا من أقل القليل بالنسبة لإنجازاتهم، وهذا كلُّه بناءً على إحصائيات دقيقة لا داعي للإطالة بذكرها.
ومع هذا فإن إدارات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تقوم بجهد عظيم للرقي بمستوى أفرادها من خلال الدورات التدريبية وورش العمل، والتواصل مع كافة أطياف المجتمع، وتقبل النقد البناء ومعالجة النقص، ما جعل رجالَها -بحمد الله- في رقي مستمر وأداء متميز.
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم *** مثل النجوم التي يسري بها الساري
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً(24)﴾ [الأحزاب: 23، 24].
وأسأل الله الكريم أن يهدينا ويهدي بنا، ويجعلنا هداة مهتدين، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، إنه جواد كريم.
أما بعد:
فإن مجتمعنا -بحمد الله- مجتمعٌ مستنيرٌ متمسك بقيمه ومبادئه، يعلم أهمية هذا الجهازِ وقيمته، وما هذه الصيحات التي تقلل من شأن الهيئة ورجالها إلا أصواتٌ قليلة شاذة لا تمثل المجتمع، ولكن للأسف صوتها عالٍ أحيانًا.
فقد قام مركز الملك عبد الله للبحوث والدراسات بجامعة الملك سعود بدراسة، كانت نتيجتها أن واحدًا وتسعين بالمائة من أفراد المجتمع السعودي يرغبون في وجود أعضاء الهيئة في الأماكن العامة والأسواق.
وقد كشفت دراسة حديثة أيضًا قامت بها إحدى الجامعات السعودية في محافظة جدة، أن ستةً وتسعين بالمائة من سكان محافظة جدة مؤيدين لاستمرار عمل الهيئة.
ولا أنسى في هذا المقام أن أتقدم باسم أمة الإسلام بالشكر لأصحاب الأقلام النظيفة في الصحف والمجلات، ولأصحاب الأفواه العطرة في المجالس والمنتديات، والذين يقومون برفع راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذب عن رجالها، ودحض الإشاعات المثارة عليها، ووضع الهيئة ورجالها في المكان الصحيح في غرة المجتمع وجبين الأمة، وأسأل الله أن يعينَهم يوفقهم ويسددهم ويحفظهم ويرعاهم.
وأوصيكم -عباد الله- بتقوى الله، ومحبة أهل الخير، كونوا معهم وفيهم.
هذا؛ وصلوا وسلموا على خير خلق الله، محمد بن عبد الله، كما أمركم بذلك الله، فقال -جل في علاه-: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].